نساء يجعلن من الحدائق متنفسا لكربهن وحلا لمشاكلهن



حياة البدري
2009 / 12 / 10

"وني وني" قبل أن يندلع الماء، عبارة قالتها امرأة في الستينيات من عمرها، ترتدي جلبابا أسود وتضع لثاما أسود على وجهها ، لامرأة تلاعب طفلتها الجميلة، ذات الضفائر الشقراء والعينان الزرقاوتين على أحد كراسي حديقة الأيسيسكو/حديقة مرضوخ، هذه الحديقة التي أصبحت متنزها مهما للعديد من الشرائح البشرية ومتنفسا اجتماعيا حيويا لكل من ضاقت به الأنفاس من النساء والرجال ومكانا لمن لا ملاذ له...
شابات يتجاذبن أطراف الحديث مع أصدقائهن، بعض كبار السن هنا وهناك يتأملون ويسترجعون الذكريات... رجال ونساء يمارسن الرياضة ونساء في مقتبل العمر مع أطفالهن، يمرحون ويركضون هنا وهناك وكأنهن فراشات فرحة بحلول موسم الاخضرار وتفتح الورود ...


خافت من غدر الزمن فتبنتها... فجارت عليها والزمن
التفتت أم الطفلة الشقراء، التي كانت تناديها بهبة الله- وفعلا إنها هبة ربانية تجب حمايتها من كل المخلوقات المريضة – نحو المرأة ذات الجلباب واللثام الأسود وعلامات الهلع ترتسم على محياها اتجاه هذه المرأة ... جلست امرأة الستينيات فوق كرسي الحديقة إلى جانب المرأة الشابة/أم هبة ، داعية لها بأن يصلح الله فتاتها ويباركها لها الله حتى لاتبخل عليها في أواخر العمر... وحتى لاتجد الصعوبات التي تلاقيها هي الآن ...فبعد كل المجهودات الجبارة التي قامت بها اتجاه ابنتها وبعد كل ماسهرته من ليالي على ابنتها التي لم تكن من صلبها ومن رحمها الذي كان يعاني العقم، معتبرة أن من تربي أكثرمن التي تلد... فبعد المعاناة الكثيرة من أجل ابنتها بالتبني وبعد التضحيات الكثيرة اتجاهها ...هاهي الآن أصبح لها أولاد وزوج يقطنون معها بالمنزل الذي تركه لها زوجها، وهي تتقاسم معها حتى المعاش رغم قلته ... لكن للأسف، فقد دار الزمن عليها وهاهي الآن ينظر إليها على أن دورها وصلاحيتها قد انتهيا... وينتظرون ذهابها إلى مثواها الأخير على أحر من الجمر..."فقد باتت ابنتي وزوجها وأبنائها يتقززون منها ولايريدون حتى الأكل معها " وكأن بها مرض معد رغم سلامتها ونظافتها ، فقد أصبح زوج ابنتها الذي ساعدته على حل أزمة الكراء التي كان يعاني منها... يريد طردها من ملكها/منزلها وإرسالها إلى دار العجزة! أو التعجيل بموتها ... لم تشعر المرأة إلا ودموعها السخية تنساب فوق لثامها الأسود...
لذا كانت السيدة "مليكة" ذات الجلباب واللثام الأسود تنصح كل أم صادفتها على أن "توني" أي أن تحفرجيدا جنبات القطع الأرضية وتجعلها على شكل أودية تنتفع بها الأرض بعد زوال الأمطار وذهابها، أن تربي طفلتها على الطاعة والاحترام والتعود على العطاء بدل الأخذ ثم الأخذ والأنانية وبعض الخصال الذميمة الأخرى التي يزرعها بعض الآباء دون قصد منهم ...فينقلب سحرالللاتربية على المربي ...
ولا توجد السيدة مليكة صاحبة اللثام الأسود من تعاني وحدها فهناك نساء ونساء يحكين بكل سخاء ...غير مكثرتين بما يدخل في حيز الأسرار والمسكوت عنه ...
المهم عندهن هوا لتنفيس عن الذات والتخلص من الهم والحزن الذي يخيم على صدورهن ويجعل منهن حاضرات غائبات نتيجة كثرة المشاكل وعدم التواصل...


من تربى على الأخذ فقط لن يكون مستعدا للعطاء مستقبلا
فهذا هوحال السيدة "عائشة" التي تطغى على حديثها لغة موليير والتي تنطقها بسلاسة وصحة في النطق، رغم سنها الذي يترواح مابين السبعينات والثمانينات...
ترتدي جلبابا ومنديلا من نفس اللون/ البيج ... تنفلت خصلات قصتها البيضاء رغم غطاء الرأس الذي تضعه... تذل سحنتها على الوقار والعز... تحلقت حولها مجموعة من الأمهات اللواتي صاحبن أطفالهن إلى القسم المخصص للعب الأطفال يتجاذبن أطراف الحديث معها ... تتحدث بلكنة فاسية، بهدوء وبصوت منخفض، تجامل هذه المرأة والأخرى وتسألهن كم من الأطفال لديهن ؟ فتطلب لهم بالتوفيق والبركة في أطفالهم وأن يكون أطفالهن في المستقبل بررة وصالحين وليس جاحدين لكل ماتقدمه أمهاتهم من تضحيات ونكران للذات... اتجهت نحو امرأة شابة أخبرتها على أنها أم لطفلين ذكرين، ناصحة إياها بعدم المزيد في الإنجاب والبحث عن الفتاة...لأن الكل أصبح سواء الذكر أوالأنثى والمهم هوالحفاظ على صحتها بالدرجة الأولى بدل تضييعها على الأولاد ومشاكلهم التي لاتنتهي...ففي تلك اللحظة أثناء الحديث عن الصحة والأبناء اعتلت وجهها حمرة ظاهرة للعيان وتغيرت أيضا نبرة صوتها وغصة البكاء تكاد تكشف حالتها النفسية... أخيرا قذفت كل ما يعتمل في صدرها من براكين الحزن والندم على شبابها الذي أضاعته بعد وفاة زوجها المبكرة ونركها وحدها بين أمواج الحياة العثية... وتضحياتها الكبيرة اتجاه أبنائها الأربعة وحتى على أحفادها الذين كانت تتكلف برعايتهم في غياب آباءهم بعد تقاعدها ... على الأبناء والأحفاد الذين خذلوها وخرجوا عن طوعها وكافئوها بعدم الإكثرات بها وبرأيها ووجهات نظرها ... حتى وإن تعلق الأمر بكراء دكاكين المنزل ... رغم كونها صاحبة المنزل الكبير المكون من ثلاث طوابق للسكن وطابق لمتاجر الكراء وهي المعيلة لكل أفراد الأسرة... رغم اشتغال ابنها وابنتها اللذان يقطنان معها... فقد أصبحوا يعتبرونها مجرد امرأة شاخت وأنها لاتواكب العصر وأن ذوقها أكل عليه الذهر وأصبح باليا ، يجب سحب بساط كل المسؤوليات من تحت قديميها ...فكم من امرة طالبتها ابنتها وابنها اللذان يقطنان معها بالتنازل لهما ولأبنائهما على كل حقوقها وممتلكاتها، لهما معا دون أخويهما المتواجدين في بلاد الغربة! بصوت مبحوح:" إنهما يريدانني أن يرثانني وأنا في الحياة"... رغم المناصب الجيدة التي يحتلونها معا سواء ابنتها وزوجها أو ابنها وزوجته!! إنهم لايشعرون ولايحسون بها، إنهما تقول: مجرد أنانيان تهمهم فقط مصالحهم وأطفالهم أما هي والإبنين الآخرين فلايهم...
قدمت لها النساء المتحلقات حولها النصح بعدم الإكثرات لطلباتهم المتزايدة ومواجهتهم... والانخراط في بعض الجمعيات والسفر والخروج كلما "ضاقت بها النفس" للتفريغ شيئا ما عن صدرها الذي ضاق ذرعا من طمع ابنيها معا...
آنذاك تنهدت المرأة وحمدت الله على تواجد أناس طيبون يساعدون ويفتحون صدورهم للآخرين... شكرتهم على الاهتمام بها وحسن الاستماع إليها ودعت عليهم بكل ماهو حميد... لهم ولأطفالهم ورحلت تتجاذب الحديث هي وامراة شابة تعرفت عليها بالحديقة وعرفت أنها ذاهبة نحو وجهتها .


خافت أن تشكل عبئا عليهما فتكيفت مع أجوائها
لالا خديجة، كما تنادي عليها زميلتها في رياضة المشي...امرأة متقاعدة، مواظبة على الرياضة، هي ومجموعة من النساء والرجال يصحبهم مدرب كل صباح تقريبا...يتبعونه في كل مايقوم به من حركات رياضية بعد المشي مدة 30دقيقة ثم معاودة المشيى...فالحركات...
فرغم كبر السن الذي كان يميز هذا الفريق من النساء والرجال، كانوا لايتخلفون عن الميعاد وعن هذه الرياضة التي ستعود على صحتهم بالنفع العام... وكانت لالا خديجة بينهم، مجتهدة ومواظبة لاتفلت حصة من حصصها رغم زيارة أحد ابنيها وسط الأسبوع، فقد كانت تفظل إتمام حصة الرياضة ثم العودة إلى ابنها الذي كان هو الآخر، لا يزورها حتى يسمح له برنامجه، فقد كان كل أفراد العائلة متفقين على هذا وكان الكل متفهم لطبيعة برنامج كل واحد وهي من ربت إبنيها على هذا منذ الصغر...فقد كانت لاتلوم أحد منهما إن تأخر في زيارتها ...فحتى بعد وفاة والدهما الذي اختطفه المرض الخبيث منها وتركها تعاني الوحدة والقنوط والسأم...هذه الحالات التي عانت منها مدة غير قصيرة، والتي سرعان ماتغلبت عليها بالمواجهة والمجابهة وعدم الاستسلام...فقد عملت على تنظيم وقتها وملء فراغها ، حيث انخرطت في العمل الجمعوي كما شاركت في مجموعات تهتم بالسفر والرحلات إلى جانب مجموعة الرياضة والقراءة ...ومنذ ذاك الوقت أعفت ابنيها من الحرج والقلق عليها ودعوتها كل مرة بالعيش مع أحدهما إما بالرباط أو السفر لدى الآخر باسبانيا، فقد عملت على الاستقرار بمنزلها وتتبادل الزيارة هي وابنها الذي يقطن بالرباط كل عطلة أسبوعية إضافة إلى التحدث معها يوميا، وزيارة الآخر لها القاطن باسبانيا في العطل الصيفية.
فهكذا استطاعت السيدة خديجة برمجة وقتها وإنقاذ نفسها من الغرق في برك الانتظار ،الملل ،القلق والتحسر على أبناء جد مشغولين بمشاكلهم اليومية ...
فكم من امرأة مغربية تبقى بعد الستينيات رهينة الزمن وصعابه ولياليه وساعاته ...واختلاف طبائع أجياله ...