ورقةٌ من غزّة



بثينة رفيع
2009 / 12 / 27

شقّتْ طريقَها من غيرِ هامشٍ أو متنٍ فحروفُها أضحَت خارجَ حدودِ الحياةِ والموتِ ..وأكبرَ من تفاصيل فقرٍ يُعرّش بين أزقةِ مخيّمٍ اجتازَ كلَّ أكوام الشّوق المكدّسِِ بدمعةِ حنينٍ تظلّلتْ بأكثرَ من ستين شتاءٍ فلسطينيٍ قاسٍ لم ينفصل يوماً عن وعي المقاومةِ , ورقةٌ مؤلمةٌ لكنّها عنوانُ مدينةٍ لا تكادُ تخلعُ ثوبَ الردى عن جسدها حتّى ترتديهِ ثانيةً , أرادت لها أرواح الشّهداء أن تُخطَّ بالدماءِ وحدها وألا تكونَ مجرَّد ورقة مُترفةٍ فهي ليست فصائلية مختلف على أصغر بنودها .. وليست كالورقة المصريةِ للمصالحةِ المتخمة حتّى حدّ القرف بالتعديل والتبديل باستحقاقاتها وكأننا في عطاء علنيٍ على مصالحةٍ طالَ أمدها.

ورقةٌ هي امتدادُ النبضِ بينَ معبرين لا يلتقيان إلا بمصادفةٍ سياسيةٍ كاذبةٍ وهي اللقاءُ المهشّم أمام سياجٍ قهر الرّجال وأبكاهم .. لا تُشبه إلا حروف الجرح الغائر وهو يشدّ على ألمٍ رفض استبدال هويّته ببطاقةِ تموين , كتبها يوماً الشهيد غسان كنفاني عن فتاةٍ من غزّة بترت ساقها ولا زالت تُكتب لغزة وحدها , ورقة تختصرُ عاماً من الحرب أدركنا فيهِ أن الوقت عند الظهيرة أصبح مُراً وقصةً مُستهلكة تلوكها الأغاني والسّاحات المكتظةِ بأٌناسٍ ألبسها الحصار وشظف العيشِ لغةَ البقاء .

سنة لم تزل ظلالها ثقيلة تضرب كالسّياط لكنّها رحلت ورحل معها أحبّة لنا كان وداعهم موجعاً أشرقوا من فجرٍ وحيدٍ غريبٍ عن جغرافيا الانقسام والحلول المنفردة , كانت كل صورهم خارطةً لفلسطين معلقة على جدار غرفةٍ متهالكٍ من زمن الهجرة الأولى .. لم يشهدوا وحدة هذا الوطن , حلموا برغيفِ خبزٍ ساخنٍ اجتازوا كل مسافات الخوف حتّى الموت لأجله , كان كل طعامهم مما تجود به عليهم وكالة الغوث , حلموا ببيت لا تستطع أن تدكّهُ الطائرات .. وبصلاةٍ ولو لمرةٍ واحدة بالمسجد الأقصى .. لم يعرفوا من الأعيادِ فرحتها ..لم يرتدوا جديد الثياب .. تركوا ما تبقى منها بالياً مُرتّقاً مع أحذية صغيرة امتلأت ببقايا لحمهم المُفتت وظلّت تلوح كالرّايات فوق ركام بيتٍ مُهدم , لم يسمعوا من الأغاني سوى فلسطين يا وجع العمر.. نثروا الورود على صدرها.. قبّلوا ثراها الحر .. منذ طفولتهم ، وخُطا القلب تشدهم لبيّاراتهم السليبة .. شربت أعينهم رائحةَ الليمون الأخضر ..واستراح بينَ أكفّهم رصاصُ الخلاص .. عاشوا فقراء لاجئين .. ورحلوا على ذلك .. تركوا دمع الحياة كُلّها في مآقينا وصوراً لهم بوجوهٍ مبتسمةٍ تذبحنا كلما ننظر إليها هنا كانوا صِغاراً يلعبون بالقلوب والسّكر يذكرون أسماء قراهم بشهدائها ثم يفترشونَ العراء في ليلةٍ باردةٍ سوّيت فيها بيوتهم بالأرض وهنا أنّوا من الظمأ بيومِ اجتياحٍ طويلٍ .. وهنا تركوا الواجب المدرسي وركضوا خلف جنازة عابرة , أشعلوا شموع العمر .. تركوها .. وغابوا برائحة الدم والياسمين البلديِ .

ورقة لا تُشبهُ سواهُم تمدّدت فوقها أجسادٌ صغيرة تنفّست هواء فلسطين لآخر مرةٍ واستراحت بمقبرة سجنٍ .. كبير ، لم يختاروا الوقت والزمن .. أو يختبئوا من قصفٍ .. توارى خلفهم كل حياء العرب ، شربوا لون الحنّون الأحمر استيقظوا مع صباح أشرق من مدرسة الفاخورة .. أطلت من أعينهم عصافير غردة وابتلّوا حتى الشفاهِ بطينِ هذه الأرض .

ورقة تعرف غزة كلّ شجونها خطّتها سطراً سطراً .. بدءاً بالخط الأحمرِ حتى ما بعدَ الخطِ الأخضرِ .. عصيّة على الطّي والاحتراق .. تكبر كل يوم تضيء كالقمر.. تدورُ أمامَ أعيننا.. تقف شامخةً لا ترتجف .. تترك ما تبقى من سطورها لوجوهٍ قادمةٍ أحبها الوطن .. شهداء يمتدون من بيت حانون حتى نابلس ينتثرون كالرمال على كل حاجز .. قاماتهم أعلى من جدارٍ فولاذيٍّ يسرق قوتَ أطفالهم .. أزهروا من كل ربيعٍ قادمٍ .. يحدقون بالنار والحديد .. يتلون البيان الأول .. ينفجرون ثم يغيبون في قمحها غابة من ذكريات .

ورقة لا تباع ولا تشترى .. خارج حلول المرحلة .. لا تعرف إلا طريقها .. واقفة كالأشجار النازفة .. تُسقط جميع الأوراق البالية لتبقى وحدها ورقة من غزّة .