رحيل



فاتن الجابري
2009 / 12 / 29


ليلة ليست مثل الليالي تقرفصت في فراشها ولسعات البرد تنخر عظامها لملمت اطراف الغطاء فوق جسدها المرتجف ، تهتز جدران الغرفة فجأة تهرول نحو الباب تتعثر بأجساد أطفالها النائمين بوداعة في ظلمة حالكة
ـ ياربي لقد عادوا ، رددت في هلع
أستجمعت قواها وأوقدت شمعة ، وفي الضوء الخافت هالها منظر صغارها، شحوب سحنتهم وذهولهم
ـ ماماهل عادوا ؟
أمرأة وحيدة غادرها رجالها كل الى دنياه أختار طريقه أوطريقه أختاره سيان ، كُتب عليها أن تودعهم واحدا تلو الاخر ، اصوات عنيفة دوي أنفجارات وأنفلاق لصواريخ تحيل معالم الجمال الى ركام ودخان ورماد ، ساعات وحقدهم لم يرتو بعد ، ماذا بقي في المدينة ؟ البنايات الضخمة التي تتوسط بغداد طُعنت بالصواريخ من كل الجهات وتشوهت معالمها الجميلة بفعل الحرائق سحب الدخان تغطي الفضاء ، النيران مشتعلة ، ولهيبها يحيل الليل الى نهار تحرقه شمس نيرانهم ، في تلك الليلة غادر القمر كبد السماء والنجوم توارت من فرط الحزن فصواريخهم الغبية لوثت بهاء السماء ، ودنست طهر الارض ، أسندت رأسها على جدار الغرفة الخاوية تماما من قطع الاثاث إلا من بعض الاغطية وسجادة قديمة كلحت ألوانها وتهرأت جوانبها...تناقصت موجودات بيتها رويدا رويدا كل قطعة اثاث مشروع للبيع يسد رمقها والصغار لبضعة أيام يتداعى أمامها شريط حياتها ، كم فقدت من أحبتها ، وكم بقي ، تنحدر دموعها سيولا تحفرعلى خديها أخاديد عميقة.
، فجأة أنفجار هائل مرعب يهتز كل شئ .. الجدران .. النوافذ شظايا الزجاج المتطاير تمليء المكان ، أصوات أرتطام مفزعة تمزق حياة الاشياء .. أحتضنت صغارها وقبعت في زاوية الغرفة ، وفي ساعات الفجر الاولى كانت رائحة البارود والدخان تتصاعدجراء حرائق الليلة الماضية من جنبات الحي الشعبي ، شاع الخبر بين الناس عن ذلك الصاروخ الذي سقط على بيوت الحي القديمة،وكالتي أصابها المس
هرولت ..أنه أخوها أرتدت عباءتها وأندفعت راكضة نحو دار أبيها .. الشوارع مظلمة لسريان حالة التعتيم خالية الا من رجال الجيش الشعبي المنتشرين في الطرقات وفي زوايا الشوارع أعترض طريقها أحدهم محذرا أياها من خطر القصف المتواصل واصلت سيرها غير مبالية لإصوات الأطلاقات ورشقات المقاومات الارضية فوق سطوح المدارس ، لم تتعرف على البيت فقد سقطت جدرانه الامامية والادخنة لازالت تتصاعد من نوافذ الغرف في الطابق العلوي .. تجمع الجيران أمام الييت قال أحدهم نُقلوا جميعهم الى المستشفى ، لمحت ألتماعات الدمعات تترقرق في عيون الرجال ثم أستقبلتها النسوة بالعويل والصراخ .... أغلقت باب الغرفة في ذلك المستشفى الموحش ، وعادت لم تجدهُ في سريره الذي تهرأ جسده من طول مرافقته ، تركض في ممرات المستشفى المظلمة الضيقة ، تقفز على درجات السلالم ، تلفح وجهها نسمات الهواء الباردة في الشوارع المزدحمة بوجوه الناس ، تفتش عن وجهه الباسم بين الجموع ، قالوا هناك تعافى ومضى يجوب شوارع بغداد بعكازيه الخشبيين اللذين لم يلمسهما قط ، ساقاه تملأهما الشظايا والجروح النازفة.تسمع صوته يتردد في وحشة المكان ، أه .. كم أشتقت للسير في تلك الازقة ، سأحيي الناس جميعا ... لا تتبعيني سأصل بمفردي .. أسترسل يتمتم أنها أصابة عابرة ، أريد أن أراها .. كانت تلك رغبته الاخيرة أذن .. على السرير ذي العجلات ، أتوا بها من الردهة النسائية طفلته الحلوة حملت أقداره ، نظر نحوها وغرق فى بكاء محموم .. تبادلا البكاء ... وكما تعود أن يمازحها
ـ أه يا أبنة .... في كل مكان تتبعينى
هذه أذن اخر الرغبات ياحبيبي ؟ رمت بجسدها داخل سيارة أجرة ، تتابعه بنظراتها من خلف الزجاج ، يحاول السير والعرق يتصبب من جبينه مخلفا آثاره على وجهه المتعب المتغضن بسحنة صفراء مخيفة ، لم تكن صفرة الاموات أبدا ! السيارة أجتازته ، ضربت الاشارات الضوئية وعبرت الجسور المقصوفة ، الى أين يمضون بهذا النعش ؟ أنتصف الليل على عزف أوتار الانين الدامي ، تفزعها بركة الدم الهائلة في وسط الدار .. كم نزف ؟ تصرخ في الغرف الموحشة والمحترقة
ـ قتلوه ... قتلوه !
أتكون أحلامه الصغيرة ضد قوانينهم وحقوق الانسان عندهم أويكون بيته المتواضع هدف حيوي لصواريخهم الذكية ؟ مع دبيب الحياة في البيوت أنتفضت وألقت روحها قبل قدميها وسط الشوارع ، أنه يحتضر لامحالة صوته الواهن يمزق أذنيها
ـ أخرجوني الكوابيس ترعبني ،أنها السيارة ذاتها تتبعني لاأستطيع السير
بدت الشوارع ممتدة جدا مترامية الاطراف متعرجة كمتاهات ليس لها نهاية ،المستشفى القديم القابع في الجانب الشرقي البعيد من المدينة قد أزداد ظلمة وكأبة بغرفه القذرة وجدرانه المتسخة وثمة قطط تعبث سعيدة بأكياس الفضلات المبعثرة ، ممرات المستشفى أنفاق مخيفة ، السلالم تزداد علوا وأرتفاعا ، عيناه تحتضران ... يحلق عاليا .. يرفرف يعانق صغاره يطلب ورقة وقلما ، تخذله أصابعه الواهنة يتركها بيضاء ... يردد اللحن الذي أحبه ، ويودع جمرات أنكسارات عمره القصير في زمنه الملعون في غرفة باردة لاتزيد عن مترين ، على باب الغرفة كتبوا ذهب الجريح يتنزه في شوارع المدينة محلقا فوق عكازيه.