في الذكرى 150 لميلاده ...انطون تشيخوف الكاتب الأنساني العظيم



بلقيس الربيعي
2010 / 1 / 14

ا

الجزء الثاني



بقلم : جيورجي بيردينكوف
ترجمة : بلقيس الربيعي

لم يحاول تشيخوف فرض آرائه على القارئ ، بيد أن هذا لايعني من أنه لايمتلك آراءاً خاصة عن الأحداث التي يصفها أو أنه يعتبر جميع أبطاله جديرين بالثناء على حد سواء... ففي عام 1890 كتب تشيخوف الى الناقد الذي هاجم قصته ( سارقي الخيول ) قائلأ: " انت تعنفني بسبب موضوعيتي ، واصفا إياها باللامبالاة اتجاه الخير والشر ، وغياب المثل والأفكار وهلمجرا... تريد مني أن أصف سرقة الخيول بأنها أمر سِئ ، لكن هذا معروف دون أن أقوله ... فحين أكتب ، أعتمد على قارئي ليقوم هو بتعويض العناصر الذاتية المفقودة " ويضيف قائلأ : " عليك أن تعرف بأن سارقي الخيول هم ناس أثرياء وليسوا فقراء ، اناس يعتبرون سرقة الخيول هواية لهم وليست عملية سرقة "


إن تعليق تشيخوف بأن سارقي الخيول " ليسوا فقراء بل أثرياء " لايمكن أن يؤخذ به بالطبع كتبرير لإفعال هولاء الناس ، بل على العكس فهو بذلك يقود القارئ بعيدا عن الظروف الممكنة التي تشكل ارضية لمثل هذه الحالات كاليأس والفقر والجوع .

الموضوعية لاتعني على الإطلاق عدم إمكانية تخمين الحقائق ... فالمفاهيم الجديدة التي جاء بها تشيخوف تنطوي على تخمين تاريخي للحقائق وقدرة على التمييز بين الدائم والضروري من الزائل والتافه ... وقد فهم تشيخوف هذه الحاجة الملحة في الأدب منذ اعماله الأدبية المبكرة ...ففي عام 1883 كتب تشيخوف لاخيه الكساندر ردا على رسالته التي انتقده فيها بأنه ذاتيا ويتناول في قصصه ما هو تافه وثانوي قائلأ : " يجب عليكم انتم معشر الأقوياء ، المتعلمون والمثقفون ، التأكيد على ما هو ضروري ويحرك المشاعر غير الظاهرة ... الذاتية بالنسبة لكم شئ مرعب ."

والموضوعية ، بالنسبة الى تشيخوف ، تعني المحاولة لفهم الحقائق وتفسيرها بصورة صائبة... وهي عنصر مسيطر في مواهبه الشعرية . وهكذا نرى أن تشيخوف يعتمد بشكل تام على وعي قرائه مع اهتمامه في الوقت نفسه ليس في توسيع معرفتهم بموضوع أو بآخر فحسب ،بل بتحفيز وعيهم الأخلاقي ايضا . ويقدم ذلك ليس بشكل مواعظ ، بل بإشراك قرائه برؤية العالم من خلال بناء عمله الخيالي والعاطفي والذي يقود القراء بشكل تدريجي الى تشكيل فكرة معينة .

إن ثقة تشيخوف بقرائه قوية جدا لدرجة انه يفسح المجال امامهم ليحدسوا عاطفيا ما يرسمه فنيا ... إن قناعته هذه قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى ، لكن كلما يكون الوصف ظاهريا ولااباليا ، كلما يكون الأنطباع الذي سيحدثه لدى القراء أقوى ... وقد كتب تشيخوف الى آفيلوف قائلأ : " حين تقوم بوصف التعيس والبائس وتريد تحريك عاطفة القارئ ، عليك أن تكون باردا . نعم عليك أن تكون باردا ." ثم كتب حول الموضوع نفسه قائلأ : " بإمكانك أن تجعل القارئ يبكي حين يقرأ قصة ما وأن يعاني مع أبطالها بطريقة لايلحظها القارئ وحينما يكون الوصف موضوعيا ، كلما يقدم إنطباعا اقوى ."

لقد كان تشيخوف صادقا في عقيدته الجمالية هذه حتى النهاية . فعلى سبيل المثال ، لم يستخدم اية كلمة إزدراء في وصف اسينيا في قصته ( الوادي ) . فقد وصف عملية قتلها للطفل الرضيع وكأنها عملية اثم لطيفة وكان لهذا المشهد وقع على القارئ كما توقعه تشيخوف ...ومن المحتمل أن يكون ذلك واحدا من أكثر المشاهد برودا في كل الأدب العالمي .

إن تشيخوف يفكر ويحس كما يفعل أبطاله ، لكن بناء قصته لايسمح له احيانا أن يقود القارئ لرؤية الحقائق ونهاياتها ...وفي مثل هذه الحالات يلجأ الى تكملته بتعليقات غير فضولية والتي يتم نسجها في القصة بشكل بارع من خلال المنولوجات الداخلية لابطاله في لحظة تبصرهم ويقظتهم لتقييم الحقائق عن حياتهم الخاصة وحياة من يحيطون بهم .

إن الربط الدقيق بين الموضوعي والذاتي هو الطريق الأمثل لدى تشيخوف للتغلب بدون صعوبة على الإمكانيات المحدودة لدى بعض شخصياته ،امثال برونزا صانع التوابيت في قصته (عازف الكمان )...وبهذه الطريقة ايضا يستطيع تشيخوف أن يتجنب إعطاء شخصياته شكلأ مثاليا يضعهم فوق الواقع . وإستخدم تشيخوف هذا المبدأ بشكل رائع في قصته ( السهب ) حيث إستطاع أن يصور بشكل فني عملية إمتزاج أفكار وملاحظات الصبي يغورشكا خلال عبوره السهوب ، مع ذكريات القاص ، وكيف تتحول فجأة الى تعليقات فلسفية وعاطفية حول مصير الوطن .

إن إنسانية تشيخوف وفضحه العنيد للأخلاق اللاإنسانية للبرجوازية يستخدمها النقاد الغربيون بشكل ديماغوغي في تشويه أدبه ووصف تشيخوف بأنه رائد الأدب المتفسخ في القرن العشرين . فهم لاينظرون الى قدرة تشيخوف على تناول التفاصيل بشكل تصويري وقدرته في بناء الموضوع بشكل عام وإدخال التعقيد عليه ، بل نراهم يتحدثون عن الحظ على أنه العنصر المسيطر في أعمال تشيخوف ، ويحاولوا أن يظهروا بأن صورة العالم كما رسمها تشيخوف خالية من المنطق وذات نهاية مضحكة . لقد أخفق هولاء النقاد في إكتشاف القيمة الحقيقية لإعمال تشيخوف والنغمة العاطفية التي تتميز بها قصصه ورواياته ومسرحياته . كما لم يأخذ هولاء النقاد بنظر الإعتبارتفاؤل تشيخوف وإيمانه بالإنسان وقناعته الراسخة بأن (كل شيء في الإنسان يجب أن يكون جميلا ، وجهه ، ملابسه ، روحه وأفكاره ) وبأن البشر يمكنهم أن يبنوا مجتمعا يستند الى مبدأ العدالة .وتتضمن إنسانية تشيخوف احترامه للإنسان والإيمان بإمكانياته غير المحدودة وتقييمه الواقعي له كما هو ... لقد لعب عمل تشيخوف التاريخي دورا هاما في تقييم ليس فقط الحياة المعاصرة ومشكلاتها فحسب ، بل لمعاصريه ايضا . فعلى سبيل المثال ، ما هو موقف تشيخوف من رانفسكايا في قصته ( بستان الكرز ) وأي نوع من البشر هي ؟ هناك من يقول بان تشيخوف يصورها على انها إنسانة شفوقة ولديها رحمة على طريقتها الخاصة وبأنها إنسانة مستقيمة بشكل يلفت النظر . لكنها في الحقيقة ليس كذلك ،فلطفها ووداعتها لاينفصلان عن غرورها وتهورها وهي مثل بقية شخصيات تشيخوف الأخرى نموذجا للنظام البرجوازي الإقطاعي في روسيا .

ومن الجدير بالملاحظة ، إن إنسانية تشيخوف قد وضعت متطلبات كبيرة ليس فقط على النظام الإجتماعي القائم بل ايضا على الإنسان نفسه . فلا مكان لاولئك الذين يجسدون النظام الحاكم في داخلهم ويعززونه .إن موقف تشيخوف من شخصياته يشكل مزيجا معقداـ الشفقة والتأنيب ـ الشفقة لكونهم ضحايا النظام ، والتأنيب لنقص الرغبة لديهم في التغيير ورضاهم عن أنفسهم .

وليس أقل تعقيدا ، تصوير تشيخوف لابطاله الإيجابيين . فهنا يناضل تشيخوف من اجل الحقيقة ويتجنب المثالية ،ويبتعد عن التمويه على نقاط الضعف لدى ابطاله ومن يشاركونه طريقة تفكيره ، وإن همه الرئيسي هو فهم منطلقاتهم الفكرية والروحية وصراعهم مع النظام البرجوازي . ومن الملاحظ ،فإن ابطال تشيخوف ناس من فئات وطبقات إجتماعية مختلفة فمنهم التاجر وموظف البنك ممن يعكس عالمهم الداخلي جوهر الثقافة والقيم الأخلاقية في روسيا قبل الثورة وبذلك يكون تشيخوف قد أبدع في تطوير وإغناء مبادئ التعميم المجرد .