الجبصين



غيورغي فاسيلييف
2005 / 7 / 3

قصة قصيرة

سلوى سكر فتاة شامية مسلمة، ولدت وترعرعت في اسرة شرقية تقليدية محافظة على العادات والتقاليد السائدة في اغلب المدن السورية الكبيرة. كانت الأسرة لا صغيرة ولا كبيرة بالنسبة لعدد افراد الأسر في سورية. سلوى كانت التاسعة بين عشرة شباب وبنات. ابوها كان تاجرا صغيرا مسلما يؤدي كل الشعائر الدينية المفروضة كتأدية بقية المسلمين لها، وكان اقرب الى الفقر منه الى الغنى. كان لديه محل صغير جدا في حي الأزبكية. ومداخيل هذا المحل بالكاد كانت تلبي احتياجات الأسرة.وكأغلب اولاد العائلات الشامية اخوة واخوات سلوى الكبار لايتعلمون ولا يذهبون الى المدارس، حتى وان ذهبوا الى المدارس فهم عادة يتركوها من الصف الأول او الثاني، ويساعدون اباءهم في اعمالهم وبالتالي تنتقل المهن من جيل الى جيل، وغالبا ما يمارس الأبناء مهن آبائهم.
سلوى وأختها الصغرى هيام هما الوحيدتان من الاسرة اللتان درستا واكملتا المدرسة الثانوية، سلوى انهت ايضا الدراسة الجامعية في الشام طبعا. هي اكملت كلية الكيمياء بامتياز وتعمل الآن في احدى الشركات الكيماوية لصناعة الأدوية، وأما الأخت الصغرى هيام فهي الأن في السنة الثالثة في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية.
سلوى سكر بنت مرحة ذكية جريئة بعض الشيء بالمقارنة مع بنات جيلها،لكن هذه الجرأة لا تخرج عن اطار جرأة الشرقيين والشرقيات عموما في فعل اشياء كثيرة بشرط ان يجري عالسكت والمْخَبَّا. هي عَزْبَا، بَس مخطوبة. تعرفت على خطيبها بسام القصعة في الجامعة. هو درس الفيزياء، وأعمر من سلوى بسنة واحدة. هو ايضا اكمل الدراسة الجامعية بدرجة جيد جداً، وهو معيد في الكلية نفسها.
وبحكم عمل سلوى في شركة كيماوية لصناعة الأدوية، فعملها يقتضي ان يكون عندها مهمات من حين الى حين. واغلب هذه المهمات كانت تنجز في يوم واحد ولذلك هي عادة لا تخبر أهلها عن ذلك أبدا والا منعوها طبعا من السفر من مدينة الى اخرى او من شركة اخرى بدون مرافقة ابيها او واحد من اخوتها الشباب الكبار لحماية العرض والشرف الرفيع.
في احد الأيام طلبها مدير القسم وأخبرها انه وقع عليها الاختيار بالسفر في مهمة لمدة ستة اشهر الى مركز معهد ابحاث لمنظمة دولية في مدينة حلب، وأن الشركة تتكفل بكل النفقات من اقامة وسفر وطعام ، وهي ستحصل على مهمة كل شهر تفوق راتبها الشهري بثلاثة اضعاف، اضافة الى راتبها الذي سيدفع لها بالكامل وبدون نقصان. واخبرها ان عليها ان تفكر مليا في الأمر الذي يعد فرصة نادرة جدا، وأن هذا مهم لترقيتها في السلم الوظيفي وحتى العلمي والعملي، وأن عليها ان تحسم امورها كلها، وان تعطيه الجواب بعد يومين لأن السفر سيكون بعد اسبوع على أبعد تقدير. وطلب منها الانصراف والا تخبر احدا من زملائها وزميلاتها حتى يتم البت نهائيا في هذا الأمر. ونصحها بتقديم اجازة ساعية والذهاب الى البيت لكي لايحاصرها الزملاء بالأسئلة عما اراد رئيس القسم منها.
وفعلا طلبت اجازة ساعية مباشرة وذهبت الى مكتب عملها لجمع اغراضها والخروج، ولكن الزملاء هم الزملاء سألوها عن لماذا (لِمَا) طلبها رئيس القسم؟ واخترعت سلوى على الفور حكاية انه طلب منها تدقيق بعض المعلومات، وكذلك القيام غدا بمهمة الى شركة تامكو. والآن هي اخذت اجازة ساعية لأن امها مريضة، وانها لن تعود الى العمل واذا سألوا عنها، فليقولوا هي في مهمة او هي اخذت اجازة ساعية، ودعت الزملاء وذهبت الى البيت.
وفور خروجها من الشركة خطرت على بالها عشرات الأسئلة التي بقيت بدون جواب. سلوى طارت من الفرح، وطارت من الخوف، من الفرح لأنها يمكن أن تسافر ولأنها تريد الحرية والهواء الطلق، ومن الخوف لأنها يمكن لن تسافر!
وصلت الى البيت، وكان من عادتها ان ترن الجرس، ولكنها هذه المرة فتحت باب الزقاق (زْآءْ) بالمفتاح. تعجبت الأم وبصلواتها وحركات يدها المعتادة في مثل هذه الحالات حصنت ابنتها وطردت الشياطين والأرواح الشريرة، واستفسرت عما حصل؟ لماذا فتحت الباب بالمفتاح؟ ولماذا عادت بكير من الشغل؟ وعشرات اخرى من هذه الـ لماذا. لأن الشرقي تعلم انتظار وتوقع السيء دائما، والسماء هناك بنظر الآباء والأمهات والجيل الأكبر تمطر المصيبة تلو المصيبة، ولامجال لانتظار الخير.
وبعد ان اخبرت سلوى امها بالأمر، قامت قائمة الأم وقالت: "شو انت مجنوني!؟ شو لحا ييؤلو الناس عَنَّا!؟ لا تْؤلي لأَبوك، هوي ما لحا ييوافئ لو طَبَئِت السَّما علأَرض! يي وِلي على آمْتي، حمَّى تاخْدِكْ انت وإِختك! آل لحلب آل! ياريتني جِبت جربوعا وما جِبْتِكْ!".
لم تتوقع سلوى مثل هذه الثورة العارمة من قبل امها، وبدا لها للحظات قليلة، انها ترى المرأة التي امامها لأول مرة في حياتها، ولكن سرعان ما جاءتها الفكرة وراحت السكرة، عادت الى الواقع المذل، الى واقع ان الذليل اشد قسوة من الآخرين في تعامله مع أمثاله، تركت امها ترغي وتزبد، وذهبت الى غرفتها وبدأت تبكي بحرقة.
وعاد ابوها بكير على غير عادته ايضا، وكأنه احس ان شيئا ما غير عادي قد حدث. وحكت له الأم عن الموضوع . وهنا جن جنون الأب كان شخصا وصار مئة شخص ونادى ابنته: "سلوى! تعي لهون! تعي لهون يابت الكلب! اللا يلعن ابوك على ابو العلم، على ابو الشغل، على ابو هلعمر! مهمة لحلب! شو رح ييؤلو عنا الناس؟ اللا يياخدكون كلياتكون! يلا تعي لهون، ولبسي تيابك أوام!"
وخرج من البيت بسرعة ليرى ان كان دكتور العظمية الذي يعمل في عيادة بجوار البيت ما يزال موجودا. ودخل الى عند الطبيب وشرح له الأمر وطلب منه ان يجبصن رجل ابنته السليمة ليظن مديرها وزملاؤها انها وقعت وانها كسرت رجلها، وبذلك يجدون مخرجا من الورطة اللعينة. وافق الحكيم مقابل مبلغ كبير من المال. وسرعان ما قال للسكرتيرة ان تلغي مواعيد اليوم، وان تذهب هي الى بيتها، لأنه مشغول الآن جدا. وبعد ربع ساعة عاد الأب وبرفقته سلوى التي لا تعرف لماذا هي في العيادة؟ وماذا سيفعل أبوها؟
طلب ابوها ان تشلح ثيابها التحتانية، وجاء الطبيب وبدأ يرفع تنورتها وطلب منها ان تشلح الكلسون على مرآى من ابيها وبقيت عارية بضع دقائق. ونفذت سلوى كل ما امرت به كالنعجة. وقام الطبيب بوضع رقائق الجبصين المبللة بالماء على رجلها حتى تلك المنطقة التى تنفرج منها الساق. وما هي الا دقائق حتى انهى الحكيم عمله واعطاها عكازا. وتلقى المال من ابيها على مرأى منها وأمام عينيها، وخرجت برفقة ابيها وهي تتعكز وذهبا الى البيت. وحين رأتهما الأم فهمت كل شيء بدون أية كلمة. وقال الأب مهددا سلوى وأمها لا احد يجب ان يدري حتى الاخوة والأخوات وحتى الخطيب. وعاد الاخوة والأخوات في المساء. وقيل لهم ان اختهم نائمة، وانها وقعت وكسرت رجلها، وأنها في الجبصين حتى الخصر.

موسكو - 2004