ساندرا الحبيسة وقدسية الجسد؟



نوال السعداوي
2015 / 11 / 10

الأبرياء من الشباب والبريئات من الشابات بالسجون يتألمون ويهانون، وينعم بالحرية والكرامة من نهبوا وفسدوا، ومن ساندوا أو صمتوا عن الاستبداد والفساد، خوفا من السجن أو طمعا فى السلطة والمال، ومن صفقوا للرئيس والسيدة الأولى (فى كل العهود) وأشادوا بإنجازاتهما العظيمة، وما إن قامت الثورة حتى أصبحوا زعماءها، نددوا بالمخلوع والمعزول والمستبد والفاسد.
هرولوا الى الحكام الجدد وتأليف الأحزاب على الورق، والتشدق بالثورة فى الإعلام الخاص والعام، مخضرمون فى اللعب السياسية والانتخابية، يكتبون بخبرة ومهارة فى الحكومة والمعارضة معا، يطمئن لهم الحكام والمحكومون، ينالون مديح الرأسمالية الشرسة والإشتراكية الناعمة، يحبسون نساءهم بالبيوت، يتحدثون عن تحرير المرأة بالمؤتمرات ويدخلون البرلمانات، تزداد وجوههم وأسماؤهم تألقا، بينما يختفى الثوار والثائرات فى الظلام.أعلى الأصوات تنديدا بالفساد والعهود السابقة البائدة، هم الذين فسدوا وساندوا العهود السابقة البائدة، كأنما بالصوت العالى عن النقاء والطهارة يبعدون أنفسهم عن الظنون والشبهات، لكن الشعب المصرى رغم صبره واحتماله وخوفه من البطش والسجون، فإنه يحفظ تاريخ من خذلوه ونهبوه وخدعوه.
وقد بدأت شعوب العالم تنادى بإغلاق كل أنواع السجون، وإنهاء كل أشكال التعذيب (أو الإيلام) لأى كائن بشرى أو غير بشرى، مثلا قامت فى الأرجنتين بأمريكا اللاتينية، حملة شعبية، لإطلاق سراح ساندرا وهى ليست إنسانة ثائرة ضد الظلم، بل هى أورانجوتان وتعنى لغويا إنسان الغابة، وهى فصيلة راقية من القرود، لها مشاعر وحساسية ضد الظلم (مثلنا نحن البشر) وقد تم حبس ساندرا وراء القضبان بحديقة الحيوان بمدينة بوينس ايرس بالأرجنتين، وخرجت المظاهرات الشعبية لإطلاق سراح ساندرا، ورفعت منظمات حقوقية قضية بالمحكمة عن معاناة ساندرا لآلام العزل عن أهلها، تمت المناقشة القانونية من جميع النواحى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والبيولوجية.
ثم قررت المحكمة أن ساندرا كائن حى، أى (شخص) لها حق الحياة دون ألم مثل أى شخص، ومن حقها عدم التعرض للسجن أو للتعذيب الجسدى، تبعا لمبدأ هابياس كورباس ويعنى قدسية الجسد، وإذا كانت ساندرا لا تنتمى لجنس البشر فإنها شخص لها جسد حى، وللجسد حرمته، وليس هناك مبرر لحبسها بحديقة الحيوان ليتفرج عليها الآخرون، مما يسبب لها آلاما بدنية ونفسية واجتماعية، فهى تعزل عن أسرتها ومجتمعها الطبيعى وتتألم مثل البشر، بل إنها أكثر حساسية من البشر للألم والإهانة والظلم.
انظروا الى العالم البشرى، أليس أكثر بشاعة من غابة الوحوش؟ فى الغابة لا يعتدى الأسد على أى كائن إلا إذا كان جائعا، لكن فى عالمنا البشرى يتم القتل والنهب والاستعمار والاحتلال والاغتصاب، بسبب شهوة الجشع والطمع وليس بسبب الجوع، بل يعتدى الأقوى الأغنى على الأضعف الأفقر، الذى لا يملك أسلحة الدمار والحرب والتجسس.
وفى بعض شعوب العالم، قامت جمعيات الدفاع عن حقوق الحيوان، بالهجوم على معامل البحوث الطبية لمنعها من استخدام الفئران فى التجارب، مما يسبب قتلها أو تشويه جسمها أو تعرضها للآلام، لكن أغلب أعضاء هذه الجمعيات الرحيمة بالفئران، ليسوا رحماء بالبشر المقتولين فى الحروب الاستعمارية المشتعلة خارج بلاد.
وقد اعترض قسس الفاتيكان كثيرا على قتل الجنين فى الرحم (عمليات الإجهاض) لكنهم لم ينطقوا حرفا واحدا ضد قتل الملايين من أرواح البشر فى الحروب والمجاعات الناتجة عن الرأسمالية الشرسة، وغرق المهاجرين فى البحر، أو تعرضهم للهوان تحت ظلم القوانين فى البلد الذى يلجأون اليه، ونددت سيدة أعمال ثرية بالقسوة التى يعامل بها الناس القطط والكلاب، وكانت هذه السيدة نفسها تحرم خادمتها (فى البيت) من اللبن واللحم أو السمك، وتحمله فى سيارتها داخل علب بلاستيك لتطعم به القطط والكلاب فى النادى الذى تلعب فيه التنس.
حقوق الإنسان ومنها قدسية الجسد، يجب أن تسرى على جميع الكائنات الحية بما فيها الشجر، وفى النرويج حملات شعبية لمنع قطع الأشجار فى الغابات للحفاظ على البيئة الطبيعية وكل أشكال الحياة، وهناك سيدة نرويجية أعرفها، تناضل من أجل الحفاظ على الغابات والأشجار، لكن علاقتها بكلبها أكثر حميمية وإنسانية من علاقتها بزوجها، فالكلب يجرى قبل أن تدخل البيت، وما إن تفتح الباب حتى يستقبلها بسعادة غامرة ويقفز فوق صدرها (مهوهوا) فرحا، أما زوجها فلا شعرة واحدة تهتز فى جسده ويظل قابعا فى مكانه مثل أبوالهول.
غياب الحب والرحمة والمشاعر الإنسانية الدافئة بين الناس، وتحول العالم البشرى الى غابة قائمة على القتل والنهب والخداع، يدفع الإنسان للبحث عن المشاعر الحميمة فى الغابات، يعانق الأشجار ويستأنس بالنمور والأسود، ويتبادل الحب والرحمة مع الكلاب والقطط والفئران. قدسية الجسد للكائنات الحية، منها ساندرا بحديقة الحيوان بالأرجنتين، شعار جديد يستحق الاحترام.
لكن أين نحن من قدسية أجساد الشابات والشباب الأبرياء وراء القضبان؟ وأجساد البنات حبيسات الحجاب منذ الطفولة والنقاب؟ والقاصرات الطفلات الفقيرات يبعن فى السوق للكهول والعجائز؟