منذ بداية اللامساواة والخطيئة الأولى



نوال السعداوي
2015 / 11 / 25


جاءتنى رسالة من فتاة تعيش فى لندن تقول فيها: أواجه مشكلة كامرأة مسلمة تعيش فى أوروبا، تصاعد الإرهاب تحت اسم الإسلام وتصاعد معه العداء للحجاب، لقد فقدنا لغتنا العربية وثقافتنا فى المهجر، ولم يبق لنا إلا هويتنا الدينية، لهذا أصبح الحجاب ضروريا ليؤكد هويتنا الإسلامية، فما رأيك يا دكتورة؟



هناك شابات مسلمات مثل صاحبة هذه الرسالة، يتصورن أن الحجاب يؤكد هويتهن الإسلامية، وأغلبهن أستاذات وخريجات معاهد عليا وجامعات غربية وشرقية، مما يؤكد أن التعليم العالى لا يوسع المدارك، فالأنظمة التعليمية غربا وشرقا، تخدم السوق الرأسمالية التجارية أساسا، لا تفتح العقول أو تشجعها على التفكير خارج النظام بل تغلقها داخله لإتقان المهن المتاحة بالسوق، يكتسب خريجو الجامعات والمعاهد العليا مهارات تطبيقية متطورة تكنولوجيا، يصبح الواحد منهم طبيبا عالميا ناجحا فى تركيب صمامات القلب أو زرع كلية أو كبد أوطحال، أومهندسا يبنى كبارى معلقة فى الفضاء، أو أبراجا ناطحة لما وراء السحاب، أو قائدا استراتيجيا أو دبلوماسيا عبقريا يحقق المعجزات فى السياسة والحرب والدهاء، إلا أن تفكيره ووجدانه واحساسه يظل قديما عتيقا مثل أجداده، يتزوج أربع نساء ويخدع البنات، رأيت أستاذا إنجليزيا رئيسا لاحدى الجامعات يهرول وراء التلميذات ويؤمن أنهن آثمات مثل أمهن حواء، وقابلت فى الهند أستاذا يرأس مؤتمرا عالميا لجراحات المخ والأعصاب، ثم رأيته يسجد للبقرة المقدسة والإله جانيش من سلالة الأفيال.



ويتساءل الكثيرون كيف للمنظمات الإرهابية الدينية (مثل القاعدة وداعش) أن تضم فى صفوفها أطباء وعلماء ومهندسين من أعلى التخصصات؟ تلعب النظم التعليمية دورا فى إغلاق العقول على المفاهيم القديمة أكثر من فتحها لتقبل الأفكار الجديدة؟ لهذا تنال العقول المبدعة من القهر، والتهديد أكثر مما تنال من الكرامة والتقدير فى كل العالم.



طبيبات ومهندسات وأستاذات جامعيات يتصورن أن الحجاب يؤكد هويتهن الإسلامية، مما يؤكد جهلهن بالتاريخ، فالحجاب نشأ فى اليهودية وارتبط بتأثيم المعرفة وإلصاق الخطيئة بحواء، وتم عقابها بقطع رأسها (رمزيا) أى اعتبارها جسدا بغير رأس (بغير عقل يشتهى المعرفة الآثمة) ولهذا يجب اخفاء رأسها بالحجاب (أو الباروكة) تكفيرا عن إثمها وخزيا من عارها



لكن المجتمع اليهودى تبرأ من حجاب النساء كما تبرأ من ختان الرجال، رغم الآية التوراتية التى تنص على أن الرجل الأغلف (غير المختن) ليس من اليهود، بينما يتمسك أغلب المسلمين بختان الذكور رغم عدم النص عليه فى القرآن، ويتصور البعض أن ختان المرأة المسلمة (مثل حجابها) جزء من هويتها رغم أن ختان النساء ليس من الإسلام ولا تمارسه أغلب الدول الإسلامية ومنها السعودية.



وكيف لإنسانة متعلمة أن تختزل شخصيتها فى غطاء رأسها؟ وإذا كان الحجاب هو هوية المرأة المسلمة فما هى هوية الرجل المسلم؟



لم تتعود البنت منذ الطفولة أن تسأل مثل هذا السؤال: لماذا أغطى رأسى وأخى لا يغطى رأسه؟ لماذا يخرج أخى ويلعب وأنا فى البيت اشتغل مع أننى ناجحة فى المدرسة وهو ساقط؟ إذا كان شرف البنت مثل عود الكبريت فما هو شرف أخى الولد؟ إذا كانت الجنة تحت أقدام الأمهات فلماذا يكون اسم أمى عارا واسم أبى وحده هو الشرف؟



كل الأطفال الأصحاء يسألون هذه الأسئلة وغيرها الكثير، وينالون العقاب لمجرد السؤال، فالمفروض أن يتقبل الأطفال اللامساواة وازدواجية القيم، باعتبارها من الثوابت المقدسة وينغلق عقل الطفلة أو الطفل بالخضوع للموروثات الدينية والثقافية، تثبت وترسخ فى الوجدان الطفولى العميق بالتربية القائمة على قبول التفرقة، وأولها التفرقة بين البنت والولد، واعتبار الولد أفضل من البنت، والأب أعلى من الأم.



بعد التفجيرات الإرهابية المتصاعدة أصبح الحديث عن تجديد الفكر الدينى مباحا، وكم نقرأ من مقالات والجمود الفكرى وضرورة التجديد، إلا أنه ينتهى بالتحذير من المساس بالثوابت المقدسة، وأقصى ما يطالب به الكاتب الثورى هو العلمانية، أى فصل الدين عن الدولة، لكن ما جدوى فصل الدين عن الدولة إذا ظل كل منهما على حاله بثوابته المطلقة؟



وهل حجاب المرأة مثلا من ثوابت الدين أو من ثوابت الدولة؟ وهل زواج الرجل بأربع نساء من الثوابت الإلهية أو البشرية؟ هل قانون الأسرة مفروض بالدولة أو بالله؟ وإذا تم الفصل بين الدين والدولة هل تنقرض اللامساواة والازدواجيات الأخلاقية الطبقية الأبوية؟ هل يصبح شرف المرأة مثل شرف الرجل فى نظر القانون؟ وهل يتساوى الوزير مع الغفير والغنى مع الأجير؟



تتسع الهوية بين النساء والرجال وبين الفقراء والأثرياء، يتصاعد الإرهاب السياسى الاقتصادى متخفيا تحت اسم الدين، لم تنجح الدول العلمانية فى حربها ضد العنف واللامساواة، بل إنها ضالعة فى الإرهاب والعنف؟ يرتبط العنف فى الأسرة بالعنف فى الدولة بالعنف فى العالم هل يكفى تجديد الفكر الديني؟ والفكر العلمى والعلمانى فى حاجة للتجديد؟ والفكر البشرى كله فى حاجة للتجديد منذ بداية اللامساواة والخطيئة الأولى؟