حوار لا أنساه بين أمى وأبى



نوال السعداوي
2016 / 2 / 16


رأت أمى زوجها (أبى) مع امرأة أخرى، اشتد غضبها وقررت الانفصال عنه، كان يوما شتويا وكنت عائدة للبيت من المدرسة، بدأت السماء تسقط قطراتها الرقراقة النادرة، وكنت أحب اللعب تحت المطر، أقفز فى الهواء فرحا برذاذ الماء، طعمه المنعش فى فمي، والتزحلق على الأرض المبللة، وإن سقطت أنهض لأتزحلق من جديد، وانقضى الوقت فى اللعب، ثم تذكرت أن مس إيفون أعطتنى أعلى درجة فى الفصل، ولابد من العودة بسرعة لترى أمي، وأبى كراستى.
حين دخلت البيت كان أبى وأمى يتحاوران بصوت عال على غير عادتهما، وسمعت أمي: تقول بغضب لأبى، خلاص انتهى كل شىء ارتفعت أصواتهما فلم أتبين الحوار بدقة، وبدأ الجيران يتلصصون من وراء الأبواب والشبابيك: وكان أبى ينكر تهمة الخيانة الزوجية ويقول لأمى، أنت الوحيدة فى حياتى صدقينى
أنت تكذب يا أستاذ
أنا لست كاذبا يا هانم
كل الرجال يكذبون على زوجاتهم
إن كان لى امرأة أخرى سأقول لك، هذا حقى الذى منحه الله لى
أيعطيك الله الحق فى الخيانة؟
إنها ليست خيانة يا هانم
إن لم تكن خيانة ماذا تكون؟
حق الرجل كما جاء فى كتابه الكريم
الرجل يستمتع بامرأتين والمرأة تستمتع بنصف رجل،
رنت فى أذنى كملة نصف رجل فتخيلت أبى مشطورا نصفين والنصف الأعلى أفضل فى نظرى طبعا، لأن فيه العقل والقلب، والنصف الأسفل ملوث، بإفرازات الجسم وطين الشوارع العالقة بالقدمين ولم يخطر لعقل أبى أن العدالة تشمل المتعة الزوجية للنساء كالرجال، منذ طفولته يسمع أن المرأة متاع الرجل، لم يسمع أبدا أن الرجل متاع المرأة.
وظل أبى صامتا يفكر طويلا ثم نهض أخيرا من مقعده وربت على كتف أمى قائلا، تغارين على زوجك ياهانم، على العموم الغيرة دليل الحب.
الغيرة دليل انعدام الكرامة يا أستاذ
لا توجد كرامة فى الحب يا هانم
أتوافق أن أعرف رجلا غيرك؟
تقصدى إيه؟
أن يكون لك نصف زوجة ونصفها الثانى لرجل آخر؟
ظهرت علامات الضيق على وجه أبي، لم يتوقع هذا السؤال من أى مخلوق منذ ولدته أمه.
صمت طويلا يبحث فى عقله عن شيء يرد به على أمى ثم تذكر فجأة أنه جائع فقال: سأرد عليك بعد الأكل
كنت أتضور جوعا، وتذكرت تفوقى فى المدرسة فأخرجت كراستى من حقيبتى لتراها أمى وأبي، لكنهما كانا مستغرقين فى الغضب ولم يهمهما نجاحي، ولم تخفف روائح المشويات ولا طواجن الفرن الشهية من غضبهما شيئا، وأعلنت أمى فى أثناء الاكل أن الأخلاق الفاضلة للرجل هى نفسها الأخلاق الفاضلة للمرأة، وهى الصدق والوفاء بالعهد والحفاظ على الكرامة، وأن المرأة إنسانة لها كرامة الإنسان.
ودخلت مدرسة الليسيه، قرأت باللغة العربية والفرنسية عن مى زيادة 1914 ولدت أمى عام الأديبة، ومدام كورى مكتشفة الراديو، والشاعر الأسبانى لوركا، وغيرهم، خرجت أمى فى مظاهرة مع التلميذات ضد الاحتلال البريطاني، قبض عليها البوليس، استلمها أبوها (جدى)، من التخشيبة بعد أن دفع الغرامة، ثم أخرجها من المدرسة بالقوة ليزوجها من أبى.
كانت الأغلبية الساحقة من النساء مسحوقات بسلطة الزوج المطلقة وحقه فى الطلاق بإرادته المنفردة والزواج بأربع، وإن اعترضت امرأة على هذا الظلم فهى تتعرض للانحباس بقانون، الطاعة والاتهام بعد الإيمان بالله.
كانت أمى تدرك أن الله هو الصدق والعدل والكرامة وليس الصلاة والصوم والتغطية بالبرقع، وكانت تشهد منذ طفولتها المشاجرات بين أبيها وأمها، كان أبوها يكذب على أمها ويخونها مع الأخريات، ثم يصوم ويصلى ويسافر الى مكة ليمسح ذنوبه
كانت أمها (جدتي) تملك المال لتدفع نفقاتها وأطفالها الخمسة، لكنها لم تملك الوعى أو الكرامة وكانت تخاف من الوحدة، وأكثر ماتخاف وصمة الطلاق، فالمرأة المطلقة موصومة وإن كان الرجل هو الفاسد أخلاقيا، وهو الذى يطلق زوجته ويشرد أطفاله لإشباع نزواته.
كان لأمى أربعة أطفال حينئذ، وكانت أمومتها قوية مستعدة للتضحية بحياتها من أجل أطفالها، لكن كرامتها كانت أغلى من حياتها، وكان لأغلب الرجال عشيقات، يحظى الرجل منهم بمنافع الزوجة ومنافع العشيقة (أو الزوجة الثانية) فى آن واحد، فالزوجة تربى أطفاله (يحملون اسمه) وترعاهم وتدير أمور البيت، (والمرأة الثانية) (عشيقة أو زوجة) للمتعة الحسية الخالصة دون متاعب الزواج ومسئولياته، كما أن الله منح الرجل هذا الحق، ولم يكن القانون (حينئذ) يعطى الزوجة حق الطلاق إن تزوج الرجل بغيرها.
وسأل أبى (بعد الأكل) أين رأته أمى مع المرأة الأخري؟ أغمضت أمى عينيها وراحت تتذكر ثم قالت: رأيتكما ليلة الأمس فى الحلم، صاح أبي: وهل أنا مسئول عن أحلامك أيضاً يا هانم؟ قالت أمي: لا ينفصل الحلم عن الحقيقة يا أستاذ.