المرأة و الاقتصاد المنزلي.



بلنك ميتاني
2016 / 3 / 19

المرأة والاقتصاد المنزلي.

كثيراً ما نسمع مفردة الاقتصاد في حياتنا اليومية.. وحالما يُقال “اقتصاد” يخطر الرجل على البال فوراً، ودون منازع.. لكننا اليوم عندما ننبش في جذور هذه الكلمة في الماضي الغابر السحيق، باحثين عن أصلها وفصلها، نجد حقيقة مذهلة ومؤلمة في آن معاً… تعالوا لننظر معاً إلى أين سيؤدي بنا النبش والسبر في أغوار هذه المفردة…

كلمة “اقتصاد Ekonomi” يونانية الأصل. وهي تعني “اقتصاد العائلة” أو “اقتصاد المنزل”. أي أنها تنص على قواعد معيشة العائلة، وسبل تأمين رزقها، وضوابطها مع الجوار في هذا المجال، وتبيان لوازم تطبيق ذلك. أجل.. إنها بالأصل تعني هذا الشيء.. وبما أنها كلمة غائرة في العمق بقدر غور سياق التاريخ البشري، فهذا معناه أنها مفردة متمركزة على المرأة، ومتمحورة حولها.. فجميعنا نعلم أن بدايات البشرية كانت على شكل مجتمع أمومي مشاعي، تسوده المجموعات البشرية المسماة بالكلان، والتي لا يزيد تعدادها على بضعة عشرات من الأشخاص.. وهذه الكلانات قد تأسست في كنف المرأة، التي كانت تعنى بشؤون “العائلة”، وتربية الأطفال، وتدجين الحيوانات، وزراعة الحبوب وجمعها، بل وحتى تكديسها وادخارها… في حين كان الرجل منهمكاً ومنصرفاً إلى ممارسة اصطياد الحيوانات الكاسرة… وكان شكل “العائلة” إن صح التعبير، بدائياً، يندرج فيه الأم والأطفال والأخوال والخالات وأولادهم. كانت المرأة الأم حينها مقدسة لأنها ترمز للعطاء والخير والخصب، ولأنها هي المدبرة للشؤون الاقتصادية والمعيشية (وإنْ بشكلها البدائي وقتذاك). ومن ثم اتسع نطاق مفردة الاقتصاد ليشمل قواعد معيشة الكلان والجماعات البشرية ذات النطاقات الضيقة، والمتمحورة حول المرأة الأم (أكرر هذا الأمر لأهميته البالغة كما سنرى بعد قليل).

من جانب آخر، والأمر المذهل هو أن كلمة الشرف أيضاً تنبع من المصدر عينه… فالأصل اليوناني لكلمة الشرف أيضاً هو “Eko-nomos” أي “قانون البيت” أو “ناموس البيت”. بمعنى آخر، فهي تعني الأعمال المعنية بالمرأة المدبرة لشؤون المنزل. وإذا ما ربطنا بين هذين المصطلحين (الشرف – الاقتصاد) من حيث وحدة مصدرهما، يمكننا تفسيره على الشكل التالي: إن تدبير شؤون المنزل تعني الشرف المصان، لأن الاقتصاد في استقرار، والحياة في أمان. وهذا بالطبع (ولو تكراراً) يكون بفضل المرأة الأم المديرة لشؤون الإنتاج والقائمة بإدارة الأشغال الاقتصادية. وهذا ما معناه أن المرأة الأم هي الحكيمة، العارفة والخبيرة بأمور الحياة، المدركة ذاتها، والمنتبهة لطاقاتها الدفاقة في إدارة دفة الحياة الاجتماعية والاقتصادية. أي أنها الأقرب إلى الحرية (بمعناها البدائي، ووفقاً لظروف تلك الحقبة، وليس حسب المعايير العصرية الراهنة)، وبالتالي، فهي ممثلة الشرف الحقيقي الحر. وجميع السجلات والوثائق التاريخية المكتشفة في الحفريات الأثرية تدل على ذلك دون جدال. حيث أن شأن المرأة حينها كان سامياً، لدرجة تقديسها كآلهةٍ للخير والحب والعطاء والخصب. فهي صاحبة الـ”ماءات” المائة والأربعة، أي الاكتشافات والاختراعات المائة والأربعة، التي لا تنفك البشرية تقتات عليها حتى في راهننا، مع التحويل والتحوير في شكلها. وإنْ كان ثمة اليوم ما يسمى بالحياة، فالفضل في ذلك يعود إلى “ماءات” المرأة بالتأكيد.
إننا نجول ونطوف في عالَم مختلف، بل ومناقض لما نسميه اليوم بالعصر الحديث… وقد نبع هذا التناقض منذ أن شعر الرجل بقوته الكامنة، وحسد المرأة على منزلتها الرفيعة، فراح يتحالف مع بني جنسه على شكل قوة سياسية (الرجل العجوز الخبير بأمور الحياة) وعسكرية (الرجل القوي المتمرس في مهنة الصيد) ودينية (الشامان، أي الراهب بشكله البدائي)؛ معتمداً في ذلك على ما اكتسبه من ممارسة الصيد في حبك الدسائس ونصب الأفخاخ والانتظار في الكمين لإيقاع الفريسة… فبينما كانت فريسة الرجل القوي الماكر حيواناً شرساً في بداية التاريخ البشري، غدت المرأة هي الفريسة بعد ذلك. لم يكن هذا بالسهل، بل تدلنا الوثائق والمخطوطات الأثرية المكتشفة على أنها كانت حقبة أليمة عصيبة بما سادها من نزاع بين الرجل اللئيم الحسود الساعي للاستيلاء على مكاسب المرأة (ماءاتها)، وبين المرأة صاحبة الكدح الأساسي (الاقتصاد والحياة). وما الملاحم الأسطورية التاريخية في تاريخ الشعوب القديمة العريقة سوى تعبير عن هذه الحقبة المريرة المحتدمة في نزاعاتها وصداماتها.

لقد أدرك الرجل أن شل تأثير المرأة يكون بتجريدها من “الاقتصاد”، أي من “الشرف الحقيقي” الذي يجعلها الحكيمة في الحياة بلا منازع. فجردها أولاً من الأولاد، بأن ظهر مصطلح “الأبوة” وغدا الأولاد عائدين للأب، بعدما كانوا لا يعرفون سوى أمهم وأخوالهم وخالاتهم.. وغدت العائلة “أبوية بطرياركية”… وغدا الاقتصاد “أبوياً بحتاً”… وتحولت المرأة إلى كائن عاطل عن العمل، منعزل عن الحياة وروابطها… فبعدما كان تدبيرها لشؤون الاقتصاد والمعيشة وتنظيم أمور الحياة دافعاً للسمو بمنزلتها لتكون إلهة العطاء والخير، غدا كدحها في المنزل (في يومنا الراهن) وكأنه عطالة وبطالة عن العمل، وتعب بلا تقدير أو مقابل (معنوي)، بل وأمر يتم ازدراؤه واستحقاره من الأعماق… وهكذا انقلبت آية “الشرف” رأساً على عقب… فبعدما كان الشرف يرمز إلى الحكمة والحرية والذكاء والعواطف الجياشة والخبرة والخصب متجسداً في شخصية المرأة الأم (الإلهة)، غدا مقتصراً على جنسية المرأة وعورتها… بل وغدت المرأة كلها “عورة” يجب صونها لأنها “شرف العائلة”….

يا له من مكر لئيم بحق…. تمحورت حوله وقامت على ركائزه الذهنيةُ الرجولية الأبوية البطرياركية السلطوية منذ خمسة آلاف عام على حساب المرأة وطراز الحياة المعتمدة على المرأة… من حينها وسياق التاريخ البشري يجري في اتجاه معاكس، منحرفاً عن مجراه الأصلي… من يومها والدماء سائلة في الشوارع إلى الركب… من يومها والطبيعة غدت أسيرة الرجل المتسلط الذي ينظر إلى الطبيعة بما فيها على أنها مسخرة لغطرسته وطيشه وتهوره الذي لا يعرف الوقوف أو الحدود… من يومها والبيئة تئن تحت وطأة الكوارث والفواجع المسلَّطة عليها… ومن يومها لم يعد المجتمع مجتمعاً متماسكاً بأفراده وأخلاقه… وغاب التوازن الأمثل في العلاقات فيما بين الفرد والمجتمع… فإما برزت الفردية متحررة من كل قيود، طائشة متهورة، تبتكر القنابل لتجربها على الطبيعة بما فيها من شعوب.. أو اختنق الفرد تحت نير العادات والتقاليد البالية الرثة باسم المجتمع والمجتمعية… والأهم من كل ذلك… من يومها والمرأة لم تعد تلك الأم الحكيمة المبدعة المعطاءة المنتجة (الحرة)… لم تعد مَلاكاً… بل غدت مُلْكاً… صارت “شيئاً” مملوكاً بكل ما فيها… بعواطفها ومشاعرها وعقلها وجسدها حتى أدق شرايينها وأوردتها…

لقد غدت المرأةُ “الشرف”… شرفَ الرجل… ومن حينها… صارت المرأة تعيش ذليلة تجتر الآلام المريرة باسم صون “شرف الرجل”، أو تُقدِمُ على الانتحار أو تُقتَل ليعيش الرجل رافع الرأس بجنايته تحت اسم “صون الشرف”!! ومن يومها صارت “قضية الشرف” من أهم القضايا العالقة كعقدةٍ كأداء تنتظر الحل الجذري وتقويم وجهة النظر إليها كشرطٍ أوليٍّ لا غنى عنه للتمكن من تقويم مسار التاريخ البشري برمته. ويتأتى تعقيد القضية من المراوغات واللغط الديماغوجي الذي يلف القضية من كل الجوانب بسبب الذهنية الذكورية السلطوية بشأن المرأة، لتتشكل بذلك ثنائية متناقضة للغاية… فبقدر ما يكون الرجل بحاجة ماسة للمرأة ولا يستطيع العيش بدونها، لأنها منبع الحياة… فهو بالمقابل يحط من شأنها ومنزلتها، لأنها منبع المصائب والمشاكل… فمن جهة، يجعلها موضوع ملاحم العشق وقصائد الحب والغزل، ويحولها إلى بلبل وديع يزين القفص الحديدي المعلق في صالون الجلوس… ومن جهة أخرى، يحاصرها من جميع الجوانب، كي لا تخرج عن طَوعه أو تتمردَ على “إرادته” و”قوته” الطاغية كإمبراطور صغير في المنزل…

بَيْدَ أن الرجل بنفسه قد تحول إلى كائن مختنق في العقد الكأداء على الصعيد النفسي بسبب هذا التناقض… فبقدر ما يرى نفسه إمبراطوراً سيداً على المرأة في المنزل، فإنه قد تحول (وبنفس القدر) إلى امرأة خانعة ذليلة (رجل مخصي) تجاه الدولة الإمبراطور (الدولة الأب، الدولة السيد)

إن هذه الثنائية نفسها، والمستمرة منذ قيام الانكسار الجنسي الأول (انقلاب الرجل الماكر على المرأة)، هي نفسها منبع بحث المرأة المتواصل عن حريتها لاستردادها (صراع إينانا مع أنكي لاسترداد النار المسروقة منها)… وعصرنا الحالي يشهد أمثلة ذلك بما يفوق العصور السابقة، بقدر ما يشهد العبودية الغائرة للمرأة والسيادة اللئيمة للرجل الماكر القوي.. فالجنايات القائمة باسم الشرف، والطوق الذكوري المُطبِق على أنفاس المرأة لدرجةٍ يجعلها ترى في الانتحار ملجأ وملاذاً أفضل من الحياة التي لا تُطاق لأنها أسوأ من الموت نفسه، والعنف المطَبَّق على المرأة بأدق أشكاله وأغلظها؛ كل ذلك يشكل مهزلة حقيقية (واقعاً تراجيدياً وكوميدياً معاً). لكنه في الآن عينه يشكل الدافع والباعث وراء بحث المرأة عن سبل الحياة المشرفة المشحونة بمعايير الحرية الحقيقية… ورغم النواقص التي تعتري الحركات النسائية الموجودة في الميدان على صعيد تنظيم ذاتها، وتجاوز الآفاق الذهنية الذكورية للتمكن من إيجاد البديل السليم وصياغة الحل الجذري لقضاياها؛ إلا أنها منبع تفاؤل، وتبعث على الأمل في عودة مسار البشرية الى مجره الاصلي