كتابك غير حياتى



نوال السعداوي
2016 / 4 / 27


الأندلس فى ذاكرتى كما وصفها أبى فى طفولتي، السندس الأخضر، ولوركا الشاعر حفظته أمى بالمدرسة الفرنسية وهى فى الخامسة عشرة من عمرها، كان مناضلا ضد الاستبداد والفساد فقتلوه، كما يحدث عندنا وكل مكان، والوجوه الاسبانية تشبهنا، والشمس هى الشمس، السخونة أقل والهواء أنقي، البرودة خفيفة منعشة برذاذ المطر، الأشجار مغسولة والشوارع تلمع، ثلاثمائة ألف نسمة فقط يعيشون فى قرطبة فى مساحة بحجم القاهرة.
منذ دخل الأندلس "طارق بن زياد وموسى بن نصير" عام 92 هجرية، شيد العرب القلاع والقصور على مدى ثمانية قرون، وكانت قرطبة جسر التواصل بين الشرق والغرب، كتب عنها المؤرخ فيكتور روبنسون: "فى الوقت الذى كانت فيه أوروبا غارقة فى الظلام والوحل كانت قرطبة مرصوفة الشوارع مضاءة بالمصابيح"، مسجد قرطبة تم بناؤه فى قرنين ونصف من الزمن، تحفة نادرة، وفى غرناطة قصر الحمراء مع جنة العريف من أروع القصور فى تاريخ العمارة العربية، بناه بنو الأحمر ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وآثار متعددة فى أشبيلية وملقا وطليطلة. أمشى فى الأندلس كأنما أمشى فى طفولتى داخل التاريخ، كان مؤتمر قرطبة بعنوان "الديالوج"، شاركت فيه رئيسة حكومة الأندلس "سوزانا دياز" شابة فى ربيع العمر ستصح رئيسة حكومة إسبانيا كما يتنبأون "وتاباتيرو" الرئيس السابق لحكومة إسبانيا رئيس الحزب الاشتراكي، لا يزال نحيفا نشيطا، عيناه مملوءتان بخضرة قوية، فى حكومته عين من الوزيرات ما يساوى عدد الوزراء، منهن وزيرة الدفاع، رأيتها فى مدريد منذ عشرة أعوام، تسير ممشوقة بين صفوف الجنود ببطنها العالى وهى حامل فى تسعة أشهر إلا يومين. فى مأدبة الغداء أجلسونى الى جوار ثاباتيرو، دار الحديث حول فكرته التى طرحها منذ أحد عشر عاما باسم "تحالف الحضارات" وأعاد طرحها بالمؤتمر، مؤكدا أن الحوار والتحالف بين الأديان والحضارات هو الطريق الوحيدة للسلام، كلمة السلام تكررت مئات المرات بالمؤتمر ولم أسمع كلمة العدل مرة واحدة، فسألته ونحن نأكل السمك المشوى مع النبيذ الأندلسي: هل يتحقق السلام بدون العدل؟ رد ثاباتيرو بسرعة: لا يمكن تحقيق السلام بدون العدل. بعض المشاركين بالمؤتمر رأوا أن ثاباتيرو لا يمثل المستقبل، منهم المستعرب الأسبانى "بيدرو مارتينيث مونتابيث"، الرئيس السابق لجامعة مدريد، أهدانى كتابه بعنوان "أوروبا الإسلامية" شاركته زميلته "كارمن رويث برافو" يشرح كتابهما كيف استفادت الحضارة العربية الإسلامية من التراث الأوروبى المسيحى وأفادته فى الوقت ذاته، واندمج الفن العربى الاسلامى بالفنون الأوروبية المسيحية لتنشأ منهما الحضارة الأندلسية.
أما "سوزانا دياز" رئيسة حكومة الأندلس، فهى تناصر المهاجرين، قالت إن ضحايا الإرهاب من المسلمين أكثر من غيرهم، فالإرهاب لايرتبط بالتيارات الإسلامية، بل بجميع التيارات الأخرى منها اليهودية والمسيحية، وفى إسبانيا ملايين المسلمين يؤمنون بالسلام، وقال "سمير ناير" الأستاذ الجامعى ورئيس المؤتمر، ان الحكم الإسلامى فى الأندلس كان أكثر سماحة وديمقراطية مع اليهود من الحكم المسيحى ولا يصح ربط الإرهاب بالإسلام، وقال رئيس جامعة قرطبة إن الإرهاب سياسي، ويجب على أوروبا ألا تغلق حدودها فى وجه المهاجرين ضحايا الاستعمار الأوروبي. وفى كلمتى بالمؤتمر قلت ان الإرهاب يشمل الدول الكبرى أيضا وان أزمات العالم تنبع من اللا مساواة الاقتصادية والاجتماعية والجنسية، الناتجة عن سيطرة السلاح والمال على كل شيء حتى الفن والكتابة، وإذا كان الإرهابى رئيس دولة كبري، جورج بوش مثلا، فهو لا يحاكم ولا يعاقب، ويتم تدمير فلسطين والعراق وسوريا وغيرها، فى حروب نظامية شرعية تحت اسم الديمقراطية والسلام والشراكة والتنمية. وتحدث "طارق علي" الكاتب والمؤرخ الباكستاني، عن الأصولية الدينية السياسية وكيف تغذيها الولايات المتحدة بالمال والسلاح، ومن فلسطين تحدث محمد شتيه الوزير، ومصطفى البرغوثي، الطبيب المناضل، عن الخداع الاستعمارى بشأن القضية الفلسطينية، والدعم الأمريكى الأوروبى المستمر لإسرائيل رغم كونها دولة إرهابية، وعن الثورة التونسية والتعددية الثقافية السياسية تحدثت صوفى بسيس أستاذة الاجتماع والأستاذ بن موسى الحاصل على نوبل للسلام العام الماضي. خارج المؤتمر التقيت بشباب وشابات من الأسبان، بعضهم من أصل عربي، قرأوا كتبى المترجمة للأسبانية، قالوا: المستقبل للحزب الجديد "بوديموس"، نحن "نستطيع" تحقيق ما نريد، وسوف نلغى الخصخصة، فى مجال التعليم خاصة، وندرس الفلسفة والأخلاق بدلا من الأديان، الأمين العام لهذا الحزب هو "بابلو إجليسياس" ونائبته "تيريزا رودريجوز"، وأغلبه من الشباب والشابات، وأقبلت نحوى فتاة، تحمل كتابي "أوراقى حياتي" بالعربية والأسبانية، هاجرت أسرتها من المغرب الى أسبانيا قبل ولادتها منذ أربعة وعشرين عاما، أهدتها أمها بعض كتبى بالعربية والأسبانية لتقرأها وهى فى السابعة عشرة من عمرها، حوطتنى الفتاة بذراعيها وفى عينيها دموع، وقالت: لم أحلم بأن أراك، كتابك غير حياتى.