تجاربنا الشخصية جدا تغير العالم



نوال السعداوي
2016 / 7 / 20

ى السابعة من عمرى تجمعت العائلة، قيدونى وكمموا فمي، وبالمشرط بتروا عضوا من جسدي، لم أعرف ما هو، كان الألم أكبر من قدرتى على المعرفة، ثم سقط الألم من ذاكرتى مع الزمن، لتطفو المعرفة بعد عشرين عاما على سطح الوعي، قمة جبل جليدى مخبوء مملوء بالألم والحزن والعار، تصورت أننى السبب فى كل هذا، وبدأت تعفير جبينى فى الأرض تكفيرا عن الذنب، طلبت العفو والغفران وكان الاثم مجهولا، راح الذنب وبقى الألم مدفونا، ثم دخلت كلية الطب، ورأيت الموت بحدقة عيني، سمعت صراخ الأطفال بأذني، وبدأ الحزن يطل من تحت الجبل، والألم ينزف من جديد، أعادت رائحة الدم ذاكرتى للوراء عشرين عاما، طفلة ذبحوها ضحية العيد، وهم يغنون ويرقصون، وبدأت طبقات الجهل والعار تتساقط بالتدريج، بعد أن تراكمت فى اللاوعى آلاف السنين. مفكرتى الطفولية السرية كنت أخبئها تحت مرتبة السرير، أكتب فيها أسرار العائلة الدفينة، نسيت أمى أحزانها وهى طفلة، ونسى أبى جرح ختانه بموس الحلاق، يحفر الكبار جروحهم فى أجساد أطفالهم دون وعي، وقررت العائلة أن أكون طبيبة، أكسب المال والجاه مثل عميد الكلية، لكنى كرهت الأطباء منذ الطفولة، فأمسكت القلم وفتحت جروحا مليئة بالوجع لا يفتحها المشرط، وأصبحت أنا سبب الوجع، عفروا رأسى فى التراب، ودخل اسمى قوائم الموت لكن الكتابة تتغلب على الموت، يحفر القلم فى العقول ثقبا ينفذ إليه الضوء، تنكسر طبقات الجهل الجمعي، يسقط العار والحزن والألم ليصبح كرامة وبهجة وفخرا، تتحول تجربة شخصية مكبوتة فى النفس، إلى قضية عامة تغير العالم.

وفى يومنا هذا، يعلن طبيب مصرى عضو بالبرلمان، أن ختان النساء يحافظ على الأخلاق، لكننا لم ندرس الأخلاق فى كلية الطب، حفظنا الخمسة عين «عيادة. عربية. عمارة. عزبة. عروسة»، أستاذنا الكبير، ترك الممرضة حاملا وتزوج ابنة العميد، جمع المليارات من دم المرضى الفقراء ثم أصبح رئيسا لحزب الأخلاق. وفى هذه الأيام أيضا، نرى النساء قائدات لأكبر الدول، نساء لم يتعرضن لعملية الختان، يحتفظن فى أجسادهن بالعضو المفسد للأخلاق، مع ذلك نرى أنهن أكثر عفة من أزواجهن، وأكثر استقامة من نساء مختونات، وهل تنبع الأخلاق المستقيمة من بتر الأعضاء؟

المخ أو العقل هو العضو الأول المهيمن على الرغبات والشهوات، قد يؤدى الختان إلى اشعال الشهوة وليس اخمادها، وفى عيادتى الطبية كشفت عن حالات البرود الجنسى مع الالتهاب العاطفي، ونساء مختونات كثيرات لا يشغلهن إلا شبق جنسى لا يرتوي. قلة من النساء والرجال، تخلصوا بعقلهم الخلاق، من آلام الطفولة، ومما تعلموه فى المدارس والجامعات من ازدواجية الأخلاق والنفاق، لا نجد اسماءهم ضمن الحاصلين على جوائز الدولة، يعيشون المنفى, واسماؤهم تدفن وهم احياء، لا ننتج طعامنا ونعيش على الاستيراد، نسعى للمعونات من الأصدقاء والأعداء، يصبح الصديق عدوا والعدو صديقا فى يوم وليلة دون أن ندري، تتغير المباديء والأخلاق مع تغير الاقتصاد، تقوم السياسة على اخفاء الحقيقة، يسمونها الرأسمالية الشرسة أو الليبرالية الجديدة، ولها خطة أو استراتيجية ملخصها الآتي: الحديث المتزايد عن الأخلاق للتغطية على تزايد الفقر والاستغلال، والحديث عن حماية الدين من الازدراء بدلا من فرض الضرائب على الأثرياء، وخفض الضرائب على ناهبى الأموال والأراضى تحت شعار تشجيع الاستثمار، بيع القطاع العام والخدمات والمرافق لتعظيم أرباح الكبار فى السلطة والقطاع الخاص، ضرب التنظيمات الشعبية، العمال والشباب والنساء، تحت اسم الحفاظ على هيبة الدولة، زيادة القمع للفكر الحر والمرأة تحت اسم حماية الدين والأخلاق. لم نعد نرى الترابط بين تصاعد الفقر والشراسة الاقتصادية، وتصاعد الشراسة الأخلاقية عن الختان والحجاب، لم نتعلم كيف نربط بين الجسد والعقل، والاقتصاد والجنس، والعلم والفن، والواقع والخيال، والخاص والعام، تعلمنا الفصل بين حياتنا الخاصة والعامة، ونفعل فى الخفاء ما يخلجنا فى العلن، ولاشيء مثل الكتابة عن تجاربنا الشخصية لكشف الحقيقة وعلاج المرض.