آمنة الخروب؛ غيابك عن الحياة خسارة حقيقية



سندس القيسي
2016 / 9 / 23

آمنة الخروب؛ غيابك عن الحياة خسارة حقيقية

كنت قد اتصلت بأمنة، أعز وأقدم صديقة لي ومن أروع الناس الذين يمكن أن تصادفهم في حياتك، فهي طالما كانت كالشمعة تذوب لتضيء الطريق لغيرها. جاءت رنة الهاتف بطيئة وأنا أنتظر بشوق أن ترد علي آمنة، هذه المرأة العملاقة بمبادئها وسلوكها المنسجمين معًا، هذه الإنسانة التي ساعدت كل الناس بكل ما تملك من عطاء ومحبة ونكرانٍ للذات، لكن آمنة لم ترد هذه المرة وفوجئت بصوت إمرأة غريبة، سألتها أين آمنة؟ فلم ترد، فسألت ملهوفة قلقة، هل آمنة بخير؟ فكانت الإجابة كالصاعقة التي زلزلت كياني: "آمنة ماتت قبل ساعة". لم أستطع قول أي شئ، فقد تجمدت الكلمات في حلقي وشعرت بصدمةٍ قوية. إذ أنني لا أعرف كيف سأقدر على فراقها؟ رحم الله آمنة، التي لم تكن تجيد الشكوى رغم مصارعتها مرض السرطان والألم الذي عانته بعد أن توفت أختها، قبل حوالي ثلاثة أشهر. لم تمنعها معاناتها الصامتة من مساعدة الآخرين بحنية وحب ورقي.

آمنة كانت أكثر من معالجة نفسية، فهي وضعت النظريات النفسية في إطارها الثقافي والإجتماعي واجتهدت دون أن تعتمد على التقليد الأعمى بل بإحساسٍ الواثقِ بنفسه وأكثر من الإتكال على الأساليب الغربية وحدها. لا أبالغ إن قلت أن آمنة كانت مدرسة في علم النفس. في الحقيقة، آمنة كانت مدرسة في كل شيء، خاصةً العطاء المتفاني. كانت إنسانة بارة بوالديها، تقوم بواجباتها تجاههم في أحلك الظروف وفي أعتى لحظات المرض. وكانت تعتبر خدمة والديها نعمة ما بعدها نعمة.

آمنة كانت تصلي في سرها، لكنها لم تفرض معتقداتها على أحد، وكانت منفتحة تستوعب الجميع. آمنة كانت مثقفة ومسيّسة وإنسانية بكل ما في الكلمة معنى. كان يكفيني وجودها في الحيأة، كي أشعر بالطمأنينة، وأن الدنيا ما زالت بخير، وأنه لو خليت بليت . آمنة كانت واحدة من هؤلاء الناس الذين تشعر بالتفاؤل تجاههم، لوجودهم كحقيقة واقعة في الحياة. آمنة كانت عملة نادرة، غير متداولة في السوق ولم تتغير في زمن الإنحطاط والإنهزام وسقوط الشعارات. آمنة كانت إنسانة عظيمة جدًا في كل شئ تفعله، وإمرأة صلبة حقيقية، تستحق كل الإحترام، وَمِمَّا لا شك فيه أني سأفتقدها، وأتذكرها إلى ما لا نهاية، لأنه ليس لها مثيل، بأخلاقها وبجمالها الداخلي.

آمنة أخذت بيدي في عمر السابعة عشرة، عندما التقيتها في جامعة اليرموك. لقد احتضنتي كالأم الحنون، لم تبخل علي بشيء ولم تتوقع يومًا أي مقابل، كان همها أن تعطي شيئًا من نفسها بكرمٍ بالغ. لقد أصابني نبأ موتها بألمٍ عميق، فكيف لي أن أتخيّل الحياة بدونها؟ كنت دائمًا أقول لها أنها تستحق نصبًا تذكاريًا وتكريمًا استثنائيًّا لعطائها الدائم، ومساهمتها في خدمة الإنسان والمجتمع. وأتمنى على المسؤولين الأردنيين أن يأخذوا بمقترحي، لأن النبلاء أمثال آمنة الخروب لا يتكررون. فآمنة صديقة صدوقه، وكانت تقدس الصداقة وتعززها وتدعمها وتجعلها محورية في علاقاتها مع الجميع. ولهذا، فآمنة كانت تقف إلى جانب الكل، وتتنصر للحب بعد صداقة عميقة. وتكاد فلسفة آمنة حول الصداقة تقول: "لا حياة بدون صداقة". فالبنسبة لآمنة، الصداقة كانت اللبنة الأولى الرئيسية لبناء العلاقات.

كنتُ دائمًا أطلب منها أن تنزل الإنتخابات بسبب شفافيتها وأصالتها وشهامتها البالغة. هذا، عدا عن شعبيتها الكبيرة، وحب الناس العميق لها. لكن آمنة لم يكن يغريها أي شيء دعائي، بل كانت تخدم مجتمعها ووطنها بالتزامٍ وبهدوء وبدون غرورٍ وبدون تعالٍ، دون أن تنتظر حمدًا ولا شكورًا من أحد. آمنة كانت تحب أن تبني وتصلح وتساعد وتتنشل وترفع للأعلى أبناء مجتمعها، الذين يحتاجونها. فالجميع كان يعتمد عليها، وهي لم تعتمد على أحد سوى الله. وإنه لأمر مؤسف أن يكون مصير واحدة من صناع الحياة النبيلة والحقيقية في بلدنا قصيرًا. هؤلاء الناس القدوة و والحقيقيون، نحن لا نقدرهم في حياتهم لأنهم هادئون، لكن عند رحيلهم، نكتشف كبر الحمل الذي كانوا يضعونه على أعتاقهم، وبعد فوات الأوان، نتفاجأ بحجمهم الحقيقي الهائل.

آمنة كانت تحدث جلبة عندما تمشي في أي مكان تتواجد فيه، كان الناس يتهافتون على لقائها، وإلقاء التحية عليها بكل محبة واحترام. فقد كانت قيادية من الطراز الرفيع وبشكل متواضع وإنساني للغاية. مهما قلت عن آمنة، فأني لن أوفيها حقها. كان لي شرف معرفتها على مدار عقود، كانت دائمًا هي آمنة، ذات معدنٍ غالٍ ثمين وقلبٍ كبيرٍ للغاية. يؤسفني أن أفقدها الآن. كم أشعر بالفراغ ومن سيمدني بالقوة من بعدك يا آمنة؟ كان آخر حديث مع آمنة حول وفاة أختها، الذي قصم ظهرها. كنت أحاول أن أرفع من معنوياتها، لكن من يعرف آمنة، يدرك أنها لا تظهر نقاط ضعفها بسهولة أمام أحد، وتبلع حزنها لكي تكون دومًا في موقف المعطي، ولا تقبل أن تأخذ أي قوة من أي أحد، بل تستمدها من ذات نفسها، ولعل الحياة لم تعد تعني لها أي شيء بعد وفاة شقيقتها، فآثرت اللحاق بها. هذه هي آمنة عندما تحب وعندما تعطي. نامي بسلامٍ يا صديقتي، فلعل السماء تنصفك بحق يا من كنت مشعلاً في حياتي. أما أنا، فسأشتاق لكِ مدى الدهر، يا غالية.