في تنظير قمع المرأة: النسوية السوداء والتقاطعية



شارون سميث
2019 / 2 / 24

«على الرغم من أننا نتفق بشكلٍ عام مع نظرية ماركس في جانبها التطبيقي على تحليله للعلاقات الاقتصادية المحددة، إلا أننا نعلم أنه لا بدّ من توسيع ذلك التحليل بشكل أكبر، وذلك من أجل أن نفهم حالتنا الاقتصادية كنساء سود». — بيان جماعة نهر كومباهي، ١٩٧٧.




«لا يزال مفهوم الاضطهاد المتزامن يشكّل صلب الفهم النسويّ الأسود للواقع السياسي، بالإضافة لكونه، باعتقادي، أحد أهمّ الإسهامات الأيديولوجية للفكر النسويّ الأسود». — المحامية والنسوية السوداء باربرا سميث، ١٩٨٣.



في مقالتها المتبصِّرة المنشورة عام ١٩٨٩ بعنوان: «إلغاء تهميش التقاطع بين العرق والجنس: نقد نسوي أسود للعقيدة المناهضة للتمييز، والنظرية النسوية، والسياسات المناهضة العنصرية»، ابتدعت المحامية السوداء كيمبرلي كرينشو مصطلح «التقاطعية». مفهوم التقاطعية ليس تصورًا مجردًا، بل وصفًا للطريقة التي تُشْعَر بها الاضطهادات المتعددة. وبالفعل، تستخدم كرينشو مثالًا تشبيهيًا بين التقاطعية وبين التقاطعات في الطريق أو سكة الحديد من أجل تقريب الفكرة:


اِفترض وجود حركةٍ مرورية في أحد التقاطعات، بحيث تروح السيارات وتغدو في كل الاتجاهات الأربع. يشبه التمييز حركة سياراتٍ في تقاطع طرق، فهي يمكن أن تمرّ في هذا الاتجاه أو ذاك. لو وقع حادث مروري، فمن الممكن أن يقع بسبب السيارات التي تمرّ من إحدى الجهات وحدها، أو بين سيارات متعددة من كل الاتجاهات. وبشكلٍ مشابه، لو تعرضت امرأة سوداء للأذى بسبب وجودها في التقاطع، فقد تكون إصابتها بسبب التمييز الجنسية أو التمييز العنصرية. لكن ليس من السهل دائمًا إعادة تصوّر الحادث: في بعض الأحيان، تكون آثار انزلاق عجلات السيارة والإصابات، ببساطة، دليلًا على أنّ كلا الحدثين وقعا في الوقت نفسه، مما يعقّد الجهود التي تهدف لتحديد السائق المتسبب في الحادث.

تجادل كرينشو أن النساء السود يتعرضن للتمييز بطرقٍ لا يمكن تصنيفها حصرًا ضمن «العنصرية العرقية» أو «العنصرية الجنسية» قانونيًا، بل هي مزيج من كلا العنصرية العرقية والعنصرية الجنسية. ومع ذلك، فالنظام القانوني يعرّف العنصرية الجنسية على أنها مستندة على فهمٍ غير معلن لها كظلاماتٍ تواجه كل النساء (من ضمنهن النساء البيض)، بينما يعرّف النظام العنصرية استنادًا على ما يتعرض له كل السود والملوّنون* (من ضمنهم الرجال). لا تضع المنظومة هذه للنساء السود أيَّ اعتبارٍ قانونيّ، وبلا تُتيح لهن أيَّ ملجئٍ قانوني أيضًا.

تصف كرينشو عدة قضايا متعلقة بالتمييز في المجال الوظيفي، وذلك من أجل توضيح كيف أن شكاوى النساء السود تقع غالبًا في المنتصف؛ فهن يتعرضن للتمييز بحكم كونهن نساءً وبحكم كونهن سودًا. والحكم الناطق في قضيّة «ديجرافينيريد ضد جينيرال موتورز»، التي تقدمن بها خمس نساء سود في ١٩٧٦، يوضّح هذه النقطة.

لم تقم شركة جينيرال موتورز بتوظيف أي امرأة سوداء ضمن عامليها قبل ١٩٦٤ (وهي السنة التي مرر الكونغرس فيها قرار الحقوق المدنية). غير أنّ كل النساء السود اللاتي تم توظيفهن بعد ١٩٧٠ فقدن وظائفهنّ بسرعة، وذلك في عملية تسريحٍ بالجملة خلال الكساد في ١٩٧٣١٩٧٥. الخسارة الكبيرة للوظائف من بين النساء السود حدا بالمرافِعات في القضية ليجادلن بأنّ عمليات التسريح المبنيّة على الأقدمية، أي التي يقودها مبدأ «آخر من يوظّف، هو أول من يُسرَّح»، قامت بالتمييز ضد النساء السود العاملات لدى جينيرال موتورز، وذلك في استمرارية للممارسات التمييزية في تاريخ الشركة.

ومع ذلك، فقد رفضت المحكمة أن تسمح للمرافِعات بدمج التمييز الجنسي والتمييز العنصري تحت نوعٍ واحد من التمييز:


تدّعي المرافِعات أنّهن يرفعن قضية بالنيابة عن النسوة السود، ولذا فالقضية تحاول دمج مسبِّبين تحت فئة فرعية جديدة، وهي بشكل عام مزيجٌ بين التمييز العنصري والجنسي. في حالة تعرضهن للتمييز، فمن حقّ المدعين أن يعالجوه. ولكن لا يحق لهن أن يدمجن علاجين قانونيين ليخلقن «علاجًا خارقًا»، مما يعود عليهن بأكثر مما صاغته لهن القوانين. ولذا، لا بد من معاينة هذه القضية للتحقق من أنها تدعو للتصرف ضد التمييز العرقي أو التمييز الجنسي أو كلاهما بشكلٍ متبادل، ولكن ليس بمزيج منهما.

وفي القرار الذي اتخذته المحكمة، رفضت بشدة صنع «تصنيفًا جديدًا للنساءً السود يمتلكن وفقه حقَّ مثولٍ أمام المحكمة أعلى مما لدى الرجال السود مثلًا. احتمالية خلق شرائح جديدة من الأقليات المحمية*، لا تحكمها سوى مبادئ التبديل والدمج الرياضية، ترفع بوضوح احتمالية فتح صندوق باندورا المبتذل».

تقول كرينشو عن الحكم في هذه القضية أن «توفير إسعاف قانوني فقط في حالة برهنة النسوة السود كون دعاويهن مبنية على العرق أو الجنس يشابه حصر إمكانية الاتصال بسيارة إسعاف للضحية فقط حين يتم التعرف على السائق الذي سبب الحادث».

«أولسنا نساءً؟»

بعدما طرحت كرينشو مصطلح التقاطعية في عام ١٩٨٩، تم تبنيه على نطاق واسع لأنه تمكن من احتواء التجارب المتزامنة المختلفة لأنواع الاضطهاد المتعددة التي تتعرض لها النسوة السود في مظلة مصطلحٍ واحد. لكن مفهوم التقاطعية ليس بمفهومٍ جديد. منذ أيام العبودية، وصفت النساء السود ببلاغة أنواع الاضطهاد المتعددة المتعلقة بالعرق والطبقة، والجندر، بأوصافٍ مثل «الاضطهادات المتشابكة»، أو «الاضطهادات المتزامنة»، أو «المُهلِكة المزدوجة»، أو «المُهلِكة الثلاثية»، وغيرها من المصطلحات الوصفية.

وكغيرها من النسويات السود، تشدد كرينشو على أهمية خطاب سوجورنر تروث الشهير: «أولستُ امرأة؟»، الخطاب الذي ألقته سوجورنر أمام «مؤتمر النساء» عام ١٨٥١ في أكرون، أوهايو:


يقول الرجل الواقف هناك أنه لا بد من مساعدة النساء في الركوب للعربات ومساعدتهن لتجاوز الحفر الصغيرة، وأن يأخذن أفضل المواضع في كل مكان. لا أحد يساعدني على ركوب العربة، أو لعبور البرك الوحلية، أو يعطيني أيّ موضعٍ أفضل! أولست امرأة؟ انظروا إلي، انظروا لذراعي! أستطيع أن أحرث وأزرع وأحصد في الحظيرة ولا يمكن لأي رجل أن يتفوق علي! أولست امرأة؟ أستطيع أن أعمل مثل الرجل، وأن آكل مثله (لو تمكنت من الحصول على الكمية ذاتها) وأن أتحمّل ضرب السياط كذلك! أولست امرأة؟ أنجبت ثلاثة عشر طفلًا، وشاهدت أغلبهم يُباعون إلى العبودية واحدًا تلو الآخر. وحين أطلقت صرخات حسرةِ الأمومة، لم يسمعني أحد سوى اليسوع! أولست امرأة؟

كلمات تروث تبرز بوضوح تباين طبيعة الاضطهاد التي تواجهه النساء البيض عن تلك التي تواجهه النساء السود. وبينما عومِلت النساء البيض المنتميات للطبقة المتوسطة بصفتهن رقيقاتٍ، مرهفاتِ المشاعر (مقدّرٌ عليهن إخضاع أنفسهن للرجل الأبيض)، تم قدْحُ النساء السود وتعريضهن للعنف العنصري، وهو مكوّنٌ أساسيّ في المجتمع الأمريكي. ولكن، كما تقول كرينشو، «حين نهضت سوجورنير تروث لتتحدث، طالبت العديد من النسوة البيض بأن يتم إسكاتها، خشية أن يُصرَف الانتباه عن قضية تصويت النساء إلى قضية تحرير العبيد»، وهذا مثال صارخ على درجة العنصرية داخل الحركة المطالبة بحق التصويت.

تقارن كرينشو بين تجربة تروث مع حركة التصويت البيضاء، وتجربة المرأة السوداء مع النسوية الحديثة، قائلة: «حين يتم تجاهل النساء السود في النظرية والسياسات النسوية التي تدعي أنها تعكس تجارب النساء وطموحاتهنّ، فمن حقهن أن يتساءلن: أولسنا نساءً؟».

التقاطعية كتوليف للاضطهادات

ولهذا السبب تتجاوز أهداف كرينشو السياسية مجرد توضيح الثغرات في النظام القانوني. تجادل كرينشو أن النساء السود لا يوضع لهن اعتبارٌ غالبًا في التحليلات حول الاضطهاد الجندري أو العنصرية العرقية، فالتحليلات حول اضطهاد النساء تركز على النساء البيض بينما تركز التحليلات العنصرية على الرجال السود. وهي تسعى لتحدي النسوية ومناهضة العنصرية العرقية بشقيهما النظري والعملي المُهمِلان «تصوير تفاعل العرق والجندر بدقّة»، مجادِلةً أن «التجربة التقاطعية تفوق مجموع العنصرية العرقية والعنصرية الجنسية، وأي تحليل لا يأخذ التقاطعية بعين الاعتبار لا يستطيع أن يوضح النهج الذي يتم من خلاله إخضاع النساء السود».

تجادل كرينشو أن أحد الأوجه الرئيسية للتقطاعية تكمن في إدراكها أنّ أنواع الاضطهاد المتعددة لا يتم التعرض لها واحدًا تلو الآخر بشكل منفصل، بل كتجربة واحدة توليفيّة. هذا الأمر يمتلك أهمية كبيرة في الصعيد العمليّ لبناء الحركات الاجتماعية.

في كتاب «فكر النسوية السوداء: المعرفة والوعي وسياسات القوة»، المنشور عام ١٩٩٠، توسّع النسوية السوداء باتريشا هيل كولنز وتطوّر في تحليل التناقضات الاجتماعية التي ذكرتها سوجورنير تروث، وتعزو إلى النضالات الجماعية عبر التاريخ الفضل في تأسيسَ «حِكمة جمعية» (collective wisdom) لدى النساء السود:


لو كانت النساء خاضعاتٍ وضعيفات، كما يُزعم، لماذا يتم معاملة النساء السود كـ «البغال» وتوكل إليهن الأعمال المنزلية المُنهِكة؟ إذا كان على الأمهات الصالحات أن يبقين في منازلهن مع أبنائهن، فلم تجبر النساء السود الأمريكيات الحاصلات على الإعانة الحكومية على أن يجدن عملًا وأن يتركن أبناءهن في الحضانات؟ إذا كان أسمى عمل للمرأة هو أن تصبح أمًّا، فلم تجبر الأمهات المراهقات السوداوات على استخدام مانعات حمل مثل «نوربلانت» و«ديبو بروفيرا»؟ في غياب فكرٍ نسويٍّ أسود يستكشف كيفية احتضان تقاطع هذه الاضطهادات، من عرق وجندر وطبقة، هذه التناقضات، يمكن استبطان زاوية الرؤية المخلوقة بالنظر إليهن كعامِلاتٍ معندمات القيمة وأمهات فاشلات، مما يؤدي لاضطهاد للذات. لكن إرث الصراع بين النساء السود الأمريكيات يوحي بوجود نضال نسوي أسود جمعي مشترك. الحكمة الجمعية بدورها حرّكت النساء الأمريكيات السود لخلق معرفةٍ أكثر اختصاصيّة، ألا هو فكر النسوية السوداء بصفته نظريةً اجتماعية نقديّة.

ومثل كرينشو، تستخدم كولنز مفهوم التقاطعية لتحليل كيفية «عمل الاضطهادات [مثل العرق والجندر أو الجنسية والوطن] معًا لإنتاج الظلم». لكن كولنز تضيف مبدأ «مصفوفة الهيمنات» (matrix of dominations) إلى هذه المعادلة: «وفي المقابل، تشير مصفوفة الهيمنات لكيفية تنظيم هذه الاضطهادات المتقاطعة. بغض النظر عن التقاطعات المعينة المشتركة في الأمر، تعاود المجالات البنيوية، والمتعلقة بالفروع المعرفية، والهيمنيّة، وتلك المرتبطة بالعلاقات الشخصية، الظهور عبر أشكال الاضطهاد المختلفة».

وفي مكان آخر، تقر كولنز بأهمية مكوّن الطبقة الاجتماعية في تكوين الرؤى السياسية عند النساء السود. ففي مقالها: «معالِم الإبستمولوجيا النسوية ذات المركزية الأفريقية» (The Contours of Afrocentric Feminist Epistemology)، تقول إنه «بينما يكون منطلق المرأة السوداء، والإبستمولوجيا المصاحبة له، نابعان من وعي النساء السود بالاضطهاد العرقي والجندري، فهما ليسا نتيجة لدمج قيم نسوية تتصف بالمركزية الأفريقية، فالمنطلقات متأصِّلة في ظروفٍ مادية واقعية مبنيّة على الطبقة الاجتماعية». (الخط العريض مُضاف)

مواجهة العنصرية الجنسية في مجتمع متشبّع بالعنصرية العرقية

بسبب الدور التاريخي للعبودية والفصل العرقي في الولايات المتحدة الأمريكية، يتطلب تطور حركة نسائية موحدة تمييز التداعيات متعددة الأوجه لاستمرارية هذا الفصل العرقي. فبينما تتعرض جميع النساء للاضطهاد بحكم كونهن نساءً، لا يمكن لأي حركة أن تدّعي تمثيلها جميع النساء إلا إذا تحدثت عن النسوة اللاتي يواجهن عواقب العنصرية العرقية، مما يضع النساء الملونات بمقدارٍ غير متناسب في صفوف الطبقة العاملة والفقيرة. ولذا، لا بد أن يكون العرق والطبقة محورين لمشروع تحرير النساء إذا ما أريد له أن يكون ذو أهميّةٍ للنساء اللاتي يتعرضن للاضطهاد بواسطة هذه المنظومة.

بالفعل، أحد مفاتيح الضعف في الحركة النسوية الأمريكية البيضاء غالبًا يكمن في صرفها الانتباه عن العنصرية العرقية، الأمر الذي يُنتج مضاعفات عديدة. فالفشل في مواجهة العنصرية العرقية يؤدي لتجديد إنتاج الوضع العنصريّ العرقيّ الراهن.

السردية المقبولة بشكل واسع حول الحركة النسوية الحديثة هي أنها ضمت في البداية نساء بيض في أواخر الستينات ومطلع السبعينات، ولاحقًا انضمت لهن النساء الملونات وحذين حذوهن. لكن هذا السرد مغلوط في حقائقه.

قبل عقودٍ من صعود حركة تحرّر النساء الحديثة، كانت النساء السود منظّماتٍ في محاربة الاغتصاب المنظّم (systematic rape) على يد الرجال البيض العنصريين. وكانت ناشطاتُ الحقوق المدنيّة، ومن ضمنهن روزا باركس، جزءًا من حركة شعبيّة للدفاع عن النساء السود المتعرِّضات للاعتداءات الجنسية العنصرية، وهو، في الولايات المتحدة، تقاطعٌ لأشكال الاضطهاد خاصٌ تاريخيًا بالنساء السود.

تقول دانييل مكغواير، مؤلفة «في النهاية المظلمة للطريق: النساء السود، الاغتصاب، والمقاومة – تاريخ جديد لحركة الحقوق المدنية من روزا باركس وحتى صعود حركة القوة السوداء»:


عبر القرن العشرين، لطالما استنكرت النساء السود الاعتداء الجنسي عليهن. فعبر استخدام أصواتهن كأسلحة في الحرب المناهضة للفوقية البيضاء*، سواء في الكنيسة أو المحكمة أو في جلسات الاستماع بمجلس الشيوخ، قامت النساء الأفريقيات الأمريكيات بمناهضة ما أسماه مارتن لوثر كنغ «تشييء» إنسانيتهم. وقبل عقودٍ من قيام النسويات الراديكاليات في حركة تحرّر النساء بتشجيع الناجين على «المجاهرة» بما مررن به، دفعت المظاهرات العامة للنساء الأفريقيات الأمريكيات بسخط محلي، ووطني، بل وحتى عالمي، وأججت حملاتٍ أكبر للعدالة العرقية والكرامة الإنسانية.

اختلاق خرافة «النظام الأمومي» الأسود

في الستينات، التباين بين الاضطهاد التي تتعرض له المرأة في الطبقة المتوسطة البيضاء والنساء السود لم يكن لوضوحه أن يزداد أكثر، فذات «الخبراء» الذين وصفوا الحياة الكريمة للنساء البيض في الضواحي، كما سجلها كتاب بيبي فريدان الشهير «السحر الأنثوي»، قاموا بتوبيخ النساء السود على عدم اتباعهن لهذا النموذج. ولعمل النساء السود تقليديًا خارج منازلهن بأعداد أكبر من قريناتهنّ البيض، فقد ألقي اللوم عليهن بشأن عدد من الأمراض الاجتماعية على أساس استقلالهن النسبي اقتصاديًا.

تتحدث النسوية الاشتراكية ستيفاني كونتز عن «علماء فرويديين وعلماء اجتماع» قد «أصروا على أن الرجال السود تم إخصاؤهم بشكل مضاعف، أولًا بالعبودية وثانيًا باستقلال نسائهم اقتصاديًا». العديد من وسائل الإعلام الأفريقية الأمريكية قبلت أيضًا بهذا التحليل. وإحدى المقالات المنشورة بمجلة «إيبوني» عام 1960 أشارت بصراحة لكون الاستقلال التقليدي للمرأة السوداء معناه أنها كانت «في نزاعٍ أكبر مع دورها البيولوجي الفطري من المرأة البيضاء».

هذا المبحث ظهر بكل قوته في عام ١٩٦٥، حين أصدرت وزارة العمل الأمريكية تقريرًا عنوانه «العائلة الزنجية: مرافعةٌ من أجل نشاطٍ على المستوى الوطني». يصف التقرير، الذي كتبه السيناتور المستقبلي دانييل باتريك موينيهان، وجودَ «نظامٍ أمومي أسود»* (Black Matriarchy) في قلب «التشابك المَرَضيّ» المُضرّ بالعوائل السوداء، وينتج حلقةً من الفقر. «إحدى حقائق حياة العائلة الزنجية الأمريكية هو الدور المعكوس بين الزوج والزوجة»، والذي تحصل فيه المرأة السوداء على راتب أعلى من زوجها على الدوام، حسب زعم موينيهان.

يقول التقرير: «وفي الجوهر، المجتمع الزنجي قد أجْبِرَ على التشكّل ببُنيةٍ أموميّة مما يؤدي لتخلف تقدم المجموعة ككل بسبب كونه مختلفًا تمامًا عن بقية المجتمع الأمريكي». ويشرح التقرير الأسباب التي أدت لذلك:


لا يوجد أي سببٍ خاص، على الأرجح، يجعل أيَّ مجتمع يهيمن عليه الذكور في العلاقات العائلية أفضل من المجتمعات القائمة على نظام أمومي. على أية حال، من الواضح أنّه من المضر أن تسير الأقلية وفق مبدأ فيما تسير غالبية السكان، وهي التي تمتلك الامتيازات بادئًا، وفق مبدئٍ آخر. هذه هي الحال الراهنة للزنجي. مجتمعنا مجتمعٌ يفترض قيادة ذكورية للشؤون الخاصة والعامة. ترتيب المجتمع يحتضن هذه القيادة ويكافئها. إحدى الثقافات الفرعية، ثقافة الزنوج الأمريكيين، وهي خارجة عن هذا النسق، ستعاني من نقيصة فريدة.

هذا المثال يوضّح الأسباب التي تؤدي لعدم فهم التمييز الجندري، وبفعالية، دون أن نضع بعين الحسبان الدور الذي تلعبه العنصرية العرقية. ومنذ ذلك الوقت، جعلت النسويّات السود معاينة العلاقة المتشابكة بين الجندر، والعرق، والطبقة، أولويّة لهن، الأمور التي أهملتها النسويات البيض آنذاك. وبفعل ذلك، تبيّن النسويات السوداء أنّ النساء الملوّنات لسن «مضطهداتٍ على نحوٍ مضاعف» فقط بسبب العنصرية الجنسية والعنصرية العرقية. تجربة النساء السود مع العنصرية الجنسية قولبتها العنصرية والتفاوت الطبقي بشكلٍ متساوٍ، وبالتالي فهي تجربة مختلفة في جوانب معيّنة عما مرّت به النساء البيض من الطبقة المتوسطة.

«مجتمعان: أسود، وأبيض — منفصلان وليسا متساويان»

ملأ فترة الخمسينيات والستينيات الاستقطاب العرقي في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بسبب حركة الحقوق المدنيّة الهائلة التي ناضلت لإنهاء قوانين الفصل العنصري، جيم كرو، في الجنوب، بالإضافة لإنهاء الفصل العرقي الفعليّ في الشمال. حين حكمت المحكمة العليا أنّ منع التزاوج ما بين الأعراق أمرٌ مخالفٌ للدستور في قضية «لوفنغ ضد فرجينيا» في عام ١٩٦٧، كان لا يزال ممنوعًا في ستة عشر ولاية.

اجتاحت انتفاضات المُدن البلاد في منتصف وأواخر الستينيات، إذ أشعلتها وحشيّة الشرطة وأشكال التمييز العرقي الأخرى في أحياء الأقليّات السوداء الفقيرة. في عام ١٩٦٧، تم تأسيس «المعهد الاستشاري الوطني للعصيان المدني»، المعروف أيضًا بمسمّى «معهد كيرنر»، لأجل التحقق من جذور مسبّبات انتفاضات المدن هذه. وفي ١٩٦٨، أصدر المعهد تقريرًا تضمّن إدانة العنصرية العرقية والفصل العنصري في المجتمع الأمريكي. يستنتج التقرير التالي:


تتحرك أمّتنا باتجاه مُجتمَعَيْن اثنين، مجتمعٌ أسود، وآخر أبيض. هذان المجتمعان منفصلان وليسا متساويين. الفصل العنصري والفقر خلقا، في أحياء الأقليات العرقية الفقيرة، بيئة هدامة، وهي بيئة يجهلها غالبية الأمريكيين البيض. ما لا يفهمه الأمريكيون البيض، وما لا ينساه الزنوج، هو أن المجتمع الأبيض متورط بشكل عميق في وجود أحياء الأقليات هذه. فالمؤسسات البيضاء هي ما صنعته، والمؤسسات البيضاء هي ما تصونه، والمجتمع الأبيض هو الذي يؤيده.

شدد معهد كيرنر على أن جزءًا كبيرًا من جذر المشكلة يكمن في «التمييز والفصل العنصري المتفشيّان في التوظيف والتعليم والإسكان، الأمر الذي أدى لاستمرارية عزل جزء كبير من الزنوج من فوائد التقدم الاقتصادي». استنتج المعهد أن درجة الفصل العنصري الإسكانيّ بلغت حدًا أن «توليد توزيع سكاني لا يعاني من فصلٍ عنصري، يتطلب على ٨٦٪ من مجمل الزنوج أن يغيّروا مكان سكنهم داخل المدينة».

وردًا على الدرجة البالغة من العنصرية العرقية والعنصرية الجنسية التي واجهن في الستينيات، قامت النساء السود وغيرهنّ من الملونات بالتنظيم ضد اضطهادهن، وأنشأن عددًا من المنظمات. في ١٩٦٨ مثلًا، قامت النساء السود المنتميات لـ «جمعيّة التنظيم السلمي الطلابية» (سنِك) بتشكيل «تحالف نساء العالم الثالث». وفي ١٩٧٣، قامت مجموعة من النسويات السود البارزات، مثل فلورنس كينيدي، أليس ووكر، وباربرا سميث، بتكوين «المنظمة النسويّة السوداء الوطنيّة». وفي عام ١٩٧٤، انضمّت باربرا سميث إلى مجموعة من النسويّات السود السحاقيّات لتكوين «جماعة نهر كومباهي» في بونستون، وهي بديل راديكاليّ، واعٍ براديكاليّته، للمنظمة النسوية السوداء الوطنيّة. سُميت جماعة نهر كومباهي احتفاءً بـ «غزوة سكّة الحديد السريّة في نهر كومباهي»* الناجحة في ١٨٦٣، وهي التي خططت لها وقادتها هاريت توبمان، والتي أدت لتحرير ٧٥٠ من العبيد.

البيان التعريفيّ لجماعة نهر كومباهي، الذي نُشِر عام ١٩٧٧، وصف رؤيتها للنسوية السوداء بمناهضة جميع أنواع الاضطهاد، شاملة الجنسانية، الهوية الجندريّة، الطبقة، الإعاقة، والسنّ، وكل هذه عوامل أُلحِقت لاحقًا إلى التقاطعيّة.


أكثر التصريحات عمومًا لسياساتنا في الوقت الحاضر هو أننا ملتزماتٌ بالنضال ضد الاضطهاد العرقي، والجنسي-الغيري، والطبقي، ونرى في تطوير تحليلٍ وممارسة مُدمجتيْن مهمتنا الخاصة، وذلك بناءً على حقيقة أن منظومات الاضطهاد الرئيسية متداخلة ومتشابكة. التوليف بين هذه الاضطهادات يخلق ظروف حياتنا. وكنساء سود، نرى أن النسوية السوداء هي الحراك السياسي المنطقي لمقاومة أنواع الاضطهاد المتعددة والمتزامنة التي تواجهها كل النساء الملونات.

ويضفن كذلك: «نحن ندرك وجود اضطهادٍ عرقيٍّ جنسيٍّ، وهو ليس اضطهادًا عرقيًا وحسب وليس جنسيًا وحسب، وأحد الأمثلة على ذلك هو اغتصاب النساء السود على يد الرجال البِيْض كسلاحٍ سياسي اضطهادي».

عواقب إهمال الفروقات الطبقية والعرقية بين النساء

وكما لوحظ أعلاه، فكتاب بيتي فريدان «السحر الأنثوي» المنشور عام ١٩٦٣ أعطى صوتًا لمعاناة النساء البِيْض من الطبقة المتوسطة المحبوسات حينها في منازلهن الضاحَويّة*(suburban)، إذ صارت حياتهنّ متمحورة حول تلبية احتياجات عوائلهن. وسرعان ما ضرب الكتاب على وتر ملايين من النساء اللاتي سعين للهروب من بؤس العالم المنزلي.

ولكن كتاب فريدان، على كل حال، أهمل أهميّة الفروقات الطبقية والعرقية الحقيقية المتواجدة بين النساء. فقد قامت بيتي بصنع قرار واعٍ باستهداف جمهور نسائي منتمٍ إلى الطبقة المتوسطة. وكما لاحظت كونتس: «محتوى ‹السحر الأنثوي› والاستراتيجية التسويقية التي اتبعتها فريدان والناشرون أهملتا إدراج أمثلة فاعِلة للنساء السود في نقاش فريدان». ومن المؤكد أن فريدان كانت مُدرِكة لهذه الأمثلة؛ فقد جالت في الدوائر اليسارية في الثلاثينيات والأربعينيات، ولكنها قررت في منتصف الخمسينيات (في عز حملة ملاحقة الشيوعيين في الحقبة المكارثيّة) أن تعيد تقديم ذاتها كزوجةٍ ضَاحَويّة غير مسيّسة.

قلة من النساء السود أو النساء العامِلات من أي عرق استطعن أن يتحملن تكاليف طلب فريدان بأن توظِّف النساء خادِماتٍ منزليات لممارسة الأعمال اليومية أثناء قضائهم وقتهن في العمل. ولذا، وكما تشير كونتز، «نادرًا ما امتلكت النساء السوداوات اللاتي قرأن الكتاب ذات حماس القارئات البيض».

تبجل فريدان الأمهات الملازماتِ بيوتهن واللاتي أظهرن شجاعتهن في الانعتاق من أدوارهن التقليدية ساعياتٍ نحو حياة وظيفية ذات دخل جيد، وتكتب، بتعاطف، أنّهن «عانين من مشاكل، بالطبع، ومشاكل صعبة أيضًا، خصوصًا فيما يتعلق بحملهنّ وإيجاد حضانات وخادِمات منزليّات، واضطررن كذلك للتخلي عن وظائفهنّ وقتما انتقل أزواجهنّ لمكان آخر». ولكن لا يبدو أن فريدان وجدت في حياة تلك النسوة اللاتي تشغّلهن النساء الساعيات للتقدم في سيرتهن المهنية كحاضنات وخادِمات شيئًا جديرًا باهتمامها وتعليقها، لم تجد ذلك في حياة تلك النساء اللاتي يعملن طوال اليوم ليعدن إلى منازلهن المليئة بالمهام ومسؤوليات أطفالهنّ الخاصة بهن.

بعد نشر «السحر الأنثوي»، كتبت ناشطة الحقوق المدنية والمؤرخة اليسارية غيردا لينر تبجيلًا للكتاب مع «تحفظ وحيد»: فقد بيّنت فريدان مشاكل المرأة من الطبقة الوسطى المتعلمة وحسب، وتلاحظ ليرنر أنّ «النساء العامِلات، خصوصًا الزنجيّات، لا يعملن في ظل وجود العوائق التي يفرضها السحر الأنثوي وحسب، بل ومعها عوائق التمييز الاقتصادي الأكثر وطأةً».

ومن الجدير بالذكر أنّ فريدان تقدم أطروحةً معادية للمثلية بشدة في كتابها، وردّدت صدى أطروحتها تلك في جهودها التنظيمية في السبعينيات. وتجادل أن «المثلية الجنسية المنتشرة كالدخان في المشهد الأمريكي» تمتلك جذورها في السحر الأنثوي، والذي يمكن أن ينتج «نوعًا من التعلق بين الأم والابن مما يمكن أن ينتج مثلية كامنة أو صريحة…فالابن المُختنِق بِحُبٍّ أموميٍّ طفيليّ يُمنَعه عن النضوج، ليس جنسيًا وحسب، بل في جميع النواحي».

إحياء خرافة المغتصِب الأسود

ولكن العنصرية العرقية لم تكن منحصرة في الجناح الأكثر محافظة لحركة النساء. تصف سوزان براونميلر، صاحبة كتاب «رغمًا عنا: الرجال، والنساء، والاغتصاب»، المنشور عام 1975، جذور اضطهاد النساء بعباراتٍ بيولوجية بالغة الفظاظة، مسندةً إياه إلى قدرة الرجال الجسدية على الاغتصاب: «حين اكتشف الرجال أنهم بإمكانهم الاغتصاب، قاموا بممارسته…اكتشاف الرجل أن عضوه التناسلي بالإمكان توظيفه كسلاح لتوليد الخوف يجب أن يُصنّف كأحد أهم اكتشافات عصور ما قبل التاريخ، إلى جانب استخدام النار وأول فأس حجري. لعب الاغتصاب، حسب اعتقادي، منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى حاضرنا، وظيفةً حاسمة». على هذا الأساس، تستنتج براونميلر أنّ الرجال يستخدمون الاغتصاب ليفرضوا قوّتهم على النساء: «ليس [الاغتصاب] أقلّ أو أكثر من عملية واعية يقوم كل الرجال بتوظيفها لإبقاء كل النساء في حالة خوف».

هذا الإطار النظري، المبني تمامًا على الاختلافات البيولوجية المفترَضة بين الرجال والنساء، سمح لبراونميلر بتبرير افتراضاتٍ رجعية باسم محاربة اضطهاد النساء. تصل براونميلر إلى استنتاجاتٍ صريحة في عنصريتها العرقية في روايتها لأحداث قتل إيميت تيل من غير محاكمة (lynching) عام 1955. كان تيل، ذو الأربعة عشر عامًا، في زيارةٍ لأقربائه في مسيسبي في زمن جيم كرو في صيف ذلك العام، حين ارتكب «جريمة» الصفير تجاه امرأة بيضاء متزوجة اسمها كارولين براينت، ما يمكن وصف بِرعونةٍ مراهق. تمّ تعذيب تيل وقُتِل رميًا بالرصاص قبل أن ترمى جثته اليافعة في نهر تالاهاتشي.

رغم إعدام تيل، تقوم براونميلر بوصف تيل وقاتِله بأنهما يتشاركان قوّةً على «المرأة البيضاء»، مُستخدمة صورًا نمطية سمّتها الناشطة والباحثة السوداء أنجيلا ديفس بـ «إحياء الخرافة العنصرية العرقية القديمة حول المُغتصِب الأسود».

عباراتُ براونميلر ذاتها تبرهن فكرة ديفس:


يندر أن تكشف لنا قضية مثل قضية تيل بهذا الوضوح العداوة الكامنة الجماعية للذكور حول الوصول للنساء، فما بدأ في متجر براينت لا يجب أن يُساء فهمه ويُنظر له كمداعبةٍ بريئة…كان إيميت تيل سَيُري أصحابه السود أنه بإمكانه، وبالاستدلال، بإمكانهم هم أيضًا، الحصول على امرأةٍ بيضاء وأن كارولين براينت كانت أقرب الأشياء ملاءمةً. بصورةٍ عملية، كان تيل ينظر في سهولة الوصول إلى كل النساء البِيض.

كتبت براونميلر أيضًا:


ماذا عن صفير الذئب* الذي قام به تيل، أهو «إيماءةٌ من تبجح المراهقة؟»…لم يكن صفيره سقسقةَ انفعالٍ صغيرة أو تعبيرًا رخيمًا عن الإعجاب بجسدٍ رشيق…بل كان إهانةً متعمدة تقترب إلى الاعتداء الجسدي، تذكيرٌ أخير لكارولين براينت أن هذا الصبي الأسود، تيل، ينوي امتلاكها.

ردّت عليها الروائية والشاعرة والناشطة الشهيرة، أليس ووكر، في الـ «نيو يورك تاميز بوك رفيو» في عام 1975، قائلةً: «لم يكن إيميت تيل مُغتِصبًا. لم يكن رجلًا حتى. كان طفلًا لم يدرك أن الصفير تجاه امرأةٍ بيضاء قد يكلّفه حياته». وصفت ديفس التناقضات الكامنة في تحليل براونميلر للاغتصاب: «في اختيارها الانحياز لجانب النساء البيض مهما كانت الظروف، تُذعِن براونميلر ذاتها إلى العنصرية العرقية. وفشلها في تنبيه النساء البيض بضرورة دمج تحدٍّ شرس للعنصرية العرقية مع معركة ضرورية ضد العنصرية الجنسية لهو أمرٌ تستفيد منه قوى العنصرية العرقية اليوم استفادةً مُعتبرة».

في عام 1976، سمّت مجلة التايم سوزان براونميلر كأحد «نساء العام»، مُثنيةً على كتابها وواصفةً إياه بأنه «أكثر الأبحاث التي أنتجتها الحركة النسوية حتى الآن دقّةً وجرأة». والاعتراضات حول منظور براونميلر الصريح في عنصريته العرقية والقادمة من كاتباتٍ سود معروفات مثل أنجيلا ديفس وأليس ووكر لم يُعر لها التيار السياسي المهيمن أيّ اهتمامٍ يذكر.

محاربة العنصرية الجنسية والعنصرية العرقية في السبعينات

يتوجب الإقرار بأن العديد من النساء الملوّنات اللاتي عرّفن أنفسهن كنسويّات في السبعينات والثمانينات قد انتقدن بشدّة رفض التيار النسوي المهيمن مواجهة العنصرية العرقية وغيرها من أشكال الاضطهاد. دعت باربرا سميث، على سبيل المثال، لشمل كل المضطهدين والمضطهدات في خطابٍ أقلته عام 1979، في تحدٍّ صريح للنسويات البِيْض الغيريّات المنتميات للطبقة الوسطى، حيث قالت:


السبب الذي يجعل من العنصرية العرقية مسألة نسوية يمكن توضيحه، وبسهولة، بواسطة التعريف المتأصل للنسوية: النسوية هي النظرية والممارسة السياسية لتحرير كلّ النساء: النساء الملوّنات، ونساء الطبقة العاملة، والنساء الفقيرات، والنساء المعانيات من تحدّيات بدنيّة، والسحاقيات، وكبيرات السن، وأيضًا النساء البِيض الغيريّات الميسورات اقتصاديًا. أيُّ شيءٍ يقلّ عن ذلك ليس بنسويّة، بل إنه لا يتجاوز كونه قيام بعض النساء بتعظيم قوتهن الذاتية.

ولكن أثناء الستينات والسبعينات، شعرت العديد من النساء السود والنساء الملوّنات الأخريات أيضًا بالتهميش والاغتراب بسبب قلّة الاهتمام بتحرّر النساء داخل الحركات القومية والحركات المناهضة للعنصرية الأخرى. تشكّلت جماعة نهر كومباهي، على سبيل المثال، بواسطة نساءٍ من قدامى أعضاء حزب الفهد الأسود وغيره من المنظمات المناهضة للعنصرية. في مثل هذا السياق السياسي، أسست النسويات السود تقليدًا يرفض إعطاء الأولوية لاضطهاد النساء على العنصرية العرقية، والعكس بالعكس. يفترض هذا التقليد وجود ارتباطٍ بين العنصرية العرقية والفقر في المجتمع الرأسمالي، بالتالي رافضًا استراتيجيات الطبقة الوسطى لتحرر النساء المتجاهِلة لمركزية الطبقة في حياة النساء الفقيرات ونساء الطبقة العاملة.

عارضت نسويّاتٌ سود مثل أنجيلا ديفس نظريّة وممارسة النسويات البِيْض اللاتي فشلن في التطرق لمركزية العنصرية العرقية. كتاب ديفس الرائد، «النساء والعرق والطبقة»، على سبيل المثال، يدرس تاريخ النساء السود في الولايات المتحدة من منظورٍ ماركسي، منطلقًا من نظام العبودية ومستمرًا إلى الرأسمالية الحديثة. يدرس كتابها أيضًا الطرق العديدة التي تمثل من خلالها مسائل الحقوق الإنجابية والاغتصاب، بالتحديد، تجاربًا مختلفة تمامًا للنساء السود والنساء البِيْض بسبب العنصرية العرقية. سندرس كُلًّا من هاتين المسألتين أدناه.

أولًا: الحقوق الإنجابية واعتداءات التعقيم العرقية

اعتبرت نسويّات التيار المهيمن في الستينات والسبعينات مسألة الحقوق الإنجابية، حصرًا، كمسألة كسب تقنين الإجهاض، دون الإقرار بالسياسات العنصرية العرقية التي منعت تاريخيًا النساء الملوّنات من حمل وتربية ما رغبن من الأطفال.

تجادل ديفس أن تاريخ حركة تنظيم النسل (birth control) وبرامج التعقيم العنصرية الخاصة بها تجعل، بالضرورة، من مسألة الحقوق الإنجابية أعقد بكثير للنساء السود والنساء الملوّنات، حيث كُنّ تاريخيًا هدفًا لهذا التعسف. تتقفى ديفس المسار الذي اتخذته رائدة التحكم بالإنجاب المعاصرة للقرن العشرين مارغريت سانغر منذ أولى أيامها كاشتراكية حتى تحوّلها وانتقالها إلى حركة تحسين النسل (eugenics movement)، وهي منهجيّة تحكم بعدد السكان صريحة في عنصريتها العرقية تستند على شعار «أطفالٌ [أكثر] من المستأهلين، وأقل من غير المستأهلين».*

و«غير المستأهلات» لحمل الأطفال هؤلاء، وفق دعاة تحسين النسل، تضمنّن المعاقين/ات ذهنيًا وبدنيًا، والمساجين، والفقراء الملوّنين. وكما أشارت ديفس: «بحلول عام 1932، أمكن ‹جمعية تحسين النسل› أن تتفاخر بتمريرِ ستة وعشرين ولاية قوانين تعقيمٍ إجبارية، وأن الآلاف من ‹غير المستأهلين› مُنِعوا جراحيًا من الإنجاب».

في إطلاق «مشروع الزنوج» عام 1939، جادلت «عصبة تنظيم النسل الأمريكية» الخاصة بساغنر أن «جماهير الزنوج، بالخصوص في الجنوب، لا يزالون يتكاثرون (breed) بلا مبالاة وبصورةٍ كارثية». وفي رسالة شخصية، أسرَّت ساغنر: «لا نريد أحدًا أن يعتقد أننا نرغب بإبادة مجتمعات الزنوج، والقسيس هو الرجل الذي بإمكانه تصحيح هذه الفكرة إن طرأت على بال أفرادهم الأكثر تمرّدًا».

تركت السياسات العنصرية العرقية للتحكم بعدد السكان أعدادًا كبيرة من النساء السود واللاتينيات والمنتميات للسكان الأصليين عقيماتٍ إما رغمًا عنهن أو دون علمهن. في عام 1983، وجدت محكمة في ألاباما أن ما بين مئة ومئة وخمسين ألف مراهقة سوداء فقيرة تمّ تعقيمهن سنويًا في ألاباما.

شهدت الستينات والسبعينات انتشار وباء التعسف في التعقيم وغيره من أشكال الإكراه والقسر المستهدِفة النساء السود واللاتينيات والمنتميات للسكان الأصليين، إلى جانب ارتفاعٍ عاد في النضالات ضد هذا التعسف. بيّنت دراسة أجريت في السبعينات أن 25 بالمئة من النساء المنتميات للسكان الأصليين تمّ تعقيمهن وأن النساء السود واللاتينيات المتزوجات تمّ تعقيمهن بمقدارٍ أكبر بكثير من عموم النساء المتزوجات. بحلول عام 1968، تمّ تعقيم ثلث النساء البالغات سنّ الإنجاب في بورتو ريكو تعقيمًا دائمًا، إذ لا تزال مستعمرةً أمريكية.

ولكن النسويات البِيْض المنتميات للتيار المهيمن لم يتجاهلن هذه النضالات وحسب بل زدن من حدة المشكلة. اعتنقت العديد منهن أهداف التحكم بعدد السكان بكل تداعياته العنصرية العرقية بذريعة كونه قضيّة «ليبرالية».

في عام 1982، في وقتٍ كانت فيه المنتميات للسكان الأصليين وغيرهن من النساء الملوّنات تناضلن ضد سياسات التبنّي القسري التي استهدفت مجتمعاتهن، سألت «مجلّة مِس» (Ms. Magazine) قارئاتها، وهن غالبًا بيضٌ من الطبقة المتوسطة: «‹ماذا تفعلين إن كُنتِ مواطنة واعية، مهتمة بقضايا التضخم السكاني والمشاكل البيئية، وتحبين الأطفال، وترغبين بأن تري كيف سيبدوا أطفالك حين يكبرون، وترغبين بأكثر من واحد؟›، عرضت مجلة ‹مس.› الحل: ‹أنجبي واحدًا، وتبنّي واحدًا آخر›». وكان الأطفال المعروضون للتّبني، في الغالب، منتمين للسكان الأصليين، أو كانوا سودًا، أو لاتينيين، أو آسيويين.

بدون أدنى شك، كان للسماح بالإجهاض في قرار المحكمة الأمريكية العليا في قضية «رو ضد ويد» عام 1973 أهميّةٌ بالغة لكل النساء وكان ذلك الحكم نتيجة مباشرة للنضال الشعبي. فبسبب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للعنصرية العرقية، كانت حيوات النساء السود واللاتينيات والملوّنات، الأكثر عرضةً للخطر حين كان الإجهاض عملًا غير قانوني. قبل السماح بالإجهاض في مدينة نيو يورك عام 1970، على سبيل المثال، شكّلَت النساء السود 50 بالمئة من مجمل النساء المتوفّيات نتيجة إجهاضٍ غير قانوني، بينما شكلت النساء البورتو ريكيّات 44 بالمئة.

عادةً ما يُعتبر السماح بالإجهاض عام 1973 أهمّ إنجازات حركة النساء الحديثة. ولكن ذلك الانتصار صاحبه مع نهاية ذلك العقد انتصاراتٌ معادِلة في الأهمية، وقلّما يُحتفى بها، ضدّ التعسف في التعقيم، وتلك كانت نتيجة نضالاتٍ شعبية خاضتها، في الغالب، نساءٌ ملوّنات. في عام 1978، قبلت الحكومة الفدرالية أخيرًا بمطالب الناشطات المنتميات للسكان الأصليين، والناشطات السود واللاتينيات، عن طريق فرض ضوابط تنظيمية على التعقيم. تضمن ذلك فترات انتظارٍ إلزامية ونماذج تفويض مكتوبة بذات اللغة التي تتحدثها الامرأة الموافقة على تعقيمها.

تشير ديفس إلى أن النساء الملوّنات «كُنَّ أكثر إدراكًا بكثير من أخواتهن البِيْض لمشارط المُجهِضين غير الأكفاء تلك المُهلِكة في خُرْقِها، أولئك المُجهِضون الساعون للاسترباح في أوضاع المنع»، ومع ذلك، فهؤلاء النسوة كُنَّ غائباتٍ في الغالب عن حملات حقوق الإجهاض. تستنتج ديفس: «كان على ناشطات حقوق الإجهاض لأوائل السبعينات أن يدرسن تاريخ حركتهن. فلو كُنَّ قد قُمن بذلك، لربما أدركن لم تبنت العديد من أخواتهن السود موقف اشتباهٍ تجاه قضيّتهن».

ثانيًا: البُعد العرقيّ للاغتصاب

إنّ الاغتصاب أحد أكثر تجليّات اضطهاد النساء ضررًا في أرجاء العالم. ولكن كان للاغتصاب بعدٌ عرقيّ دنيء في الولايات المتحدة، منذ عصر العبودية، بصفته سلاحًا مهمًا في الحفاظ على منظومة فوقيّة البِيْض. تجادل ديفس أن الاغتصاب «بعدٌ جوهري في العلاقات الاجتماعية بين مالك العبد وعبده»، شاملًا الاغتصاب الروتيني للنساء المُستعبدات السود بواسطة أسيادهن البِيْض.

تصف ديفس الاغتصاب كـ «سلاح هيمنة، سلاح قمع، هدفه الخفي هو إخماد إرادة المقاومة لدى النساء المُستعبدات، و، أثناء ذلك، إضعاف معنويّات رجالهن». نجى الاغتصاب الراسخ اجتماعيًا للنساء السود من إلغاءِ العبودية واتخذ شكله الحديث: «الاغتصاب الجماعي، الذي ارتكبته الـ ‹كو كلوكس كلان›* وغيرها من المنظمات الإرهابية المتواجدة في فترة ما بعد الحرب الأهلية، أصبح سلاحًا سياسيًا صريحًا في حملة إيقاف الحركة الساعية لمساواة السود».

تشير النسوية الماركسية السوداء غلوريا جوزيف للملاحظة التالية حول تجربة العنصرية العرقية المشتركة بين النساء والرجال السود: «تجربة العبودية للسود في الولايات المتحدة ساهمت، ويا لسخرية القدر، في المساواة بين الذكور والإناث. سواءً أعملوا في الحقول أو في المنازل، تساوى الرجال والنساء في تجريدهم من إنسانيّتهم ومعاملة الأسياد لهم بوحشية». وفي المجتمع الحديث، تستخلص، «اغتصاب النساء السود وقتل الرجال السود من غير محاكمة وإخصائهم لهي أعمالٌ متساوية في شناعتها».

كمن نقيض الصورة المُتخيَّلة للفتاة البيضاء الجنوبية العفيفة، الفريسة الدائمة للذكر الأسود المغتصِب، في الصورة المُتخيَّلة للامرأة السوداء الفاسقة الباحثة عن اهتمام الرجال البِيْض الجنسي. وكما تجادل ديفس: «تلك الصورة المُختلَقة للرجل الأسود كمُغتصِب دائمًا ما عزّزت الصورة المصاحِبة والملازمة لها: صورة الامرأة السوداء كفاسقةٍ بصورة مزمنة…إذ يُنظَر لهن كـ ‹نساءٍ منحلّات› وكعاهرات، وبالتالي استلزمت هذه النظرة افتقار صرخات النساء السود بتعرضهن للاغتصاب للشرعية». وكما تشير ليرنر بصورة مماثلة: «خرافة المغتصِب الأسود للنساء البِيْض هي التوأم لخرافة الامرأة السوداء الفاسدة؛ كلتاهما صُمِّمتا للدفاع عن الاستغلال المستمر للرجال والنساء السود وتسهيله».

لم تكن براونميلر وحيدةً في فشلها في تحدي الافتراضات العنصرية العرقية بشأن الاغتصاب، إذ استلزم ذلك الإخفاق إحياءَ تلك الخرافات. تنتقد ديفس، بحدة، النسويّات البِيْض الناشطات في فترة السبعينات لإهمالهن توليفَ تحليلٍ للعنصرية العرقية مع نظرية وممارسة محارَبة الاغتصاب: «أثناء الحركة المعاصرة المناهِضة للعنصرية، لم تضطلع إلّا مُنظِّراتٌ نسوياتٌ قلّة بتحليلٍ جاد للأوضاع الخاصة المحيطة بالمرأة السوداء كضحية للاغتصاب. العقدة التاريخية التي تربط النساء السود، المعتدى عليهن بواسطة الرجال البيض بصورة ممنهجة، بالرجال السود، المقتولين والمشوّهة أجسادهم بسبب التلاعب العنصري العرقي بِتُهَم الاغتصاب، لم يتم الإقرار بها بصورة معتبرة قليلًا إلّا مؤخرًا».

النسوية السوداء اليسارية بصفتها سياساتِ شَمْل المهمّشين/ات

حاولَت هذه المقالة أن تعرض كيف أنّ النسويات السود، ومنذ وقت العبودية، طورن تراثًا سياسيًا متمايزًا مستندًا على فهم منهجي لأنواع الاضطهاد المتشابكة: العرقية، والجندرية، والطبقية. منذ سبعينات القرن الماضي، بَنَت نسوياتٌ سود وغيرهن من الملوّنات في الولايات المتحدة على هذا التحليل وطوّرن منهجًا يوفر استراتيجيةً لمحاربة كل أشكال الاضطهاد في نضالٍ مشترك.

كثيرًا ما قامت النسويات السود، وبجانبهن اللاتينيّات والملوّنات الأخريات، في فترة الستينات – اللاتي انتقدن كُلًّا من الحركة النسوية ذات الأغلبية البيضاء، لعنصريتها العرقية، والحركات القومية والمناهضة للعنصرية، لعنصريّتها الجنسية – بتشكيل منظماتٍ منفصلة بإمكانها التصدي للاضطهاد المعيّن الذي واجهن. وحين شدّدن، بحق، على الفروقات العرقية والطبقية بين النساء، قُمْنَ بذلك لأن هذه الفروقات غالبًا ما تجاهلتها حركة النساء في ذلك الوقت، و، بالتالي، تركت تلك الحركة النساء السوداوات والملوّنات دون اعتبارٍ لا في النظرية ولا في الممارسة.

ولكن الهدف النهائي بالنسبة للنسويات اليساريّات السود والملوّنات الأخريات لم يكن، كما اعْتُقِد لاحقًا، الفصل العرقي الدائم. باربرا سميث صاغت منهجَ شملٍ لمحاربة أشكال الاضطهاد المتعددة، بادئًا ببناء الائتلافات حول نضالاتٍ معينة. فكما أشارت في عام 1983: «اتّخذت القطاعات الأكثر تقدميّة من حركة النساء، من ضمنها النساء البِيْض الراديكاليّات، [مسائل العنصرية العرقية] وغيرها من المسائل، على محملٍ بالغٍ في الجديّة». تجادل النسوية الأمريكية الآسيوية ميرل وو بصراحة: «اليوم…أشعر بألم عميقٍ أشدّ حين أدرك عدد الناس، هذا العدد الهائل من الناس، الذين، وبسبب العنصرية العرقية والجنسية، لا يرون القوّة التي نضحي بها حين لا نتكاتف». ولكنّها تضيف: «ليست كلّ النساء البِيْض عنصريّاتٍ عرقيًا، وليس كلّ الرجال الأمريكيين الآسيويين عنصريّين جنسيًا. هنالك تغيّراتٌ مرئيّة. تغيّراتٌ حقيقية، ملموسة، وإيجابية».

كان هدف التقاطعية في ظل التراث النسوية السوداء هو التوجه نحو بناء حركة أقوى لتحرّر النساء تقوم بتمثيل مصالح كل النساء. وصفت باربرا سميث منظورها الخاص للنسوية في عام 1984 قائلةً: «طالما تمنّيت أن أتمكن من نشر فكرة أن حركةً ملتزمةً بالكفاح ضد الاضطهاد الجنساني والعرقي والاقتصادي والغيري-الجنسي، ناهيك عن معارضتها للإمبريالية ومعاداة السامية، وأشكال الاضطهاد التي يواجهها المعاقون/ات بدنيًا، كبار السن والشباب والشابّات، وتتحدى، في الوقت نفسه، النزعة العسكرية والدمار النووي المخيّم، لهي النقيض التام لضيق الأفق».

هذه المنهجية لمحاربة الاضطهاد لا تكمّل على الماركسية وحسب بل تعزّز النظرية والممارسة الماركسية، والتي لا تسعى فقط لتوحيد من تستغلّهم/ن الرأسمالية، بل حتى من تضهدهم/ن أيضًا، في حركة واحدة تكافح من أجل تحرّر البشرية جمعاء. ومنهجية النسوية السوداء الموصوفة أعلاه تعزّز عبارة لينين الشهيرة من كتاب «ما العمل؟»: «إن وعي الطبقة العاملة لا يمكن أن يكون وعيًا سياسيًا حقيقيًا إلّا إذا تدرّب العمال على الرد على كل أشكال الاستبداد، والظلم، والعنف وسوء المعاملة مهما كانت الطبقة المتضررة، وإلّا إذا تدرّبوا، علاوة على ذلك، أن يستجيبوا من وجهة نظر اشتراكية ديمقراطية لا سواها».

أقرّت جماعة نهر كومباهي – حيث كانت، على الأرجح، أكثر المنظمات النسوية السوداء يساريّةً عن إدراك في السبعينات – امتثالها بالاشتراكية ومناهضتها للإمبريالية، بينما دعت، مُحقّة، لاهتمامٍ أكبر بالاضطهاد:


نحن ندرك أن تحرّر كل الأناس المضطهدين والمضطهدات يضطر تدمير الأنظمة السياسية-الاقتصادية الرأسمالية والإمبريالية، و، معها، الأبوية. نحن اشتراكيّاتٌ لإيماننا بأن العمل يجب أن يُنظَّم من أجل المصلحة الجماعية الخاصة بمن ينفذونه وينفّذنه ويخلقون ويخلقن المنتجات، وليس من أجل أرباح أرباب العمل. الموارد المادية يجب أن تُوزَّع، وبصورة متساوية، بين من يخلقون ويخلقن هذه الموارد. لكننا لسنا مقتنعاتٍ أن ثورةَ اشتراكية ليست أيضًا ثورةً نسوية ومناهضةً للعنصرية يمكن لها أن تضمن تحرّرنا…مع أننا نتفق، جوهريًا، مع نظرية ماركس وفق تطبيقها على العلاقات الاقتصادية المعيّنة التي حللها، نحن نعلم أن تحليله يجب أن يُمدَّد أكثر من أجل أن نفهم وضعنا الاقتصادي المعيّن كنساءٍ سود.

في الوقت نفسه، لا يمكن للتقاطعية أن تستبدل الماركسية – والنسويّات السود لم يحاولن القيام بذلك. التقاطعية مفهومٌ غرضه فهم الاضطهاد، لا الاستغلال. حتى المصطلح شائع الاستخدام «العنصرية الطبقية» (classism) يصف وجهًا من أوجه الاضطهاد الطبقي، ألا وهو العجرفة والنخبوية، ولا يصف الاستغلال. أغلب النسويات السود يُقررن بالجذور النظامية للعنصريتين العرقية والجنسية، ولكن تركيزهن على الصلة بين نظام الاستغلال والاضطهاد أقل من تركيز الماركسيّين/ات بكثير.

الماركسيّة ضرورية لأنها توفر إطارًا لفهم العلاقة بين الاضطهاد والاستغلال (أي، الاضطهاد كحصيلة لنظام الاستغلال الطبقي)، ولتعريف معالم استراتيجيةٍ هادفة لخلق الظروف المادية والاجتماعية التي تسمح بإنهاء كلٍّ من الاضطهاد والاستغلال. نُقّاد الماركسية ذمّوا هذا الإطار واصفين إيّاه كوجهٍ من أوجه «الاختزالية الاقتصادية» الخاصة بماركس.

ولكن، وكما تردّ الماركسية النسوية مارثا هيمينيز على هذه الانتقادات، «أن نجادل، بالتالي، أنّ الطبقة أمرٌ جوهريّ لا يعني أن ‹نختزل› الاضطهاد الجندري أو العرقي في الطبقة، بل أن نُقرّ أن القوة الأساسية الكامنة و‹غير المسمّاة› الواقعة في جذور ما يجري في التفاعلات الاجتماعية المرتكزة في ‹التقاطعية› هي قوّةٌ طبقية». تملك الطبقة العاملة القوة اللازمة لقيادة نضالٍ في مصلحة كلّ من يعانون وتعانين من الظلم والاضطهاد، وذلك لأن كلًا من الاستغلال والاضطهاد متأصّلان في الرأسمالية. الاستغلال هو الوسيلة التي تسرق بها الطبقة الحاكمة فائض القيمة من العمّال، والأشكال المتنوعة من الاضطهاد تلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على حكم أقليّة صغيرة على الأغلبية الساحقة. في كلا الحالتين، العدو واحد وهو ذات العدو.

يساعد النضال الطبقي على تعليم العمّال والعامِلات، وبسرعة بالغة في بعض الأحيان، متحدّيًا الأفكار والتحيّزات الرجعية المحافِظة على انقسام العمال. حين يُضرب العمّال والعاملات، مجابهين/ات رأس المال ووكلاء القمع الخاصين به (الشرطة)، تُصبِح الطبيعة الطبقية للمجتمع جليّةً فجأة، ويمكن للأفكار العنصرية العرقية أو الجنسية أو الهوموفوبية المصقولة لسنواتٍ طوال أن تختفي في غضون أيّامٍ خلال موجة إضرابٍ شعبية. ومنظر مئات الشرطة المصطفين لحماية ممتلكات ربّ العمل، أو من أجل إدخال مجموعةٍ من العمّال كاسري الإضراب، أمرٌ يكشف للناس الكثير حول الطبيعة الطبقية للدولة في ظل الرأسمالية.

تكشف سيرورة الصراع للعمال أيضًا حقيقةً ثانية مخفية تحت ستار أيديولوجيا الطبقة الحاكمة: بصفتهم منتجي ومنتِجات البضائع والخدمات التي تبقي على جريان الرأسمالية، يملك العمّال القدرة على إيقاف المنظومة عن طريق الإضراب العام. ولا يملك العمّال القدرة على إيقاف المنظومة وحسب، بل واستبدالها بمجتمعٍ اشتراكي، مبني على الملكية المشاعة لوسائل الإنتاج. ومع أنّ الفئات الأخرى في المجتمع تعاني من الاضطهاد، فالطبقة العاملة هي الفئة الوحيدة التي تملك هذه القوّة الملموسة.

هنالك أسبابٌ بسيطة توضح سبب زعم ماركس أنّ الرأسمالية خلقت، من الطبقة العاملة، حفّارَ قبرها. ولكن حين يعرّف ماركس الطبقة العاملة كفاعل التغيّر الثوري، فهو يصف إمكانيّته التاريخية، بدلًا من نتيجةٍ متوقعة سلفًا. وهذا هو المفتاح لفهم كلمات لينين المذكورة آنفًا. والفهم اللينيني للحزب الطليعي يستند، بأكمله، على إدراكِ أن معركة الأفكار يجب أن تُحارَب في داخل حركة الطبقة العاملة. بإمكان شريحةٍ من العمال مقتنعة بالبديل الاشتراكي ومنظّمة في حزبٍ طليعي أن تُقنِع العمّال الآخرين بترك أيديولوجيا الطبقة الحاكمة وتوفير منظورٍ بديل للعالم. وبالنسبة للينين، ينطوي على مفهوم الوعي السياسي استعدادُ العمّال لمناصرة مصالح كلّ المضطهَدين والمضطهَدات في المجتمع، كجزءٍ لا يتجزّأ من الصراع من أجل الاشتراكية.

بصفته إضافةً للنظرية الماركسية، يقودنا مفهوم التقاطعية نحو مستوىً لفهم طبيعة الاضطهاد أعلى بكثير من ذلك الذي طوّره الماركسيوّن والماركسيّات الكلاسيكيّون، متيحًا لنا تطويرًا أكثر للطرق الممكن من خلالها بناء التضامن بين كلّ من يعانون وتعانين الاضطهاد والاستغلال في ظلّ الرأسمالية من أجل بناء حركةٍ متّحدة.

المصدر: إنترناشنال سوشالست رفيو

—-

ملاحظات فريق الترجمة:

* الملوّنون (people of color): كلمة تشير للأقليات العرقية.

* أقليّة محمية (protected minority): الأقلية المحمية، أو الطبقة المحمية، في القانون الفدرالي الأمريكي هي الفئات الممنوع استهدافها في التمييز، منها: الدين، والعرق، والجنسية، والجنس، والإعاقة.

* الفوقية البيضاء (white supremacy): عقيدة قائلة بتفوّق البِيْض الأوروبيين عرقيًا.

* النظام الأمومي (matriarchy): منظومة مجتمعية تحكمها أو تديرها النساء.

* سكّة الحديد السريّة/تحت أرضية (Underground Railroad): شبكة من المآوي السريّة التي استخدمها العبيد ذوي الأصول الأفريقية في القرن التاسع عشر للهرب من العبودية في الجنوب الأمريكي، إمّا شمالًا إلى الولايات الحرّة أو كندا، أو جنوبًا إلى المكسيك، أو بحرًا إلى خارج القارة. ساعدهم في ذلك أحرارٌ سود، وإلغائيّون بِيض، عبيدٌ سابقون، وأفرادٌ منتمون للسكان الأصليين. استخدم مديرو اسم «السكة الحديدة» مجازًا، ووظّفوها استعاراتٍ متعلقة بها في حديثهم بالرموز، فسُمِّيت المآوي بـ «المحطّات» والعبيد الهاربون بـ «الركّاب» والمرشدين بـ «الكمسريّين». لقراءة المزيد حول العبودية في الولايات المتحدة يمكن قراءة المقالات التالية المنشورة في المدونة: «جذور العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية»، «العبودية والحركة الإلغائية»، «الحرب الأهلية الأمريكية ومسألة العبودية».

* ضاحويّ (suburban): أي، قاطني الضواحي.

* صافرة الذئب: عبارة يقصد بها صفير الإصبع لأجل الإبداء بالإعجاب الجنسي.

* الشعار بالإنجليزية: «More] Children from the fit, less from the unfit]». الشعار يستند على عبارة «Survival of the fittest» والتي تُترجم عادةً إلى «البقاء للأصلح».

* «كو كلوكس كلان» (Ku Klux Klan): مجموعات عنصرية عرقية يمينية متطرّفة تدعو لـ«تطهير» المجتمع الأمريكي عرقيًا، مؤمنةً بالفوقية البيضاء، ودينيًا، حيث تتصف بمعاداة الكاثوليكية واليهودية. نفّذت العديد من العمليات الإرهابية من قتل واغتيال وتفجيراتٍ واغتصاب.