كُحل ثقيل.. عقل خفيف.. والضحك



نوال السعداوي
2016 / 10 / 2


أتقدم فى العمر وتزداد المتعة بعيدا عن الضوضاء والأضواء، أكتشف لذة الوحدة مع نفسي، أرشف قهوتى على مهل، مع فطيرة ساخنة من الفرن وملعقة عسل نحل، أتذكر طفولتى كأنما الأمس، الحقول الخضراء الممدودة على شط النيل،
نوارات القطن والبرتقال والتين البرشومي، نضحك ونغنى ونبكى ثم نضحك، أتأمل الماضى فى العمق، تخترق عيناى السطح الى الجوهر، تسقط الأحجبة من فوق الأرض والسماء، وأرى ما كنت عنه عمياء، منذ الطفولة تطمس الرؤية طبقات من الغشاوات، تنقشع طبقة وراء طبقة، مع تقدم الوعى واتساع القلب والصدر، ينمو العقل فى الهواء الطلق والشمس والحرية، انتزعت حريتى من أنياب القدر والزمان والمكان، ودفعت الثمن كاملا دون نقصان.

لاينتزعنى من هدوئى شيء ، والمصعد (لحسن الحظ) لا يصعد، وجرس الباب لا يدق، انقطعت الكهرباء مع ارتفاع الأسعار وتوقفى عن الدفع، وأصبح التليفزيون والتليفون (الأرضى والسماوي) من مخلفات الماضي، والأحداث الجارية لم تعد جارية إلا بمحض الصدفة، حين أزور صديقة العمر (اسمها صديقة) أتمشى الى بيتها سيرا على الأقدام، أو بالدراجة غير البخارية، أحركها بقدمى فتحملنى أينما أريد، دون حاجة لسيارة ولا سائق ولازوج أو خلافه. العجلة اكتشاف طفولى مدهش، متعة الحركة الذاتية ونمو العضلات فى الهواء الطلق، تنبع السعادة من حركة الذات، من فكرة الاستغناء، والاعتماد على النفس، مانراه بعيوننا، ونلمسه بأيدينا، وندركه بعقولنا، ويسعدنا من قلوبنا، ويوجعنا فى اللحم والعظم، ويفجعنا فى العمق الى حد الانفجار بالضحك: الضحك اكتشاف طفولى مدهش يفتح العقل ويكشف خداع العالم شهدت فى بيت صديقتي، حواراً تليفزيونيا و أدارته، مذيعة كبيرة الاسم، صغيرة الرأس الملفوف بطبقات من الأحجبة، عيناها تغرقان فى الكحل الثقيل الأسود الأزرق، يغطى المساحة كلها فوق جفونها ورموشها وتحت حاجبيها الرفيعتين شبه المتلاشيتين، بصعوبة كبيرة ظهرت عيناها داخل ذلك المحيط الداكن الكثيف، وملامح وجهها اختفت تحت طبقات من المساحيق، البيضاء والحمراء والبرتقالية.

قالت صديقتى ضاحكة: كحلها ثقيل وعقلها خفيف، واضعة الساق فوق الساق داخل ثوبها الضيق، يكشف ركبتيها وساقيها وعنقها حتى الشق بين نهديها، ورأسها ملفوف بغطاء العفة، تحاور، الأدباء والمفكرين دون أن تقرأ لهم شيئاً.

كانت المذيعة تبربش من تحت الكحل فى ورقة أمامها، تخطيء نطق الكلمات العربية، تخلطها بكلمات فرنسية وإنجليزية، ضيفة البرنامج أديبة دمثة الأخلاق، ترد على الأسئلة المتقافزة المستفزة بهدوء، أحد الأسئلة عن أسباب التخلف الثقافي، قالت الضيفة الأديبة: الثقافة والإبداع الفكرى لايزدهران إلا فى ظل الحريات، قاطعتها المذيعة على الفور مؤكدة: الحريات، عندنا متوافرة والحمد لله.

وقالت صديقتي: لابد أن هذه المذيعة، وأمثالها من الإعلاميين، يتلقون تدريبا متقنا يؤهلهم، للتدخل الفوري، إن اشتموا رائحة النقد من قريب أو بعيد. كانت الأديبة تتكلم بأدب وتقول للمذيعة: أتفق معك يا أستاذة، لكننا نود المزيد من هذه الحريات وألا يتعرض أحد من المفكرين أو المبدعين للتهديد بالقتل أو للسجن أو للمنفي، ردت المذيعة بسرعة: ليس عندنا مفكرون أو مبدعون فى السجن يا أستاذ بل بلطجية أو الحنجوريون الذين يدعون الثورية والنضال من أجل الشعب.

واصلت الضيفة كلامها بهدوء، مؤكدة أن لا ثقافة ولا إبداع بلا حريات، وأن بالسجن مبدعين وليسوا بلطجية وذكرت بعض الأسماء وانتقضت المذيعة: هؤلاء لم يكتبوا أدبا، وسألتها الأديبة: هل قرأت لهم؟

ردت المذيعة: لا أقرأ مايخدش الحياء.

وغيرت صديقتى القناة، كان فيلم المجانين فى نعيم، لاسماعيل يس، شهدنا الجزء الأخير منه، ضحكنا، كما فى طفولتنا، مع نجيب الريحانى ضحكنا، تعودت صديقتي، قبل أن تنام كل ليلة، أن تضحك مع نفسها على نفسها، تقهقه بصوت عال على ما أضحكنا وأبكانا فى طفولتنا الى حد الضحك: أتذكرين يانوال، حين وقع عباس أفندى من فوق المنصة وهو يتمشى كالديك الرومى وعجزنا عن التوقف عن الضحك حتى طردنا من الفصل، لماذا يخاف المدرسون من الضحك، أيكون الضحك نور العقل؟