ثقب فى جدار العقل



نوال السعداوي
2016 / 10 / 26


أتذكر جدتى ماتت منذ سبعين عاما حين أقرأ تصريحات النخب، باختلاف مشاربهم السياسية والحزبية، من اليسار الليبرالى والعلمانى الى اليمين الرأسمالى والاحتكارى الى الأطباء السلفيين الإسلاميين والمسيحيين.
كانت جدتى تردد المثل اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع وتؤنب زوجها حين يتبرع للجامع بالقروش التى تأتيها من زراعة حقلها، فى الجدار حفرت ثقبا عميقا تخبيء فيه مصاريف التعليم والطعام لأسرتها مات زوجها (لحسن حظها) وهى شابة قادرة على العمل والإنفاق على البيت كان العمدة يتهمها بالجهل بالدين لأنها لم تقرأ القرآن، وكانت تقول العمل عبادة ياعمدة وتحكى عن قوم قالوا للرسول فلان يصلى الليل والنهار فسألهم ومن يطعم عياله؟ قالوا كلنا قال كلكم خير منه.

ألم تفهم جدتى تجديد الفكر الدينى أكثر من رجال الدين وأطباء اليوم؟ فى التاريخ علاقة بين مهنة الطب والكهنة ربما لهذا لم يخفق قلبى وعقلى لأى زميل إلا طبيب واحد لم يسد أذنيه بخراطيم السماعة المعلقة حول عنقه لم يكتب الأقراص لعلاج الفقر والظلم والجهل لم يفتح عيادة خاصة أو مستشفى استثماريا يهرب من الضرائب وتم شطب اسمه من سجلات المهن الحرة حين أعلن أنه ضد حرية التجارة بصحة الإنسان حرموه من جائزة الدولة وبدل العدوى ومات محبوسا فقيرا.

ليس غريبا أن الدكتور جابر نصار ليس طبيبا، لم يتطور التعليم الطبى إلا قليلا منذ عصر الكهنة لم يتم الفصل بين السجن والمستشفى إلا حديثا ربما لهذا ترتدى طبيبات نقابا أو حجابا وينتمى أطباء للسلفية وداعش والقاعدة والطالبان وبوكو حرام، ويجاهد أطباء للإبقاء على جراحات الختان أو تقطيع أجسام الأطفال.

لماذا لا يفتح التعليم الطبى عقول الأطباء؟ لماذا لا تفتح العقل علوم الطب؟ تشريح الجثث والباثولوجى والبيولوجى والسيكولوجى والجراحة والأمراض الباطنة وغيرها.

الأطباء لا يدرسون التاريخ لمعرفة أسباب الأمراض الجسمية والنفسية، وربطها بالأمراض السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والأخلاقية ربما لهذا تستمر جميع هذه الأمراض حتى اليوم.

يتعلم الأطباء جراحات الختان دون أن يتعلموا «لماذا» يتم إجراؤها بمثل ما يحفظ رجال الدين النصوص والآيات دون أن يتعلموا مقاصدها وأسباب تنزيلها.

كلمة «لماذا» محرمة فى التعليم كله وليس الطبى فقط فالسؤال «لماذا» يقود العقل الى الأسئلة المحرمة أو الكفر بلغة الطبيب السلفى الذى يستبدل بجوهر الدين خانة تملأ بالقلم على الورق. منذ الولادة حتى الموت لا نتعلم أن نسأل؟ لماذا أنا مسلم أدخل الجنة وزميلى قبطى يدخل النار؟

لماذا أخرج وألعب مغ أصدقائى وأختى تبقى بالبيت تطبخ وتكنس؟ لماذا ترتدى أختى الحجاب وأنا لا أرتديه؟ لماذا يحق لى تأديب زوجتى بالضرب ولا يحق لها تأديبى بالضرب؟ لماذا يحق لى الزواج بامرأة قبطية ولا يحق لأختى الزواج بقبطى؟ لماذا تطالب النخب، على إختلافها بالغاء خانة الديانة من بطاقة الرقم القومى والإبقاء عليها فى السجل المدني؟ ثم يقولون من أجل استخدامها فى المجالات التى تتطلب معرفة الديانة كالزواج؟

يطلبون تجريم أى تمييز على اساس الدين او الجنس او العرق ثم يناقضون أنفسهم ويؤكدون التمييز على أساس الجنس فى الزواج يطالبون بإلغاء التمييز الدينى والجنسى فى القانون والتعليم والتوظيف والاعلام والرياضة البدنية وفى كل شيء الا الزواج.

إلغاء خانة الديانة من سجلات جامعة القاهرة قرار طبيعى عاقل يتسق مع العدل والدستور وجوهر الأديان لكن لماذا لا يتم إلغاء جميع خانات التمييز على أى أساس، دينى وجنسى وطبقى وعرقى وعقائدى من جميع شهادات الميلاد وبطاقات الرقم القومى وجوازات السفر وغيرها من الأوراق الرسمية؟ لماذا يمكن إلغاء التمييز بكل أنواعه فى مؤسسات الدولة كلها إلا مؤسسة الزواج؟ هل مؤسسة الزواج فى دولة أخري؟

هل الزوجة (أو الزوجات) هى الفئة الوحيدة التى لا تمسها المساواة الدستورية توجد حتى اليوم ، خانة لاسم الزوج فى بطاقة المرأة الرقم القومى وجواز سفرها، ولا توجد خانة لاسم الزوجة فى بطاقة الرجل أو جواز سفره لماذا؟

عشنا قرونا على ما درج عليه الأسلاف، لم نتحرر من العقلية الأبوية الذكورية رغم الثورات ما أن تقوم ثورة لتفتح ثقبا فى الجدار حتى يأتى حاملو الحجر والزلط والأسمنت ليسدوا الجدار.