شواء بشري بطعم الحرية



رولا حسينات
2016 / 11 / 30

الأمل الميت يشعل فتيلا منه ليقيده من جديد في دوامة الشيخ الجليل، عندها اقشعر جسده وانتفض باحثا عن الخيط الرفيع للحياة.. هو وسمية.. نعم، سمية التي تبعثرت على شاطئ آخر بعيدا عن شاطئه، لعله القدر من يجمعهما كما كانا عند الحجر الراقد على جبين السراب في قريتهم..
لما لم يره أحد سواه؟؟ ولما كان عند الشجرة التي تلامس سقف السماء إلى حيث يغيب النظر في الأزقة الضيقة لشعاع الشمس؟؟ وما بال الركام الأسود لا يبارح مكانه فوق قريتهم وكأنها على كف عفريت؟؟ أهي سطوة الشيخ النجيب والعماليق وسحرهم..؟؟ جسده يرتجف كلما تذكر (ذات النواح) وهي تسعى في الطرقات الترابية في قريتهم..
تحت جنح الظلام... الليل الدامس يسكت الأنفاس وغلبة النعاس توقظها الريح المتلصصة على الفوانيس المشتعلة، فتنفخ فيها الرقدة الأولى فلا بعدها ثانية.. حتى تفيق القلوب بالرعاش..
معها تصفر الريح بالنواح ليصل إلى أذنيه، كما هو السحر يصل إلى أذني المسحور فلا يقاومه.. ينبت من سريره ويلتصق بالهدوء، فلا سبيل لأي خطأ.. الفراش متلاصق تلو الفراش، أمه وأبيه وهو وأخواته الثلاث، ثم تنتهي الحجرة بزير الماء وخزانة صغيرة مفتاحها بعنق أمه.. الفانوس يربض معلقا على الحائط الطيني، والقش يتدلى من السقف وتلك الأخشاب البنية التي استحالت إلى اللون الأسود، وكوة النور الصغيرة التي لا يلج منها سوى البرد القارص شتاء والجوع صيفا..
قن الدجاجات مطابق لخان المواشي والتبن يملئ حجرة صغيرة بالقرب من الخان، محاط بسور من حجارة مر عليها عيش نكد وحسرات، وبوابة خشبية تسد الطريق إلى الهروب وراء ( ذات النواح ). لقد رآها حقا كما روتها الأساطير، كانت حسناء في أسطورة أخته ولكنها ذات شعر منفوش تسير على غير هدى لتختفي في بيت الشيخ النجيب..
الدخان يتصاعد من مدخنته و مقارعة الكؤوس والنواح مختلط بالصرخات.. أهي ليلة مع الجن؟؟
لما لا ينام الشيخ النجيب كما ينامون؟؟ أم تراه ينزع عنه ستار اللحية البيضاء والرداء؟
ليتها كانت أسطورتهن حقيقة دون أن يولد الخوف في القلب الأبكم كل ليلة..في الظل المنكسر على اللوح الطيني قرابة الفراش الدافئ كانت الحكاية كل ليلة..بلا همس..
ليت الحكاية كانت هكذا ..ومضت في قافلة الذكريات، لما كانت أخواته يغسلنه وهن يقلن دع هذا لسلمى..وهن يتضاحكن..ويطرقن في الصمت و بهن آهة حزينة وتفر دمعة العين..ولسن ينطقن غير:" لقد فات الأوان.." ولكن الأوان لم يفت لانتقامك سمية، غير أن تكوني المدافعة عن المساكين، بل لتغرزي مبضعك في قلوبهم الصغيرة.. لما استبدلته ذات القلب..؟؟
أعرف أنك تتألمين وأنا كذلك..ورائحة الشواء مازالت تفوح مني "فليس للرذيلة مكان" ، هذا ما كان يقوله وهو يشرب نخب الانتصار على من أعجزه ببكمه.. وأنت وكل بنات القرية بدوتن بلا بهجة وقد أراق دماءكن هو والعماليق، في كل ليلة شهوة، وذات النواح تبارك له الفاحشة، وأهل القرية يوصدون الأبواب .. أبواب الحقيقة ظنهم أنه يطهرهن من الجن الذي يمطرهم بوابل من نيران.. آويت إلى فراشي وأنا أدوس الجبن بقدمي الصغيرتين.. لما عليّ أن أخاف وصغيرة مثلي تحرر عود الثقاب من فم الصمت، لتحرق الظلم لتقوضه لتمنعه من أن يستشري بالمستقبل..؟ كفاه عبثا في الماضي الشمعي، فتاة تهزم الصمت..
الذي أنا كائن فيه، صمت مطبق استحال إلى بُكم .. أي أبكم أنا؟؟ وأي غضب أنا فيه؟؟ الريح لا تحمل رائحة الشواء ولكنها تحمل رائحة الموت المبكر.. أول ينع ربيعي يشرق في الحفرة ..
لأي باكورة في الثورة عود ثقاب.. "ولكنه مس من الجن فلا تزهقوه هكذا..عبثا ..ما بين أيديكم هم مس من الجن، عليكم بوضعه أمامي كي أباركه وأغرقه في الماء.. "هكذا وقف خطيبا بين الجموع المحتشدة، وقد ارتدى جلابيب النسك والطاعة.. أمي تزمجر.. وأخواتي الثلاث.. يخفين أعواد الثقاب في ملابسهن.. أعواد قليلة تخرج من بيت جابر ما الخطب؟؟ أعينهم تزمجر قبل عينيه، وصوت النواح يعود كما الليل ينتفض بجنون، الجن يخرجون الموتى ويلعنون الأحياء..
.. الذل والمهانة هي أن تساوم في حاجتك التي لا تستطيع العيش دونها، وأن تتحمل قلتها وفقدانها والعوز إلى الإبقاء على صمودك، رغما عن كل شيء وإنصافا لنفسك.. تتخلى عنها حتى تموت عزيزا بين قوم أنذال.. تخرج أخواتي الثلاث العيدان ..ما أخفينه في ملابسهن.. تحمله أمي تقدمه قربانا للشيخ النجيب .. علانية يأمر بمقاطعتنا :"بيت جابر عليه خط أحمر وتصادر منه ثلاث بقرات، لتبقى واحدة ضئيلة الحجم، وتذهب الأخريات.." عقوبات صارمة وهو يدرك أن ألسنة الموت تلاحقهم لا محالة ، إن عاجلا أم آجلا سينتهون .. ثمن الحروب ..لا يمكن أن تجمع أوراقه.. فهي أكثر هلامية ووهمية من أن تجمع... أن تبول دما.. وتنزف دما.. ويكون قيأك دما.. فستكون وبالا على من يحيطون بك.. الصراع في أن تبقى .. وتبقى صامتا أمام الصورة الكلاسيكية للإفناء باسم التطهير .. أعواد الثقاب التي جمعها الشيخ النجيب لم تكن لتوقف الشرارة الأولى.. فقد اندلعت النيران في أماكن كثيرة من القرية، في حقل الذرة خاصته، الذي وضع يده عليه ثمنا لفاتورة القوي على الضعيف.. لم تكن إذا سمية وحدها من كانت تتكبد عناء البحث عن عود ثقاب..كان الحلم في القضاء على الظلم يراود كل من كان يرضع من ثدي امرأة حملت بالدماء.. الرغبة فيهم في أن ترتسم الحرية، ولو لمرة واحدة على جدار الخوف وتقتلع شجرة الزقوم من فوق قريتهم.. ولتنير بصيرة الكون.. ولكن أين هو؟؟ فما من بصيص.. لا يرون النور، حقول تشتعل وحسب.. وأفئدة تقتلع من أجنتها هكذا بلا مبضع تتساقط.. وكأنها الفراش المبثوث شغوفا ليضيع بين ألسنة النيران.. الجن ينتشرون يوصدون الأبواب ويحرقون من كان وراءها ولو أنه كان في فناء نفسه يحدثها ب لو ويا ليت ..
رائحة الشواء غطت السماء.. الغربان تنعق والحفر ترمى فيها الجثث.. ولا تنوح العذارى.. و لم يعد هناك من ينجب الأولاد.. وما عاد في القرية سوى النحسات... موت لا يشبعه سوى الموت فيهم.. جزع الكبار ولكن هل يتهادنون مع لعبة الموت..؟؟ ثقلت فاتورة الحياة.. أكان الجن من تلاميذ الشيخ النجيب من احلّوا الخوف في الصدور، وهم يشمون رائحة الشواء؟؟
إنه شواء بشري يقلب على سيخ الموت.. ولا مهادنة مع الأحياء.. الليل يجر أسراره لتلملم ما تبقى من شهود.. لم يشأ أن يزعجهم ببكائه.. وحتى تلك الخطوات الأولى.. كن يراودنه عن نفسه، أخواته وهن يغسلنه بالماء الدافئ ويعبثن بحمامته الصغيرة...:" نريد أن تأتينا بالأولاد، الكثير منهم، نريد جيشا كبيرا يخلصنا من الشيخ النجيب يخلصنا ممن حكم علينا بالإعدام بمشانق من معجون الخوف، ما عهدنا لها في الغابرين..." لم يفهم حينها تلك الدموع الحائرة، ولا جلسة الفتيات الثلاث يجدلن جدائلهن ويضممنها لصدرهن وهن يتنهدن أمام المرآة.. الصدور تتعالى والدموع تحبسها بثينة ولا تطلقها إلا وهي تحلب الأبقار، كان يسمعها تغني بأنين خافت، لم يدرك معنى الكلمات لكنها كانت كافية لتلامس شغاف قلبه، كان صوتا نديا مخمليا دافئا حزينا، وهو يغني بلحن حزين تتبعه مئات الشهقات والأنات..
.." حلمت يمّا بالصبي..
وما جاني العريس..
كانت يومّا في ليلة ...
عند.. ما خاني الشيخ ....
خاني وخد مني الخاتم...
وقتلني وينك يا عريس.."
وتجهش بالبكاء..
لم أكن أعرف شيئا، لولا ذاك اليوم وقد اشتد الوابل على القرية الغائبة في الركام، وقد جرف الطين سيل من دماء العذارى من فتيات القرية.. كانت سمية تبكي.. وهي تختبئ وراء ظهري الهش:" لا أريد لا أريد لا أريد.. أن أُختن.. إنه بشع.. بشع.." لكني بقيت صامتا.. وأمها تجرها من شعرها والعماليق ينتظرون بالعصي والهراوات.. الصبيات يقتربن من أذني ويهمسن:" إنهم يذبحون الصغيرات ويقتلون الغريزة ..الشهوة للرجال ولكن الشيخ النجيب والعماليق يفعلون أكثر من ذلك.. إنهم يفتكون بهن.. فلا عذارى في القرية.." هو لا يعرف الكثير.. ولكنه السيل الأحمر وحده قد بقي ممتزجا بالطين حول بيت النجيب.. وصراخ الفتيات الصغيرات يذبحه الرعد، والأمهات يدلين بدموعهن لتسقط وحبات المطر.. لتصبح المرارة في طعمه..." الكثير منهن فاتهن قطار الزواج ..هذه الحقيقة التي لم يفهمها.. بعد أشهر طويلة نطقت سمية وهي تتوسد ذراعه عند التمثال الأسود، وهو يقلب الحجر بين يديه :"انظر إلى أخواتك الثلاث، لم يتزوجن بعد، لا أحد من أهل قريتنا شابا أو فتاة يتزوج.. ألم تسال نفسك هذا السؤال..؟؟ لقد ذهب بكل شيء الشيخ النجيب.." السيخ يلفه وأصوات الضحكات تهتك بجسده الصغير..:" إنها طقوس إخراج الجن.. "
عليه أن يمتثل لأوامر الشيخ النجيب..:" جابر بيته ممسوس بالسحر، هو وبناته وزوجته وهذا الصغير يعبدون غير ما نعبد.. والجن قد مسهم فلا مساس.." الأيام طويلة والشتاء قارص والمحصول لم تمتد يد لشرائه.. لقد بات عليّ أن أتذكر قول من ذاق طعم الخوف..الخوف الذي لم تتبدل صوره حتى مع الواقيات ..فهو الحزام الناسف لكل شيء.. رُمي بين يدي تلك الشمطاء واستحال في الصورة كومة من السواد، يدور كشظية هائمة لا تصيب أحدا سوى نفسها بالموت، مسلوب الإرادة...بين يدي الشيخ النجيب والعماليق وتلك الشمطاء (ذات النواح).. لقد تخلى عنه كل البشر وأبوه كان أولهم.. وذات النواح تمسح بيديها القذرتين كل جسده، تضغط عليه كله تخدش حياءه وأبوه قد خلاه..أي صفقة هذه مع النجس؟؟
ليتها كانت كما تلك الأسطورة التي تحكيها له أخواته الثلاث، قبل أن ينام ليحلم بها ويركب مهجة الحي.. لأول مرة يتمنى أن يصرخ ويبتلعه التراب بلا رجعة، ثم يسقط آسفا في آخر المشوار بين يديها .. لما لا تكون الحكايا أناشيد.. ترس في آذان الصغار، ليغيروا العالم ..؟؟ ليتها كما سمعها وحفظها وسردها على مسامعه الصامتة.. ولكنه الجنون هو ما يبقى ليحلل الأوهام إلى عواملها بعد أن يفنى الجسد.. ظلل سبع كانت تغطي قريته أغلبها من الغمام، وظلة ما كانت لتفارقه.. هضبتان اثنتان تحفان بقريتهم الموقظة مضاجع الصخر، والمغاور السود في أعلاها، خضرتها وريعان شبابها الذي دام أكثر من أربع قرون من الزمان .. أعمار أناسها كأعمار أشجارها كأنما ولدا معا في خلوة طاهرة، قد طهرت رحم الأرض وما ظلها مشوب من نار، وما كان لأيٍّ فضل عليها ، وما كانت لترى سواد المضلين وما تفتحت أبواب سمائها لأحد، وما ولج فج تلكم الجنان هتاك أعراض.." أيغشيها غواش من نزق أو تكلف غير ما تطيقه؟؟
إنها الجنة.. وأي جان كان بي فليخرج وليحلني من عذابي لأعيش حرا ولو ليوم.. لوهلة.. لهنيهة من الزمن المر..! الظلام يقعيني على حصير خشن اجتر الهدهدات وأغرغر رغوة الموت...

لعل يدا تمتد لتلمس جسدي ولكني في قاع أصم لا يرجع صدى.. ولا يسمع صوتا جدار الأموات.. صرخت أبي أبي لأول مرة نطقت الحروف، كما لو كنت حينها قد خرجت لأتنفس النور من الظلمات الثلاث.. لأقول للعالم أني حر من غير قيد للجان ليهزمني.. إني يا قومي قد صبئت بما تعبدون أنتم وألهتكم الأولون..لكنه هو من كبلني بتصديقي لرواية الأبوة... حملني إليهم دون أي مقاومة..ليوثقني العماليق... ...وأبي لا يسمعني .. لا يسمع شيئا وهو محاط بالقوم ... وقد أمرهم الشيخ النجيب بان يحرقوا أرضنا ولا يبقوا على شيء.... لقد ضيعني أبي وضيع كل شيء..لقد استسلم ولم يقاوم.. أحسب أنه سيلقى الجزاء الحسن.؟؟ وهل كانت غير الطاعة في القرية العجفاء..؟؟؟ انطلقوا وهم يتخافتون" أن لن يبقوا في الأرض نفسا تتنفس ولا حجرا يُسبح.."
ومذ متى كانوا ليفعلوا أمرا لم يشرعه لهم النجيب... فليسوا بمسبحين إلا لما يأمرهم الشيخ النجيب.. وجابر وحده يقاتلهم ولكن بصمت.. بمعوله مازال يحفر حول الشجرة المباركة...
أتراه كان يريدها قبرا له؟؟ حفرة تكفنه على بالتراب.. تحلقت النيران حوله تلتهم كل ما في طريقها لا ترحم أحدا، غدت كجمر مستعر وهو لا يبدل ما هو عليه.. اسند ظهره لعامود الهواء المطبق فوق رأسه وقد تزاحم أمامه الدخان الأسود.. هاهو يتحرك لكنه في مكانه...
إنه إنه يسجد، نعم، يسجد ولكنه يسجد ساعة موته.. ألم يجد طريقا للفرار؟؟
أنسي أنه قد ينجو ليفر بأهله أم ليتركهم ليتحرروا من الجان..؟ أم ليصبحوا أذلة لغيره..؟
أي رب هذا الذي يسجد له ساعة موته ولا يفر بجلده؟؟
أي إله هذا الذي يموت على بساطه ساجدا؟؟
لما لم يعلمني هذا السجود قبل أن يموت ساجدا؟؟
قبل أن يقضي ساجدا دون أن يحرك جسده قيد أنمله!!
النيران تلتهمه ولا تبقي منه غير كومة السواد ورائحة الشواء.. وهو غارق في سجوده...
رائحة الشواء حملتها الريح وصفرت تؤذن في أذن الكون.."أن آخر معاقل الرفض قد تابت بل قد أبيدت عن ظهر أبيها.." وهو لا يلوي على شيء.. أي إله هذا الذي يقضي له أبوه طائعا قانتا ساجدا ..؟؟ وسمية تحارب باسمه، لكنها تقتل الأبرياء تفجرهم في الأسواق... في الطرقات... في أعراسهم وأتراحهم.. حين يقبلون جبين الكون ويستقيمون لينالوا نصيبهم في الدنيا..
وقد كانت يوما أول من أشعل عود ثقاب..كيف تستقيم الحرية والقتل؟؟ بل كيف ينبت الضمير في أرض قاحلة بلا رحمة؟؟
وهي يوما كانت تنادي بالحرية.." بأن يستقيم وجه الكون للعدالة دون أن يكون لأحد فضل على أحد، بأن يتساووا في كل شيء حتى في أحلامهم.."
أول عود ثقاب لتزرع ورود الربيع وتسقيه بدماء الأحرار..كان وجها آخر لذات العملة بأن تستيقظ الخلايا النائمة ويُعمل المندسون في قرض البنيان، وخلخلة الصف...
لما أفلتت يدها من يده وهم هائمون في الصحراء؟
لما فرت عندما شمت نسيم البحر لتلتقمها تلك الطاقة السوداء وتلك الرايات؟؟
هل ظنت أنها ستبرأ الدين من أمثال الشيخ النجيب؟؟
ولكن إن كان ظنها هذا فقد أفنت نفسها رمادا في أخدود من نار يسري كطوفان في الظلام..
أي رب هذا الذي يدعوهم إلى الهلاك، إلى قتل الأبرياء والرقص على قبور المساكين، وقرع الكؤوس في سكرة الانتصار؟؟ شهوانية القتل لمجرد القتل.. أيأمر الرب أن تموتوا قتلة أم أن تدعوا إلى سبيله بالرشاد؟؟ لما عليه أن يتعلم كل شيء وأن يدرك كل شيء وهو لم يبارح ذلك المكان وتلك الشجرة وهو يتلقف الحجر.. من يد أخته؟؟
تريده أن يفر أن يكبر.. ولكنه كبر بعيدا بعيدا عندما جن جنون الشيخ النجيب، وهو ينبش عند ذلك الحجر الأسود الرابض أمامه كقدره المشئوم، ويرتوي غليل هذا الممسوس بعد أن فر أتباعه من شيء.. شيء ما رأوه ماثلا فيه فأخافهم، ولكنه بجنونه أخذ ينبش وينبش حتى شخصت عيناه وأناس القرية في سكرتهم ينظرون...
أيخافون من شيخهم الممسوس أم من هذا الحجر الذي لا يعرفون من أين جاء أو مذ متى بات بينهم، يتقاسم وهذه الشجرة الممتدة بشرورها إلى السماء؟؟
تلك العينان الزائغتان اللتان مرتا على الصمت جهرة وعلى الخيفة مدادا، هي من حكمته لسنين بجهلهم... أي صنف هم طبول جوفاء؟! لم يكونوا ليصرخوا كما فعل الشيخ النجيب وفر، وهو منذرهم بمصاب جلل... الممسوس وأمه وأخواته حلال قتلهم وسفك دماءهم..
فهم اليوم فرحون..لقد أذن لهم أخيرا بأن ينهوا الجان من حياة قريتهم..
سيزول كل جزعهم وما ألمّ بهم من هذا الجان، ليعيشوا حياتهم كما اعتادوها عمياء صماء..
ليقتلوا الفتيات الثلاث وأمهن وهذا الجني دعوه اجعلوه يناظرهن وهن يخرجن عاريات.. ليخرجن و ليقطعن ما يرتدينه من دنس ورجس ولتطهرهن النار..
وأناس القرية مستبشرون، أصواتهم تتعالى بالأهازيج:" اقتلوهن اقتلوهن وافرحوا وافرحوا.."
لن تجد صرخاته نفعا وهن يتسترن بجديلتهن التي فرت لتستر ذلك العري الطاهر، لقد اقتادوهن إلى النار الموقدة وهم ينفخون تحتها لتستعر، وينقضي الأمر.. رائحة الشواء تزكم الأنوف والعينان تفضحان القهر والظلم كما الجسد..