قشرة الحياء الهشة .. يا أنت ؟



نوال السعداوي
2016 / 12 / 7

ذهبت إلى عيدها التسعة والتسعين، عمرها لايعد بالسنين، ترشفه كله فى لحظة تساوى ألف عام، يذوب الحاضر والماضى والمستقبل فى رشفة واحدة ،
يلتحم الجسد والعقل والروح فى كيان صلب، تتأمل السماء والناس والناموس، مع قضمات الخبز المحمص، والجبنة القديمة بالفلفل الأخضر، وحبات من أعناب عمر الخيام، تبعث البهجة فى القلوب، وتخدش حياء من يفزعهم الفرح، أو بيت جميل من الشعر يكشف قبحهم، أو طفلة تغنى فتثير غرائزهم، يضربها أبوها حتى تموت أو تكف عن الغناء، لا يستحى الواحد منهم أن يتسلل ليلا إلى عشيقته.

وفى الصباح يلقى محاضرة عن الفضيلة، لا يخدش حياءهم أن يعيشوا على المعونات والقروض ويأكلوا ما ينتجه الآخرون، لا يخدش حياءهم جمع المليارات من التجارة بقوت الشعب، وينبش الأطفال القمامة ليسدوا الرمق، لا يخدش حياءهم طفلة تموت فى عملية ختان، أو تزف بالقوة لرجل أكبر من جدها، أو يغتصبها واحد منهم فى الظلام ثم يسفك دمها بالنهار دفاعا عن الشرف .

تتألق عيناها بالفرح الطفولي، تبدو شابة متوهجة بالحياة لا تعترف بالموت، لا تنحنى للدهر ولا يهزمها القدر، رأيتها تكتب فى شرفتها، يأتى الشتاء فى ديسمبر رقيقا على مهل، الهواء دافيء مع برودة ناعمة، والشمس كصدر الأم حانية، زهورها برية، حروفها وحشية، حواسها الخمسة أو الستة أو المائة، تذوب فى حاسة واحدة تكشف المخبوء فى الجوف، تكتب بقلبها وبعقلها تحس، تسمع بعينيها، وبأطراف أناملها ترى وتتأمل ، قلمها ثاقب ينفذ فى الحجر، فى أعماقى أحسدها وأغار منها، أنقل إليها الأخبار السيئة لأبدد فرحها .

الناس تهاجمك وتتهمك بالكفر وخدش الحياء ويهدرون دمك، رفعت رأسها وامتدت عيناها بعيدا عني، ليس لى وجود فى مجال رؤيتها، وتبتسم فى هدوء :الهجوم طبيعى يا أنت تقول «يا أنت»، أبتلع الإهانة ، وهى تواصل كلامها، يخدش الصدق قشرة الحياء الهشة يا أنت .

كلمة «يا أنت» لا تعود تؤلمني، صوتها رقيق مرهف، يلتقط الحزن المكتوم فى صدري، يسمع اللامرئى ويلمس اللامنطوق، يشتد إعجابى بها ، وغيرتى منها تزيد الى حد الكره، هل يتلازم الإعجاب والكراهية معا؟ وكيف لا تخاف الموت وأنا أنتفض فزعا لكلمة تمس سمعتى أو تلمس شعرة من رأسى ؟

كلامها غريب على أذني، وشكلها مختلف عن النساء، أظافرها مقصوصة غير مدهونة، أظافر النساء طويلة مدببة كالمخالب مطلية بلون الدم الأحمر أو الدم الأزرق، وأحيانا الدم الأسود، حاجباها طبيعيان لم ينتزع الملقط منهما شعرة، حواجب النساء منتوفة صلعاء على شكل خط رفيع مقوس، شفتاها لونهما طبيعى شاحب قليلا، شفاه النساء منفوخة بمشرط التجميل والدهون، متخمة بالحزن والشبق المخزون، حمراء بلون الدم القاني، شعرها يطيره الهواء فرحا تتخلله الشمس، شعورهم مصبوغة بسوائل كيميائية كاوية أو ملفوفة داخل حجاب سميك لا ينفذ منه هواء أو شعاع ضوء، ملابسها من شدة البساطة أنيقة، حذاؤها عملى متين يساعد على الحركة والخطوة الخفيفة، فساتين النساء تكشف عن الشق بين النهدين وجزء من الفخذين، أقدامهن مقوسة مشوهة داخل أحذية لها كعوب خشبية أو معدنية ، كالعكاكيز، عالية رفيعة مدببة، يتأرجهن عليها كالدمى بمسرح العرائس.

كنت مثل النساء أنتقل من عذاب الماكياج إلى عذاب الحجاب، ومن ألم الختان وآلام المراهقة والعذرية إلى عبودية الحب والزواج والخيانات والزوجات المتعددات والخليلات بلا عدد، الى سن اليأس واكتئاب توسط العمر والكهولة، إلى الخوف من الموت وعذاب القبر، ألا تخدش حياءهم عذابات النساء؟ دماء النساء مطلوبة لتلويث شرفهم، نعم، ولغسل شرفهم أيضا.

منذ أيام ماتت طفلة فى العاشرة من عمرها، ضربها أبوها ليؤدبها حتى ماتت، ومنذ أيام ماتت إحدى بطلات مصر الرياضيات، ضربها أبوها ليؤدبها حتى ماتت، تتكرر هذه الأحداث وتمر مرور الكرام، ألا يخدش حياءهم موت الأطفال البنات؟ كما يخدش حياءهم بيت من الشعر أو جملة فى رواية خيالية ؟ والحياء العام؟ الحياء العام كالذوق العام كالرأى العام كالقيم والتقاليد السائدة، وكلها تتغير على الدوام وترتفع إنسانيا بارتفاع الوعي، وكيف يرتفع الوعى العام؟

بالصدق والإقدام على خدش الحياء العام والقيم الموروثة، ليصبح الكذب خادشا للحياء، والظلم والاستبداد والسجن والخنوع والتبعية، كلها خادشة للحياء، يا أنت.