ليست امرأة مثالية



نوال السعداوي
2017 / 3 / 31


سأكتب عنها وليس عن دونالد ترامب وأنجيلا ميركل والسادات ومبارك وأوباما وكلينتون وداعش والإخوان وغيرهم، من ذوى الأسلحة القوية أو السلطات
أو الثروات ممن يدور الكتاب والصحفيون والإعلاميون فى فلكهم كما يدور الهاموش حول أى لمعة فى الظلمة.

سأكتب عنها المجهولة الاسم والجسم جاءت منذ سنين كثيرة تريد أن تشتغل خادمة فى بيتى لتعول طفليها قالت: أنا سميرة كنت معاكى فى أولى ابتدائى مش فاكراني؟

فورا عادت ملامحها الطفولية المضيئة من تحت الوجه المتهدل المنطفئ كانت أذكى بنات الفصل انقطعت عن الدراسة فجأة ، أبوها حبسها بالبيت ليزوجها بالقوة طلقها زوجها شفهيا ليتزوج بأخرى خرجت بابنها وابنتها الى الشارع دارت بهما فى المحاكم، لإثبات الطلاق، ولطلب النفقة لم ينسب الأب البنت إليه ليحرمها من إرثه لم تملك الأم أجر المحامين لم يكن لها إلا الله لكن العناية الإلهية لا يضمونها لأوراق المحكمة أصبحت سميرة خادمة بالبيوت هى وابنتها، وابنها أصبح عاملا باليومية تزوج خادمة بالبيوت أنجبت ولدين أحدهما قتل فى العراق والثانى اشتغل فى ليبيا تزوج وأنجب ولدين أحدهما هاجر الى إيطاليا، والثانى قتل فى الحرب ضد داعش وهكذا.

رأيتها بالأمس سميرة أو ابنتها أوحفيدتها ملامحها منطفئة متحجرة تعرج داخل حجابها الأسود فى طابور الأمهات المثاليات روحها غائبة جسمها مغترب عن شكلها واسمها كأنما لشخص غريب ناولها المحافظ شهادة تقدير مكتوبة بحروف مذهبة لم تكن تفك الخط فلم تقرأها.

حين بدأت أكتب عن قضية المرأة فى منتصف الخمسينيات قالوا قضية المرأة مستوردة من الغرب لضرب الإسلام والمسلمين.

منذ ستين عاما وأكثر، بعد تخرجى فى كلية الطب بدأت أعيد دراستى الطبية وأربطها بدراسة التاريخ والفلسفة وعلم نشوء الكون من أجل الإجابة عن أسئلة بسيطة من نوع: لماذا تقطع أجزاء من أجساد الأطفال الأصحاء، ويسمونها عمليات طهارة؟ لماذا يشطب المدرس على اسم أمى حين أكتبه بجوار اسم أبى على كراستي؟ لماذا حرمت أمى من دراسة الموسيقى وكان حلم حياتها أن تكون موسيقية تؤلف السيمفونيات ولا تلد تسعة أولاد وبنات؟

لماذا يربطون المرأة بزوجها وعياله وليس بها نفسها وما تحققه بعقلها؟

لماذا يكون دور الأم والزوجة هو الدور الأساسى الذى تفرضه عليها الدولة والعائلة؟

لماذا تكون المرأة المثالية هى صاحبة الرحم وليس صاحبة العقل ؟ هل ورثنا عن سيجموند فرويد مقولته الزائفة «المرأة تلد الأطفال ولا تلد الأفكار»؟

لماذا يمجدون الرجل المفكر ويكرهون المرأة المفكرة ؟ كأنما المرأة التى تفكر من غرابة الأطوار عاهة مثل نتوءات فى عظام العمود الفقري.

لا يمكن الوصول للإجابة عن هذه الأسئلة إلا عبر طريق شاق طويل داخل التاريخ والعلوم والأديان لتفكيك جذور السلطة الأبوية الطارئة فى التاريخ البشرى، لم تنفصل سلطة الأب عن سلطة الحاكم الفرد أو الطبقة الحاكمة لهذا يستمر الاستعباد والاستبداد بالنساء والفقراء، وتستمر معه الحروب المحلية والعالمية، وتطوير أسلحة القتل والدمار الشامل والتجسس والخداع والنهب والاستعمار.

الأب الذى يكذب على الأم فى الأسرة الصغيرة ليس إلا الحلقة الأولى من سلسلة الأكاذيب الكبرى بين الدول.

لا تنفصل الأكاذيب السياسية عن الاقتصادية والدينية والأخلاقية والجنسية لا تنفصل الخيانات الوطنية عن الخيانات العائلية يتجسس الزوج على زوجته كما يتجسس رؤساء أكبر الدول فى العالم على أنفسهم وغيرهم ،لا تكف الجيوش الأقوى أن تفتك بالأضعف ولا يكف الآباء عن الاستبداد بالنساء والأطفال.

مع ذلك تظل المرأة خاصة الفقيرة هى المطلوب منها التضحية والعطاء بحياتها وحياة أطفالها من أجل الدولة، لا تقدم الدولة للنساء والفقراء إلا القهر وقصائد الشعر على حين يرفل أصحاب الثروة والسلطة فى النعيم.

لماذا لا نرى رجالا ونساء من ذوى السلطة أو الثراء ضمن آباء وأمهات الشهداء إلا نادرا جدا قطرة مطر فى الصحراء؟

لماذا لم نر فى مشرحة زينهم أيام الثورة أو الغزو الخارجى أو الداخلى إلا الأمهات الفقيرات المقهورات؟ لماذا لا نرى فى المحاكم إلا طوابير الأمهات الفقيرات المطلقات شفهيا أو تحريريا أو الساعيات للحصول على النفقة أو الإرث أو النسب لأطفالهن؟ لماذا أصبحت جميع القوانين مدنية فى الدولة المصرية إلا قانون الأسرة الذى يحكم الأمهات والزوجات دينيا ؟