فى ذاكرتى مع لغة الأم



نوال السعداوي
2017 / 6 / 7


سافرت من مدينتى القاهرة الى أغلب بلاد العالم، قبل أن أسافر الى أى بلد فى إفريقيا مع أن أرض مصر مغروسة فى إفريقيا نولد فيها ونعيش عليها وندفن فى بطنها، وتمتد جذورنا المادية والحضارية ومنابع نهرنا (النيل) فى قلب جسدها.

لكن وجوهنا وعيوننا كانت تتجه دائما إلى الشمال نحو جلادينا ومغتصبينا فى أوروبا وأمريكا وظهورنا تتجه دائما نحو أنفسنا فى إفريقيا والجنوب كم يكون القهر مزدوجا حين يدير الإنسان ظهره لنفسه حين يخجل من بشرته السمراء أو السوداء ويخفيها بمسحوق أبيض كما تخجل المرأة من كونها امرأة، وتشعر بأن وجهها عورة فتخفيه بالنقاب أو الحجاب كم أساء النظام العبودى الاستعمارى للنساء والفقراء والأفارقة حين استنزف مواردنا الاقتصادية وثرواتنا الحضارية الممدودة فى التاريخ قبل نشوء التاريخ، وكنوزنا المادية والثقافية المدفونة فى بطن الأرض والباقية فوق سطحها حتى اليوم مثل الأهرامات والمسلات والتماثيل والآثار المبدعة التى تسعى شعوب العالم لرؤيتها لكن الإساءة الاستعمارية الكبرى كانت ذلك السهم الذى صوبه الرجل الأبيض الى قلب الإنسان الإفريقى فأصبحت إفريقيته وصمة عار وبشرته السوداء صك عبودية رحلاتى لإفريقيا جاءت متأخرة نسبيا، وفى نهاية السبعينيات حين أصبحت مستشارة باللجنة الاقتصادية لإفريقيا بالأمم المتحدة كانت إقامتى فى أديس أبابا لكن عملى كان يقتضى سفرى لجميع البلاد الإفريقية فى رحلات قصيرة وطويلة لم تكن كافية لأدخل فى قلب القارة الشاسعة العريقة، وإن كانت كافية لأدخل فى قلبي، وأتعرف على نفسى وكونى إفريقية.

أول مظاهر «إفريقتى» كان لون بشرتى السمراء التى تتحول سريعا للسواد بعد بضع ساعات تحت الشمس فإذا بى أسير فى شوارع اثيوبيا أو أوغندا أو جنوب إفريقيا فلا يلحظ أحد أننى غريبة، ولم أبتهج بذلك كثيرا إذ كان فى أعماقى (منذ الطفولة) حنينا لأكون بيضاء كالقشطة بلغة جدتى لأمي، وقد أدركت منذ ولدت حقيقتين لا شك فيهما: أولاهما أننى «بنت» ولست «ولدا» مثل أخي، وثانيتهما أن بشرتى «سمراء» وليست «بيضاء» مثل أمى ومع هاتين الحقيقتين أدركت شيئا أكثر أهمية: أن هاتين الصفتين وحدهما دون أى عيوب أخرى كافيتان للحكم على مستقبلى بالفشل كان المؤهل الوحيد الذى يرشح البنت لمستقبل مضمون هو أن تكون جميلة أو على الأقل بيضاء البشرة مثل الأتراك، وكانت جدتى لأمى ذات الأصل التركى تنادينى باسم ورور الجارية فى بلاط جدها «الباشا» بإسطنبول.

منذ طفولتى أدركت أن بشرتى بلون بشرة العبيد فأصبحت أخفيها بمسحوق أبيض تشتريه خالتى نعمات (شقيقة أمي) من الصيدلية المجاورة مع سوائل لتبييض الوجه، وأخرى لتسويد العينين بالكحل، وأصبح إخفاء وجهى الحقيقى هو الخطوة الأولى نحو الجمال الصحيح لكنى وللغرابة الشديدة كنت أدرك بجزء غامض فى مركز ذاكرتى مدفون فيها منذ ما قبل التاريخ مع لغة الأم أننى جميلة بل أجمل البنات عن يقين، وبشرتى السمراء الخمرية بلون طمى النيل أجمل بشرة فى الوجود، وهى حقيقتى التى أفخر بها (فى سري) وأحبها بل إنها حبى الحقيقى الوحيد هكذا أصبحت بعد أن كبرت قليلا أمتلك الشجاعة لأواجه العالم بوجه مغسول دون مساحيق وأشعر بالراحة داخل بشرتي، والألفة مع جسمى ونفسي، ومع الأصدقاء والصديقات الإفريقيات بل وجدتنى ولدهشتى الشديدة أقع فى حب رجل سنغالى فى أول رحلة لى الى داكار، وكنت أصرخ فزعا فى طفولتى حين أرى أمامى شخصا أسود اللون - سواحل وجبال إفريقيا قد رأيتها ساحرة، وقمة كليمانجارو أصبحت أروع من الهيمالايا فى نيبال أو جبال سويسرا الشهيرة وبحيرة فيكتوريا ومنابع النيل فى أوغندا أصبحت تشدنى إليها مثل النداهة فى الأساطير والفن والسينما والرقص والموسيقى الإفريقية تهزنى من الأعماق أما الأدب الإفريقى بأقلام النساء والرجال فقد أصبح هوايتى هذا الأدب المبدع الأصيل الذى أصبح يغزو العالم اليوم ، وبدأت مصر أيضا تعود الى حضن الأم »إفريقية« بعد انتزاعها منها قسرا لتكون أو لا تكون بمنطقة ضبابية معلقة بين القارات أطلق عليها المغتصبون المستعمرون اسم الشرق الأوسط.