أوديسا، كييف، موسكو... رحلة الستين عامًا



عماد الدين رائف
2017 / 6 / 7

يشارك نحو عشرين ألف فتى وفتاة من دول مختلفة في "المهرجان العالمي التاسع عشر للشباب والطلاب" في مدينة سوتشي الروسية (بين 15 و21 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل). وقد يكون الوفد اللبناني إلى المهرجان كبيرًا جدًا، وفق المعايير الحالية لمفهوم "الكبير جدًا" بعد أكثر من ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث تغطية المشاركة في المهرجان لا تتضمن بطاقة السفر، بل الإقامة في سوتشي. باب المشاركة المفتوح في لبنان أمام مختلف الطلاب والشباب، يمرّ عبر اللجنة الوطنية المعنيّة بالتحضير لمشاركة الوفد اللبناني، وهي تتألف بالضرورة من "اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني"، بصفته التنظيميّة فالمهرجان هو من تنظيم "اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي – الوفدي"، وكذلك بصفته يحتل اليوم منصب نائب رئيس الاتحاد العالمي، وإلى جانب الاتحاد، تنخرط في اللجنة الوطنية منظمات هي: الاتحاد العمالي العام، جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان، اتحاد المقعدين اللبنانيين، ولجنة حقوق المرأة، إلى جانب المركز الثقافي الروسي التابع لمنظمة التعاون الروسية.
وعندما علمت بانخراطي في اللجنة الوطنية المعنيّة بالتحضير للمشاركة، ومناقشة تفاصيل عديدة تتعلق بالمهرجان مع الرفيق أندريه المقداد، المنتدب من قبل منظمته لمنصب نائب رئيس "اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي"، أخذتني الذكريات بعيدًا، ليس إلى السنوات التي قضيتها في الاتحاد السوفياتي السابق، أو روسيا الاتحادية والجمهورية الأوكرانية، بل إلى ذكريات من الطفولة حين كان والدي يعرض ويستعرض أحيانًا مشاركته في مهرجان مشابه قبل ستة عقود من الزمن. حزنت لكون أولادي، إن شاركوا في المهرجان، إلى جانب عدد مئات اللبنانيين والعرب، لن يحظوا برؤية أوديسا أو كييف، حيث تقع أوكرانيا اليوم على الضفة الأخرى من الخريطة السياسية.
"روسيا"، تلك الكلمة السحرية التي لطالما سمعتُها في طفولتي تخرج من بين شفتي والدي مصحوبة بالكثير من الشوق. "روسيا" عنت له أوديسا وكييف وموسكو، فكان، رحمه الله، ما إن يسمعها في نشرة أخبار حتى يستعيد نتف ذكرياته مع رفاقه في ربوع تلك المدن، حين استضافت موسكو "المهرجان العالمي السادس للشباب والطلاب" صيف العام 1957. ثم كان حين يسترسل في حديثه، يتحدث كيف استقبل الأمن العام اللبناني الوفد، على معبر العريضة الحدودي إثر عودته من اللاذقيّة، فكان من نصيب الشباب أن مزّق رجال أمن نظام شمعون جوازات سفرهم، ثم تعرّضوا للضرب المبرّح "أكلنا قتلة مرتّبة".. ربما كي يخرج رجال الأمن منهم شيوعيّتهم! لكن، لم تمض سنة حتى ثاروا في ما عُرف بثورة 1958، في وجه النظام والإقطاع وحلف بغداد وشمعون نفسه.
كان أكثر حنينه في ذكرياته إلى الناس. انطلق مع رفاقه من بيروت إلى مرفأ اللاذقية حيث استقبلتهم الباخرة "غروزيا"، ثم إلى الإسكندرية، فأوديسا التي فُرشت ممرات مرفأها بالزهور، وزحف أهلها جميعهم ليستقبلوا الوافدين من كل بقاع الدنيا. وبعد أوديسا، كان السفر بالطائرة إلى كييف حيث "نزلنا في مطارها الواسع الحديث. وكان في استقبالنا، على الرغم من قلة عددنا، عدد كبير من الأهالي، قدموا لنا باقات الزهور مع ابتهاجهم العميق مصحوبًا بالتصفيق والهتاف للسلام والصداقة. ورددنا التحيّات والإعجاب يملأ نفوسنا.. وكانت قاعات المطار وجدرانه مزيّنة بأجمل اللوحات الفنيّة ولكل غرفة لوحات خاصة تناسبها فنيًّا وموضوعيًّا"... ثم إلى موسكو حيث الحدث الأهم، وحيث كان في انتظار المشاركين في المهرجان نحو سبعة ملايين مواطنًا سوفياتيًا يحملون الزهور. كان لتلك الصور المتناثرة المحفورة عميقاً في الذاكرة امتنانٌ خالص لشعوب الاتحاد السوفياتي.
تركتْ تلك الذكريات صوراً ضبابية متفرقة لديّ، إلى أن توجّهت للدراسة الجامعية في روسيا، حيث التقيت بكثيرين من أفراد الشعب الذي حطّم الفاشية وفتح أبواب السلام أمام شعوب الأرض... واكتمل المشهد حين شرعتُ في إعداد برنامج "حديث روسيا" قبل سنوات، وكنت في سباق أسبوعي مع الزمن لاختيار مواضيع الحلقات. ومن محاسن ذلك، عملية البحث المستمرة عن كلّ ما كان قد كتب عن شعوب الاتحاد السوفياتي في أبواب الثقافة المتفرقة. ولعل أغلى ما وقفت عليه نسخة قديمة أوراقها مصفرّة، غير مقصوصة الملازم، من كتاب "زهرة وحمامة في موسكو"، الذي يحتوي على توثيق رحلة الوفد اللبناني إلى ذلك المهرجان الشبابي، وهو بقلم الفنان التشكيلي اللبناني ناظم إيراني، الذي سحرته موسكو، فرجع إليها طالباً، ثم كان في عداد مؤسسي "جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان"، وعضو هيئتها التأسيسية. الكتاب الصادر في شباط 1958، جاء خالياً من الصور البلاغية والتكلّف الأدبي، مشهدياً صادقاً، وكأن كاتبه يسابق ذاكرته.. وكذلك كانت نتف ذكريات أبي حيث كان يحاول ألا ينسى شيئاً مما رآه أو سمعه خلال بضعة عشر يوماً قضاها مع رفاقه بين أناس حمل عشقهم معه إلى آخر يوم في حياته.