هل هي روح صديقتي أم هي الذكرى ؟



فؤاده العراقيه
2017 / 7 / 24

تلقيت خبر وفاة صديقة طفولتي قبل أيام دون أن أعرف سبب وفاتها , وبالرغم من إن علاقتي بها كانت مقطوعة منذ زمن طويل لكن روحها (صورتها) شخصت أمامي ما أن وصلني خبر وفاتها وشطحت مخيلتي معها ورفضت أن تبارحني ليومين متتاليين ومن ثم قلّ حضورها لليوم الثالث .
فكرة الروح هي فكرة خرافية حالها حال الكثير من الأفكار التي تلقيناها وآمنّا بها دون تحليل ولا تفكير بها , فلا وجود للروح بدون الجسد والعقل والقلب معاً ,أي إن الروح هي نتاج لرابطة الجسد والعقل والقلب لكون كيان الإنسان هو واحد ولا ينفصل ولا يُجزأ وبمجرد توقف القلب يموت الجسد وتنتهي الروح وتتبخر,كذلك حياتنا هي عبارة عن مترابطات لا يمكن فصل حياة عن أخرى وكذلك الماضي عن الحاضر كما لا يمكن فصل العلوم عن بعضها البعض .
فخرافة الروح تأتي من خرافة ألمفاهيم والأفكار الكثيرة التي هي نتاج لتلك المفاهيم فنتصور روح الميت هي الحاضرة أمامنا بعد أن نستعيد ذكرياتنا معه في حالة سماعنا بموته , فبالرغم من أن صديقتي قد فارقت الحياة قبل أشهر معدودات لكنها حضرت أمامي ودارت ذكرياتي معها كشريط سينمائي ورجعتُ لتاريخي وتصورتها بمخيلتي ,كتأبين لها ليس إلا, ولا علاقة لروحها بالموضوع كما يتصور الكثيرين .
ويبقى الموت هو اللغز أو الصدمة الكبرى لنا جميعاً بالرغم من يقيننا ومعرفتنا به بكونه يُمثل الحقيقة والنهاية الحتمية لكل كائن حي ,لكن عقل الإنسان يبقى لا يتقبل تلك الحقيقة ويبقى متشبثا بحياته لآخر نبض بها مهما كانت حياته تعيسة ومهما كان يعاني من صعوبات ومصائب جمّة لكون الغريزة دائما أو أكثر الأحيان تغلب عليه .
حزن الإنسان وتأمله بالكيفية التي اختفى بها هذا الكائن المقرّب منه ,واستفهامه عن الكيفية التي بها دُفنت أسراره المشتركة معه واختفت بها ذكرياته وكذلك أحلام الميت وعلاقاته مع الآخرين ,أي توقف كل شيء برمشة عين وعلى حين غفلة دون توقع لها ,كل هذا يجعله يرفض فكرة الفناء ويتشبث بوهم يُخفف عنه الصدمة , فكيف للمنطق أن يحتمل فكرة انعدام كل ما سبق ذكره؟
لكن الإنسان يستمر في البحث عن عشبة الخلود , يبحث عن خلوده وعن تطوير نفسه وبناء عالمه الأفضل ,وأحيانا يصل بتضحياته لفناء حياته بحثا عن خلوده.
دارت هذه الأسئلة في رأسي ورجعتُ بمخيلتي معها لزمن حيث كانت به صديقتي تلك الفتاة المدللة ,لكونها جاءت بعد ثلاث أولاد ’’ لكن دلالها كان منقوصا ولا يُضاهي دلال الذكر فيما لو جاء بعد ثلاثة إناث ’’ فرجعت بمخيلتي معها وكيف كانت مُحاطة بالرعاية والحنان وكيف كان يهرع لها الجميع عندما كانت تمرض ولو كان مرضا بسيطا, لكن سرعان ما انسحب منها هذا الدلال مع ظهور أول علامات الأنوثة التي بدأت تطغي على طفولتها لينقلب الحابل على النابل والدلال إلى حصار وقيود رقابة وشكوك وووو , فاختلفت نظرتهم لها فجأة ,وصارت عيونهم شاخصة عليها دوما وليس كالسابق بل تغيّرت لخوف على سمعتهم , فبدأت العيون تتفحصها كل ثانية وتراقب تصرفاتها خوفاً منها لا عليها , ولسان حالهم يقول بأن شرفهم يكمن في جسدها وعليهم الحفاظ عليه من غدر الذكور أمثالهم لكون شرفهم وفحولتهم ينحصران في مدى قدرتهم على ضبطها وتأديبها وهم لا يرون سوى أنهم قد امتلكوا الحق بل وكل الحق في أن يتحكموا بإناثهم وفي نفس الوقت لهم ذات الحق في التحرّش بإناث غيرهم بعد أن تعوّدوا أن يطلقوا على المتحرشين ألقاب البطولة ليُزيّنوا ذكورتهم بها ,كالقوة والشجاعة والحزم وغيرها , ومن ثم انتقلت فكرتهم أو مفهومهم للنساء أيضا وصارت الأمهات تربي أولادها على أن يكونوا متحرشين وفي نفس الوقت يُضيقوا الخناق على إناثهم لخوفٌ يعتريهم منها وعليها , لتختلط مفاهيمهم ويغوطوا في وحل ازدواجيتهم الأخلاقية فيما لو أرادت أن تُمارس حقها الطبيعي في الحياة وحالهم حال الغالبية حين يضيّقوا الخناق على بناتهم ويحصروهنّ في قالب البيت خوفاً من تلويث سمعتهم , وكأنها ارتكبت جريمة لكونها خُلقت أنثى وما عليها سوى تقبل حالة الرقابة التي سُلّطت عليها .
تفتّقت ازدواجية أخلاقهم مع تفتّق أنوثتها , هذه الازدواجية التي سادت في المجتمعات الغير أخلاقية والتي سلبت حياة الكثير من النساء ففقدت صديقتي ذاتها شيئاً فشيء وبتٌّ أسمع عن اعتكافها التدريجي عن الحياة .. لكنني لم أحاول اللقاء بها لمعرفتي المسبقة بالحصار الواقع عليها وبأنها باتت تتبنى ذات النهج الذي شبّت عليه, فتصعب محاولتي في إيقاظها من ذلك السبات الذي أخذ يحفر ويحفر عميقا لينتهي إلى أعماقها المحاصرة بهذه القيود الذكورية التي جعلتها لا ترى في الدنيا غير تلك الأفكار التي صارت تعتبرها مطلقة أو طبيعية أو لابد منها .
توفى والدها ثم لحقت به والدتها وبقت وحيدة وربما ماتت وحيدة أيضا ,لا أدري فنحن نولد وسط الأفراح والدفء والحب والرعاية, لنموت بعدها وحيدين ,فهكذا هي الحياة لدينا ,فرحة كبيرة عند الولادة ليأتي الحزن الكبير مع الموت ليمسح تلك فرح الولادة والذي لا تضاهي لحظاته جزنه ساعات بل وأيام من فرح الولادة .

تذكرتها وتذكرت أيام طفولتي معها وكيف كنّا نلعب ونلهو سوية وكأنها كانت بالأمس القريب حين كنّا نذهب للمدرسة سيراً على الإقدام في تلك الصباحيات الشتوية التي كانت ترفل بالبساطة ,تلك الأيام التي فارقتنا مسرعة قبل أن نشبع منها .

فنحن نتذكر الأموات دوما وبقوّة في اليوم الأول ومن ثم تبدأ الذكرى تضمحل تدريجيا في خضم الحياة ولهوها وعجلة تقدّمها ودورانها التي تدفعنا بل وتدحرجنا كالكرة دون القدرة على أخذ أنفاسنا معها, يأتي النسيان مع لهو الحياة وصخبها وضجيجها ودوامة البحث عن مغزاها .

حضرت روحها (صورتها) أمامي بمجرد معرفتي بموتها, فهل هي روح الميت ,كما يقولون ,التي تحوم حول الأحياء من ساعة دفنه ؟
أم إن حضورها هو فقط في مخيلة الأحياء وتفكيرهم الذي يكون حاضراً عند موت الجسد ؟ أم إنها رهبة الموت التي ما بعدها رهبة ليقف الأحياء وقفة تأمل لحياتهم وما بعدها لتجعل حزنهم لهؤلاء الذين سبقوهم لهذه الرحلة المجهولة سببا لهذا التأمل ؟
وكيف لنا أن نُقسّم الإنسان ونُجزئه إلى روح وجسد وقلب وعقل وهو كيان واحد ينتهي ببساطة شديدة بمجرد أن يتوقف القلب عن عمله ؟!!