موقفنا من قضية ( زنا المحارم ) الجزء الثاني



رياض العصري
2017 / 8 / 7

نحن نحيا في مجتمعات بشرية تتعدد فيها حاجات الناس وتتضارب مصالحها ورغباتها .. وبالتالي لابد من وجود منظومة قيم اخلاقية تضبط سلوك افراد المجتمع وتحافظ على السلم الاهلي والنظام الاجتماعي ، ان الهدف من الحفاظ على النظام الاجتماعي هو حماية المجتمع من التفكك والسقوط في مستنقع الشر والرذيلة والظلم والعدوان ، وذلك يستوجب وضع ضوابط للسلوك بما يتفق مع منظومة القيم الاخلاقية ومفاهيم الفضيلة فتكون هذه الضوابط هي الحدود التي يلتزم بها كل فرد في المجتمع ، هذه الضوابط هي جزء من منظومة القيم الاخلاقية التي ابدعها الضمير الانساني على مدى الاف السنين من تاريخ الحضارة البشرية والتي تعتبر قوانين ملزمة اخلاقيا للبشر في كل مكان وزمان وهذه المنظومة تتمثل بمفاهيم ( الحق ، والخير ، والتضامن الانساني ) وبالنسبة لموقفنا من قضية ( زنا المحارم ) فان هذا الموقف يستند الى منظومة القيم الاخلاقية لعقيدتنا ، قيمنا الاخلاقية ليست مستمدة من قوانين الطبيعة ولا من قوانين كيمياء الجسم البشري الذي تتحكم به الجينات الوراثية ، قوانين الطبيعة لا تراعي الاعتبارات والمفاهيم الانسانية ، قيمنا الاخلاقية مستمدة من الدوافع والمبررات والضرورات الاجتماعية ، واستنادا الى مبدأ الضرورة الاجتماعية فان عقيدة الحياة المعاصرة تعتبر فعل زنا المحارم من الافعال المستقبحة والمرفوضة بشكل قاطع ، وان اسباب الرفض تتصل بالمبررات الاجتماعية وليس المبررات العلمية ، رفضنا لزنا المحارم ناجم عن التزامنا الاخلاقي بالحفاظ على كيان الاسرة والمجتمع ، بينما من الناحية العلمية فان الممارسات الجنسية بين الاقرباء حتى ولو كانوا من الدرجة الاولى فانها تؤدي وفقا لقوانين الطبيعة الى نفس نتائج الممارسات الجنسية بين غير الاقرباء ، حيث ان قوانين الطبيعة تسري على الجميع بصرامة دون تمييز بين بشر او شجر او حجر .. وهي ليست معنية بمنظومة القيم والاخلاق لدى البشر ، ولكن الضرورة الاجتماعية تفرض علينا الوقوف بحزم ضد زنا المحارم لان هذا الفعل يسيء اساءة بالغة للنظام الاسري والنظام الاجتماعي ، فالممارسة الجنسية بين افراد ينتمون الى اسرة واحدة او بين الاقرباء المقربون تؤدي الى هدم دعائم الاسرة وهدم دعائم رابطة القرابة ، لانها تسقط الحواجز الاعتبارية بين مراتب الاسرة الواحدة وتطيح بالدرجات القرابية المتعارف عليها وتؤدي الى تشويه النظام الاسري والنظام القرابي والنظام الاجتماعي ، ونذكّر بان الشخص المتزوج لا يحق له ممارسة الجنس الا مع شريكه في عقد الزواج فقط وبخلاف ذلك يعتبر منتهكا لشروط عقد الزواج وللنظام الاسري ، اننا نتمسك بالحدود الاعتبارية بين عناصر النظام الاسري وكذلك بين عناصر النظام القرابي وعدم تجاوزها حفاظا على كيان الاسرة وعلى صلة القرابة وعلى كيان المجتمع ... فالاب له مكانته داخل الاسرة ، وكذلك الام لها مكانتها ، والاخ والاخت والابن والابنة ، والاقرباء كذلك .. العم والعمة والخال والخالة .... الخ كل له مكانته حسب درجة قرابته ، وان احترام مكانة كل شخص وحدوده الاعتبارية ضمن كيان الاسرة وضمن نظام القرابة يسهم بقوة في تعزيز روابط الاسرة والقرابة والمجتمع عموما ، واما الاسلوب السليم في التعامل مع مرتكبي زنا المحارم فيقوم على اساس ان مرتكبي هذا التصرف هم اشخاص مرضى بحاجة الى علاج وليس الى عقاب ، وان العلاج يجب ان يكون تحت اشراف الدولة حيث يتم حجز الزاني والزانية في اماكن خاصة واخضاعهم للعلاج العضوي والنفسي لمدة لا تزيد عن سنة واحدة ، مع متابعة علاجهم بعد اطلاق سراحهم من الحجز بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني المختصة بشؤون الاسرة .
اما بالنسبة لاسباب هذه الظاهرة فنحن نرى بان البشر هم من منتوجات الطبيعة ، والميول الجنسية لدى البشر هي من قوانين الطبيعة ، وان العشوائية لها وجود في منتوجات الطبيعة من خلال ما نلحظه في الميول الجنسية الشاذة لدى بعض البشر كالمثلية الجنسية ، وهناك ايضا الميول الجنسية الشاذة نحو الاقرباء المقربون ممن يوصفون بالمحارم ، الطبيعة تتعامل مع البشر وفقا لقوانينها وليس وفقا لقوانين البشر او تعاليم اديانهم ، وان الادعاء بان التمسك بالدين يحمي الانسان من الانحراف الجنسي انما هو ادعاء يفتقر الى المصداقية ، اننا نرى بان لا علاقة بين السلوك المنحرف جنسيا وبين عدم الالتزام الديني ، الدين لا يقوم السلوك المنحرف ، السلوك صناعة مشتركة بين المورثات والمجتمع ، وان الايمان اوعدم الايمان بالمعتقدات الدينية ليس ذا قيمة امام سلطة قوانين الطبيعة ، وتبقى قوانين الطبيعة اقوى من التعاليم الدينية على مر الازمان والعصور ، وعلينا ان نبحث في اسباب ظهور هذا السلوك المنحرف المتمثل بزنا المحارم وكيفية الحد منه بدلا من اللجوء الى التعاليم الدينية واساليبها اللانسانية في التعامل مع هذه الظاهرة ، لو بحثنا في اسباب جنوح بعض الافراد نحو ارتكاب فعل ( زنا المحارم ) لوجدناها تتشعب الى نوعين اثنين : اسباب ذاتية واسباب موضوعية ، الاسباب الذاتية تتعلق بالشخص ذاته مرتكب فعل الزنا ... فقد تكون تصرفاته الشاذة هذه ناجمة عن اختلال في قواه العقلية او اصابته بمرض نفسي ، والامراض النفسية التي تسبب الشذوذ الجنسي تعرف في علم النفس بالعقد النفسية مثل ( عقدة أوديب ، عقدة اليكترا ) وهذه العقد تتصل بحوادث سنوات الطفولة المبكرة التي تبقى كامنة في العقل الباطن وتدفع نحو الانحراف كرد فعل على تلك الحوادث .. مع الاخذ بنظر الاعتبار توفر الاستعداد الوراثي للاصابة بهذه العقد ، اما الاسباب الموضوعيه للانحراف والشذوذ الجنسي فتتعلق بالواقع الاجتماعي والواقع السكني وهي مجرد عوامل مساعدة ، فالانسان نتاج مجتمعه بسلبياته او ايجابياته ، وان كل من النظام الاجتماعي والنظام السكني في اي مجتمع له دور كعامل مساعد في صناعة السلوك المنحرف لبعض افراد المجتمع ممن يتوفر لديهم الاستعداد الوراثي للانحراف ، ويتمثل دور النظام الاجتماعي من خلال انعدام وجود ثقافة الاختلاط بين الجنسين في الحياة العامة ، حيث ان الفصل بين الجنسين في الحياة العامة يؤدي الى شعور قوي ضاغط بالحرمان العاطفي والكبت الجنسي لدى الطرفين وهذا ما يدفع باتجاه تفريغ الشحنة الجنسية في اقرب مجال متوفر والذي هو مجال الاهل او الاقرباء المقربين ، اما دور النظام السكني كعامل مساعد في انتاج السلوكيات المنحرفة فهذا يتمثل في ان بعض التصاميم للاحياء السكنية قد تكون من العوامل المساعدة على ظهور السلوكيات المنحرفة .. حيث ان المسكن يمثل مستقر الانسان ومكان راحته ، وفيه يتمتع بممارسة خصوصياته التي قد تنتهك نتيجة سوء تصميم المبنى والمباني المجاورة ، ومن المعلوم بان الاحياء السكنية الشعبية القديمة ذات المنازل المكتظة الصغيرة والملتصقة بعضها ببعض .. مثل هكذا احياء سكنية تكون بيئة مثالية لانتاج السلوكيات المنحرفة ونمو الظواهر الشاذة حيث ان الكل مكشوف امام الكل دون مراعاة اي حرمة .. وبالتالي تسقط الحدود والحرمات والاعتبارات والقيم وينحرف السلوك ، كما ان سوء تصميم المساكن المخصصة لسكن الاسر يعتبر من العوامل المساعدة على الانحراف في السلوك ، ويتمثل سوء التصميم في عدم وجود غرف كافية في المسكن للفصل في المنام بين الوالدين وبين الذكور وبين الاناث من الابناء ، او عدم احتواء المسكن في بنائه ما يؤمن خصوصيات الساكنين فيه كل على انفراد ، او وجود حمام واحد في المسكن لاسرة كثيرة العدد ، او وجود اكثر من عائلة تسكن في مسكن واحد ، .... الخ .
يتبع الجزء الثالث