تونس : مجلّة الأحوال الشّخصيّة مجلّة قانونيّة وليست مجلّة موضة



حنان بن عريبية
2017 / 8 / 13

من كلّ عام تحتفل تونس في يوم 13 اغطسس بعيد المرأة في إطار أنّها تعكس نضال الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة الّذي قاوم العقليّة الذّكوريّة التّي كانت تستعبدها.. نضال لا يمكن تخيّل حجم صعوباته والعراقيل التّي تعرّض لها خاصّة وأنّ تونس إبّان تلك الفترة كانت منهكة بشروخ وخراب وتدمير محصلة القوى الاستعماريّة من جهة ومن جهة أخرى سطوة المنظومة الفقهيّة التقليديّة التّي لم تتحرّر من سجن المرأة في بوتقة الجسد والملكيّة الخاصّة وأنّ مشروع المجلّة الّذي يروم من خلاله بورقيبة حفظ حقوقها هو مشروع متغرّب وخارج عن قدسيّة التّشريعات السّماويّة ومعاد للإسلام..

لكن عرف بورقيبة وبحنكة رجل الدّولة المثقّف بمفهوم معنى المثقّف وبعيدا عن الضبابيّة التّي تتخبط فيها الثّقافة اليوم عرف كيف يجد مخرجا ذكيّا وفيه الكثير من التّبصر للمستقبل وأن ينفذ في الوقت نفسه لعقليّة لا ترضى بشيء للمرأة سوى بقائها كالقاصر من يوم ولادتها إلى يوم مماتها وذلك بأن يستمدّ مشروعيّة مجلّة الأحوال الشخصيّة من العناصر المضيئة في التراث الفكري الإسلامي وتطويعها لتكون نصوصا قابله لمواكبة الزّمن.. فجعلها مجلّة قانونيّة نابضة وقائمة الذّات وفي مقام دولة المؤسسات والقانون أيضا بوعي منه أنّ المجلّة ستكون أرضيّة جيّدة للبناء فيما بعد خاصّة وأنّه حاول إجلاء مفاهيم مغلوطة عن المرأة جعلتها منذ القديم مجرد متاع يتملكه الرجل.. وأنّ التّقدم الحقيقي هو بتحرير المرأة من كلّ شوائب الماضي وجعلها عنصرا فاعلا في المجتمع لا عنصرا ثانويا وحاول فرض احترامها ككائن حي وإنسانة قبل كلّ شيء لها إرادة حرة وأنّ التّغيير الفعلي نحو ركب التّمدن والتّحضر يكون بمشاركة المرأة الفعليّة على أرض الواقع في جميع المجالات. وفعلا هذا هو جوهر الأرضيّة الصلبة والمتينة لتقام عليها أسس البناء الجيّد وركائز لا تقهر من أجل دولة عصرية وتقدمية.

نستطيع أن ننقد اجتهادات وحكمة بورقيبة وأبعاد مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّي فرضها بالقانون أيّام لا يعترف بالتّشريع الوضعي ولكن لا يمكن قبول ربط مجلّة بهذه القيمة السّامية أريد لها أن تمتد لجميع التّفرعات الأخرى من المنظومة القانونيّة والحياة الاجتماعيّة باحتفال اسمه عيد المرأة لتخرج مجلّة الأحوال الشخصيّة من سياقها القانوني شيئا فشيئا على الأقلّ في الوعي الجمعي ونعود مرّة أخرى لنقطة البداية والتّذكير بالفوز على عقليّات ذكوريّة في حين أن الواقع المعاش غير ذلك إطلاقا فلا المرأة استوعبت أنّ الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة قدّم لها عقدا أثمن مما تتبرج به للاحتفال بعيدها ولا مثقّف اليوم حاول أن يسأل مغزى الخروج بنصوص تطغى عليها المنظومة الفقهيّة لتعتلي عرش القانون...

سيكون بورقيبة في قمّة السّعادة إن فهمنا مقاصد مجلّة الأحوال الشخصيّة كمحرّك تجديد لا كمجلّة موضة عن طريقها يقع الاحتفال بانجاز عظيم صارع فيه ولوحده اتّهامه بالعمالة والزّندقة والكفر والإلحاد الخ...كان سيكون سعيدا لاكتشافنا أنه مهد لنا تطويع منظومة فقهيّة متسلطّة وإدخالها بإرادة لا غصب فيها دولة المؤسسات والقانون...

من المؤسف جدّا أن يقع تأصيل الخلط لتواجه تونس إنعاشا دائما للعقليّة الذّكوريّة طالما في تونس استئناس لكلّ ما يؤجج العواطف والاستفزاز الرّكيك الّذي يعمق العقليّة الذّكوريّة وهوّة التّعصب والسّطحيّة فلا يكفي أن تخرج مجلّة الأحوال الشخصيّة من سياقها القانوني وأبعادها بل نرى دعوات عوض أن تكون توعويّة لفحوى المجلّة تعمّق للمزيد من تأصيل الرّفض لها وذلك بتبجح العقول الحداثوية بالردّ على كلّ من ينبذ المجلّة بالدعوة مثلا لارتداء الملابس المثيرة أو هتك التابوهات الأخلاقية بطريقة مسقطة وفجة ومبتذلة ونبذ الرّجعيّة التّي جسدّت في حجاب ونقاب لا غير..

أعتقد أن الفوز الحقيقي بمكتسبات المرأة يكون بالشرح لكلّ رافض لمجلّة الأحوال الشخصيّة أنّها مجلّة تنظم العلاقات الأسريّة بالأساس والتعامل الواعي مع أبعادها وأهدافها في المجتمع وأنّها عكس ما يرّوج له أنّها تعني المرأة فقط لدرجة أن يقول الواحد عنها أنّ تهمّ المرأة ولا تعنيني كرجل في حين أن كلّ ما جاء في المجلّة يعني كلا الجنسين..

ولا يفوتنا التّذكير أنّ تونس بلد ابن خلدون المؤسس لعلم الاجتماع لا نرى علاقات اجتماعيّة تعكس هذه القامة الفكريّة بقدر تداخل بين الإنسان وخصوصيّاته بين الذّات البشرّية وبين فكره وتصرّفاته تداخل نمطي ورتيب بنفس التّلبد الثقافي فكيف سيفهم بورقيبة الّذي طوّع نصوصا فقهيّة وجعلها نصوصا قانونيّة قابلة للتنقيح بسلطة القانون وقابلة لمواكبة تغيرّات الزّمن...وكيف سيفهم الطّاهر الحدّاد الّذي وهب روحه وعقله لانجاز خطوة جريئة جدّا نحو المرأة كانسان ووقف وقفة الصّامد وتحدّى الصّعاب إبّان غطرسة الجهل ليهدي المرأة مؤلفا ثمينا جدّا قدّر قيمتها ودافع عنها ككائن حرّ وبذل جهدا كبيرا رغم محاصرته عندما كتب "امرأتنا بين الشّريعة والمجتمع"..

على ذلك يجب استيعاب أنّ لتونس محرّكا تاريخيّا قويّا وحينيّا لا ينكره أحد في إمكانية تطويع نصوص فقهيّة جامدة لتصبح قانونيّة قابلة للتنقيح والتأويل لمواكبة العصر ومحرّكا لفهم ماهيّة الإنسان... أما إذا اكتفينا بتكريم كلّ هذا بصنم وأسماء للشّوارع فقط وبقينا في نفس التّخبط والجدال العقيم في حصر المرأة في المرأة دون الخروج بها إلى رحاب شاسع بقيم كونيّة.. فعلى الدّنيا السّلام

وللأسف هذا ما يعكس المضايقات الدّائمة اليوم للمرأة لدرجة أنّ تتعرض المرأة الحرّة إلى هرسلة في عقليّة القطيع.. شقّ حداثي ينبذ رؤيتها في حجاب ونقاب وشق اخر ينبذ رؤيتها بتنوّرة قصيرة.. أين المرأة العقل وأين المرأة الإنسان.. لا يوجد...
فحتّى المشاكل الجادّة نجدها دون طرح حقيقي أو معالجة أصيلة بعد أن تجاهلها من يعتر نفسه مثقفا واكتفى بصبّ جميع اهتماماته في تبادل وحل الشّتائم.. مما ساهم في تعميق القطيعة بين العامّة والنخبة ليجد المواطن العادي نفسه في تشويش دائم قد يملّ منه ليذهب بكلّ إرادته إلى أين تصنّع العقليّة الذّكوريّة بعد أن توّسم خيرا.. لانتشاله من وحل الجهل والتخلف ليكتشف تمظهرا اخر لعقليّة العشيرة والبداوة وسعيهم الدائم للتّنافس من أجل البروز والشّهرة الرّخيصة بافتعال الإثارة والسّقوط في الابتذال عند أشباه المثقفين مع تربص هؤلاء لكلّ إشعاع لقلم حرّ لا يريد الخضوع للسّائد.. فكيف سنصلح والعقول التّي تروم التّغيير والارتقاء والخروج من التّمعش بقضايا المرأة تغيّب تماما وتخترق بأشباه المثقفين..ويحتل مكانهم الفقاعات كلّما تلاشت فقاعة صنعوا فقاعة جديدة دون البحث عن تغيير أو حتّى ملامسة للعقل..

وتجربتي المتواضعة كامرأة كاتبة مكنتني من استيعاب حجم المأساة التي تعيشها المرأة .. فرغم محاولتي فرض احترام شخصي والتّطرق لما ينجبنه عقلي وأنّي كاتبة حرة لا تبحث إلا عن ممارسة الحرية الفكرية فقط والتعبير عن آراءها فإنني فوجئت بمن يعتبرون أنفسهم حداثيين في موقع التّواصل الاجتماعي الخاص بي يختزلون كتاباتي التّي وجدت رواجا في العالم العربي دون أن يعرفني أجد يرمون كل ذلك وراء ظهورهم ويتطرقون لشخصي بعبارات تصل للمجاهرة بأخلاق عقليّة ذكوريّة بحتة ومكبوتة تتجاوز الحداثة مما يضطرني للإيضاح أنني لا أبحث عن علاقة فايسبوكية وإجباري أن أكتب أني وهبت جسدي للرّب بعد إزعاجي برسائل مغازلة ومهاتفتي عبر "ماسنجر" في كلّ وقت وإذا لم أتجاوب أنعت بالتّكبر والنرجسيّة والتّعالي والفجور والجهل.. ولمّا دعوت للاحترام وجدت استنكارا من العديد وهو ما يعكس امتدادا للعقليّة الذّكوريّة التّي لا ترى في المرأة غير الجسد مهما فعلت وطالما هي موجودة بمواقع التّواصل الاجتماعي فهي ملكيّة خاصة عليها أن تخضع لرغبات الذّكر وأهوائه.. عقليّة متأصلة للأسف في من يعتبرون أنفسهم رعاة للحداثة.. لم يفهموا أنّي امرأة لها عقل تريد احترام شخصها كذات بشريّة لها خصوصيّاتها لا تمييع كتاباتها والنّفاذ لشخصها عبر محادثات تراجيديّة تطغى عليها لغة المسلسلات التافهة... هذه العقليّة لا تعنيني ولا تؤثّر في قطرة حبر أبذلها.. كلّ ما يعنيني قناعاتي التّي لا تحوم على العلّة بل تنصبّ نحو العلّة وتدعو لبسط المساوئ على المشرحة الفكريّة ليكون التغيير فعليّا.

لذلك لا أحتفل بعيد المرأة الذي يذكرني أنّي امرأة لا إنسانة تجاوزت حقبة ناضل فيها الزّعيم الحبيب بورقيبة من أجل يقع احترام المرأة كانسان.
أعلم أنّ روح الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة ستكون سعيدة جدّا أن يحتفل المرأة والرّجل معا بانجازه ويقع التّرحم على روحه عندما تخرج المرأة إلى مجتمع يرى أنها إنسان قبل كل شيء دون أن تتعرض فيه للتّحرش المعنوي أو المادّي أو أي نوع من المضايقات وأن تحترم خصوصيّاتها وأنّها إنسانة مهما كانت توجهاتها أو تصرفاتها.. ستكون روح بورقيبة سعيدة فعلا لأنّه سيكون هذا هو الاحتفال الحقيقي ...