مصطفى حجازي: المرأة العربية منتجة ورائدة لكنّها غارقة في الاستهلاك



عصام سحمراني
2017 / 11 / 19

تتدفق الإعلانات الغربية علينا كتدفق أمطار فبراير/ شباط في بيروت، فلا تكاد تظنّها هدأت وتركت مستنقعاتها في الشوارع ووزعت ضحايا بردها في المستشفيات والمنازل، حتى تعاود كرّتها مجدداً لتذكرّك أن لا مفرّ منها ولا منجى.. فالمرئي والمسموع والمقروء والإلكتروني والمحمول كلها تستحضر أمامك اليوم صورة المرأة النموذج والطفل النموذج والبيت النموذج والسيارة النموذج والعمل النموذج والمدرسة النموذج.. وأيّ نموذج ذلك الذي يصورونه أمامك إلاّ نموذجاً واحداً مبتكراً وزائفاً ومنسلخاً عن الواقع، كلّ واقع.
تنال المرأة العربية الحصة الأكبر من ذلك التسليط الإعلاني الغربي المتحالف مع ما جادت به القريحة العربية من شركات إعلان وفضائيات باتت تسيطر على عقول النساء بما تعرض من مسلسلات وبرامج تحمل في طياتها نفسها، بالإضافة إلى الفواصل، إعلانات لا تحصى لأدوات تجميل وتنحيف ومجوهرات وملابس وعطور وأدوات منزلية ومساحيق تنظيف وسوى ذلك من أمور تدعو إلى جعل النساء يقتدين بنموذج واحد أو عدة نماذج بعينها فحسب، ليصبح جهاز التلفزيون على وجه الخصوص المحور الأساسي لحركة المرأة داخل منزلها، فكلّ شيء أمامه وكلّ ما ليس أمامه يُعجّل به حتى تعود إليه.
يرفض الأستاذ في علم النفس الدكتور مصطفى حجازي نظرية المؤامرة الأيديولوجية في تعريف هذا الغزو وتلك القولبة. فالمؤلف اللبناني الذي أمضى عمره في إعداد الدراسات القيّمة حول شخصية الفرد العربي، وتمكن من نشر ما توصل إليه على مستوى واسع من خلال ثلاثيته: "التخلف الاجتماعي- مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، و"الإنسان المهدور" والكتاب الثالث الذي صدر أواخر العام 2011 "إطلاق الطاقات الحية- قراءات في علم النفس الإيجابي"، يرى أنّ العالم العربي كغيره من المناطق في العالم "مجرّد سوق ليس إلاّ والهدف الإعلاني ربحي بحت".

العولمة والإعلام والإعلان
في هذا الإطار، يوضح حجازي نظرته إلى أنّ "إسقاط هذا النموذج الغربي ليس مسلطاً على المرأة فحسب بل هو إسقاط معولم وعالمي على كلّ النساء في كلّ المجتمعات، وقد نال العالم العربي نصيبه من هذه العولمة لسبب بسيط أنّها تظهر من خلال الإعلام والإعلان خصوصاً أنّ الإعلان يموّل الإعلام ويتلطى به".
وبالنسبة لموضوع التمويل فإنّ حجازي يرى أنّ الفضائيات غير متحررة من الغزو الإعلاني المعولم بسبب حاجتها هي بالذات للترويج والتمويل، خصوصاً أنّ ما هو سائد منها تعود ملكيته إلى شركات خاصة، وهي قنوات ليست إلاّ مشاريع تجارية عالمية أو إقليمية. وبالتالي فإنّ الإعلام الخاص "وبموجب توجهات أسواق المال المعولم وأهدافه الربحية فإنّ الإعلانات تشكل له المورد الأساسي، حتى أنّه في بعض الأحيان تصبح البرامج مجرد واسطة لتمرير الفقرات الإعلانية، كما أنّ الوكالات الإعلانية العالمية تتحكم في نوعية البرامج وأوقات بثها كما تتحكم في عرض الإعلانات في الأكثر جماهيرية من بين البرامج".

المرأة وخلق الحاجات
انطلاقاً من فكرة العولمة يجد حجازي أنّ الإعلان يروّج بصفته المعولمة لنموذج خاص بالمرأة والرجل والشاب. والأخير تتوجه إليه الإعلانات الخاصة بنموذج الرياضة والإثارة والكولا وكرة القدم ومشروبات الطاقة وما إلى ذلك من أمور حماسية. أما الرجال فأسواق المال والبورصات تملأ الشاشات العربية "ليتساءل الواحد منا: ما الذي يدعو قناة العربية مثلاً إلى بث البورصة وكأنّها رويترز.. والجواب واضح هو أنّها تقولب الإنسان العربي".
يتطرق حجازي أكثر إلى صورة الرجل في الإعلانات ليلاحظ أنّ "صورة الكهل ملغاة تماماً والرجل هو صاحب الشباب الدائم، وهو توجه مقصود منه دفع الرجل إلى عمليات تجميل" ويؤكد أنّ الأمر غير مرتبط بنا فحسب، بل يشمل كلّ بقاع العالم.
يرى حجازي أنّ الإعلام من خلال الإعلانات لم يعد يحمل وظيفة توعوية في المجتمع بل وظيفة ترويجية فحسب. وبخصوص المرأة بالذات فإنّها تحظى بأكبر حصة إعلانية على الإطلاق، انطلاقاً من مبدأ "خلق الحاجات الاستهلاكية". وللتوسع في هذه الفكرة يشير إلى أنّ المرأة أحد أكبر أدوات الاستهلاك؛ من عطور وملبوسات وأدوات تجميل وأدوات منزلية ومنظفات منزلية؛ "فالمرأة الجميلة تستخدم مسحوق بيرسيل أو ما شابه، والمرأة الجميلة تسكن في فيلا أو شقة فاخرة، وتقود سيارة حديثة".
يشير إلى نقطة أخرى هامة للغاية هي أنّ المرأة كذلك لا تتواجد فقط في إعلانات تخصها بل هي عنصر دائم الحضور في إعلانات موجهة إلى الرجال وذلك كعنصر جذب: "الرجل في الإعلانات مرتبط بنخبوية العيش والاستهلاك رفقة مجموعة من الحسناوات.. فحين يدخن لا يرتبط الإعلان بتدخينه كتدخين بل بلباس بحر أو بسهرة... ولكي تكون محظياً فإنّ السيارة أو السيجارة يقدمان إليك ومعهما امرأة".
وفي تفسير أكبر لمسألة الاستهلاك وخلق حاجاته، يشير حجازي إلى أنّ الاتجاه الحالي هو "استخدام المرأة كمتسوقة"، فالنساء هن من يخترن كلّ شيء حتى أنّ "الزوجة تتسوق لزوجها.. لأنّ الرجال ملتهون ببورصاتهم وصفقاتهم ومغامراتهم ورحلاتهم تاركين النسوة يتبارين في التسوق والاستهلاك والمناسبات الاجتماعية".

5 في المئة
يغوص حجازي أكثر في تحليل الإعلانات الموجهة إلى المرأة ليجد أنّ النموذج الغالب هو "المرأة ذات الشباب الدائم" وغالباً ما يكون النموذج هذا هو لامرأة أميركية- أوروبية، ويهدف تسويق شكل معين لتلك المرأة الشابة الحسناء الممشوقة القوام إلى تسويق منتجات شتى تدخل بالإضافة إلى أدوات التجميل وأدوية التنحيف ووصفاته المختلفة إلى ميدان عمليات التجميل وشفط الدهون وشدّ الجسم "وهو سوق تجاري يقدر بالمليارات".
أما عن حقيقة هذا النموذج الموجه بشكل عام كصورة للمرأة الغربية فحجازي يقدّر أنّ مثله موجود فقط "بنسبة لا تزيد عن 5 في المئة حتى في الولايات المتحدة نفسها". ويضيف أنّ "الصور المنتقاة هي لممثلات وملكات جمال ويصورون الأمر لكلّ النساء في كلّ العالم حتى في الصين واليابان على أنّ المرأة لكي تكون جميلة يجب أن تصبغ وتبيّض وتشفط وتكبّر وتصغّر لتكون كتلك الحسناء".
لا يتوقف الإعلان عند هذا النموذج الطاغي فحسب، بل إنّ كثيراً من الإعلانات - على قلتها- موجهة إلى المرأة المحجبة أيضاً، وذلك لاستدراج شريحة واسعة بدورها لا يمكن أن تغيب عن بال المروجين وتضيّع عليهم أموالاً طائلة منثورة كهباء. يؤكد حجازي أنّ استغلال الحجاب في الإعلانات بات منتشراً، كما بات حال التوجه إلى المرأة المحجبة بـ"نوع الحجاب، وكيفية إبراز وجهها، وتجميله".

"م م هـ هـ"
مع هذه الحالة العامة، أو الظاهرة، التي نعيشها اليوم وتتخذ شكلاً مؤسساتياً يرى حجازي أنّ البديل عن هذا الإطار الاستهلاكي يتمثل في "التحول السياسي- الاجتماعي الكامل". ويفسر ذلك عبر تقديم الدول الخليجية كمثال "لا يعيش ما يكفي من التنمية المستدامة بقدر ما يتعايش مع السوق المالي الذي يجرّ معه سوق استهلاك؛ أدواته وزبائنه من النساء، وسوق بورصة؛ أدواته وزبائنه من الرجال".
يجد حجازي أنّ هذا السوق المعولم "بدأ يدخل في أزمة كبرى والدليل ظاهر في أزمات اليورو ومصارف الولايات المتحدة ودبي والخليج". ويشدد على أنّنا "إن لم نعدّ إنساننا للإنتاج فسيكون لدينا مشكلة، خصوصاً في الخليج بما يملك من طاقة استهلاكية، وإنتاج ريعي لا ينبع من جهد حقيقي بسبب توظيف نصيبه من النفط في الاستهلاك المفرط من دون ضفة إنتاجية مقابلة".
عن ذلك يقدم مثالاً عن الولايات المتحدة التي تعتبر من أكثر الدول استهلاكاً في العالم وفي الوقت عينه من أكثر الدول إنتاجاً، ويشير في ذلك إلى مقولة لأحد الكتّاب تعرّف الولايات المتحدة بأربعة أحرف "م م هـ هـ" التي تشير إلى "ماكدونالد المطعم الاستهلاكي الأول في العالم الذي تقابله ميكروسوفت رائدة الكومبيوتر وبرامجه في العالم، وهوليوود السوق السينمائية الإعلانية الأولى في العالم التي تقابلها هارفارد إحدى أهم جامعات النخبة في العالم التي تخرّج الأدمغة الأهمّ على كافة الصعد".
ينتقل للحديث عن العالم العربي ونظامه التعليمي ليبيّن أننا "لم ننخرط في مشروع بناء الكفاءات الإنسانية الفعلية... ولا نقيس الأمر على استثناءات لأشخاص مميزين؛ فزويل لم ينل نوبل إلاّ لأنّه دررس وعمل في الولايات المتحدة. أمّا إذا كان هناك من تمايز بين دولة عربية وأخرى على صعيد الأنظمة التعليمية ونوعية التعليم فإنّه تمايز بسيط لا يعتبر شيئاً أمام الدول الكبرى في العالم".

المرأة العربية
يشير حجازي في ختام كلامه إلى أنّ بناء الإنسان المنتج في عالمنا العربي هو المطلوب، وذلك عبر استبدال ثقافة الاستهلاك والعودة إلى تراثنا وما مدنا به من ثقافة الإنجاز والعمل وإتقانه؛ "فالإنسان خلق كي يعمّر الأرض والحديث الرسولي القائل: إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، لا نطبقه نحن اليوم بل تطبقه ألمانيا واليابان". ويضيف أنّ الأجدر "تطبيق تعاليم الدين على هذا الصعيد لا على صعيد الحلال والحرام والويل والثبور وعظائم الأمور". كذلك، يؤكد أنّ على رجال الدين عدم تمييز المرأة عن الرجل "فاختزال المرأة بالعورة ليس من الدين بشيء بل هو من العادات القبلية التي نهى عنها الإسلام.. فالحشمة أمر واختزالها بذلك أمر آخر كلياً".
يقول حجازي إنّ "المرأة منتجة ورائدة ومناضلة في الحرب والسلم، لكنّ المجتمع الاستهلاكي اليوم قولبها في إطار محدد عبر تقسيم أدوار نمطي ". ويفسر ذلك بالقول إنّ الرجل يقول للمرأة اليوم: "خذي مالاً واتركيني بحالي" وهذا ما يؤدي إلى "لعب المرأة دور الاستهلاك على أكمل وجه، إذ عوّضت عن مكانتها الأصلية بالاستهلاك والإسراف ومتطلبات الزواج وإرهاق الرجال بكلّ تلك الأعباء".


نبذة:
الدكتور مصطفى حجازي من لبنان
حاصل على دكتوراة في علم النفس من جامعة ليون الفرنسية.
مارس التعليم في جامعة البحرين والجامعة اللبنانية.

مؤلف غزير الإنتاج في اختصاصه. من مؤلفاته:
- علم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية
- التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
- الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية
- إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي
- الشباب الخليجي والمستقبل: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية
- الصحة النفسية: منظور دينامي تكاملي للنمو في البيت والمدرسة

* يعاد نشر هذه المادة في "الحوار المتمدن" بعد نشرها في المرة الأولى بمجلة "ريحانة" عدد أبريل/ نيسان 2012