هو أبي. . . النّذل



نادية خلوف
2017 / 11 / 26

صاحبة القصّة رحلت من عالمنا دون أن تعرف عن الحياة شيئاً. ماتت دون أن تحضر فرح ابنها. وجدوها ميتة في سريرها، وسارعوا بدفنها لأن إكرام الميت دفنه . كان العزاء جميلاً ، ومميزاً. حرص الزوج أن يوزع المال على روح زوجته، وكان يبدو عريساً في ليلة الدفن رغم بذلته السوداء ، وربطة عنقه الحزينة، ووجهه النّاعم الذي حفّه عند الحلاّق بشكل متقن جداً. أحداث القصة الرئيسية حقيقيّة، فقط التفاصيل والصياغة هي من تأليفي.
يسأل طفل أمّه: هل نحن أغنياء أو فقراء؟
لا تعرف الأمّ بماذا تجيب، تقبّله، وتجلب له بيضة مقلية تطعمه إياها فتشبع معدته وينسى السّؤال، تسمع صوت ضحكته في الخارج وتبتسم.
تغلي فنجان قهوة، تضع صحيفة أمامها تقرأ عنوان الصحيفة عدة مرات. سوف أحتفظ بعدة أوراق من الصحيفة، ثم أنظّف بلور البيت بالباقي، لكن قبل ذلك سوف أعرف الجواب على سؤال ابني: هل نحن أغنياء أم فقراء؟
هو يملك سيارة، ولديه متجر واسع، وسكرتيرة عمرها في الستين يبدو عليها الوقار، تعمل في النهار سكرتيرة، وفي المساء تصبح سمساراً تجلب الفتيات إلى بيتها، ويقيم لهنّ ليالي سمر وأنس. .
في كل يوم أسرق من جيبه مئة ليرة أجلب فيها أشياء لابني. إذن نحن أغنياء.
لا. لسنا أغنياء، فليس عندي ثياب، وهذه الثياب التي ألبسها أغسلها في المساء وألبسها في النهار. ليس لدي عطر، ولا مكياج، ليس لديّ مقادير من الذهب، وليس عند ابني شهادات استثمار. إذن نحن فقراء.
يبدو أنّ كلمة نحن فيها إشكال. هو غنّي، وأنا وابني فقيران.
لم أشرب القهوة. أصبحت باردة. أصلاً أنا لا أحب القهوة، ولا الرحابنة ولا نزار قباني. قد تكون فيروز مثلي. زوجها غنيّ وهي فقيرة.
كلما جاع ويسألني هل نحن أغنياء أم فقراء.
-اسأل الحقير يا بني، فأنا لا أعرف.
-لم أفهم ماذا قلت. من هو الحقير؟
-أبوك الذي خلّفك!
أمازحك حبيبي. أقصد أنه بإمكانك أن تسأل والدك.
-أريد ان أشتري عرنوس ذرة.
اليوم نسي أبوك أن يترك المال. في الغد سوف أشتري لك.
-الأولاد جميعهم يشترون إلا أنا.
-لا تبك. سوف آخذ من جارتنا الشرموطة ثمن العرنوس، وأعيد لها المبلغ غداً. أصلاً هو مال والدك.
لو طلّقته وهربت مع ابني ماذا سوف يجري؟
لا. الحياة هنا أسهل من بيت أهلي. عندما أذهب لزيارة أحد أفراد العائلة أشعر برائحة الطرد. لو سرقته، وجمعت ثروة !
سوف أنكّد عيشه. لكنّني لا أستطيع. جلده كجلد التمساح، وكلما تشاجرت معه يأتي ابني وهو يرتجف خوفاً.
حاول أن يصالحني في المساء، وقال أنّني مثيرة جداً. أجبرت نفسي على البقاء معه في السّرير، قلت لنفسي أنه من الأفضل أن أبيعه الجنس من أن أبيع لأكثر من شخص. طلبت منه خمسمئة ليرة ونحن في غمرة الحبّ. توقف فوراّ وقال لي لم أر أحقر منك. هو أصلاً عاجز جنسياً. يطلق إشاعة أنه فحل. ويلمح لي عن علاقاته الجنسية المثيرة كي يستفزّني.
كبر ابني ولا زال يسألني هل نحن أغنياء أم فقراء، فقط اليوم أراد أن يحدثني بشيء، جلس قربي وقال لي: أرجو أن تطلّقيه. لم أعد صغيراً.
-هل أنت جاد يا بني؟ أين أذهب لو تركته فقد بنيت مملكتي هنا.
-تزوجي غيره يا أمي.
-لا أستطيع يا بني.
-ماما. تعالي نسهر معاً على مسرحية قد تحبينها.
كلهم يشبهونه. اسم المسرحية: عربة اسمها الرّغبة
-حسن. يا بني . جميلة جداً ، لكنّها حزينة.
-أتدرين؟ سوف أصبح رجلاً حقيقياً من أجلك. سوف أدرس وأنجح، وعندما أنجح في عمل ما. أقدّمك للعالم، أقول هذه هي أمي، وأتحدّث بصراحة على أن أبي كان شريراً سلبني طفولتي وسلبها شبابها.
- أتدري يا بني. رغم كل العذاب، لو استطاع والدك أن يكون إنساناً عادياً لسامحته. كنت أحسد النساء اللواتي تمسكن بأيدي أزواجهن. لا يمكن للحياة أن تستمر بذلك القدر من الجفاء. الدفء العائلي يعني الرّوتين الذي يجمع الأسرة على مائدة الطّعام، ويكون هناك جوّ فيه قدر بسيط من التفاهم. أتمنى أن تنعم بحياة دافئة مع عائلتك يا بني، فلا حياة دون رجل وامرأة حقيقيان.
-أنا جبان يا أمي. تعلمت الخجل منك. أم صديقي ترمي الأحذية على والده في الشارع، وصديقي لا يخجل من النّاس، وهي أيضاً لا تخجل، ومرّة ضربته بإبريق الماء فكسرت بلور سيارته. اعتقدت انه هو من سوف يطلّقها، لكنني رأيتهما يحضنان بعضهما في المساء، بدأت أفهم الحياة. سوف أحاول أن أعمل كثيراً كي أترك هذا المكان. هنا أكثرهم يشبه أبي، وهناك بعضهم فقط يشبهه.
رحلت الأمّ ،وعندما بحث الأبن عن أشياءها وجدها قد كتبت خلف شهادتها الجامعيّة. هذه المرأة لا تستحق الحياة. نشأت في بيت يتشاجر جميع أفراده مع جميعهم، حاولت أن تهرب بطريقة شريفة فالتقت بأول شخص، وقبلت بالزواج منه، بقيت تتلقى الاضطهاد مثلما كانت في عائلتها. أنت لا تستحقين الحياة.
-لماذا فعلتها يا أمّي؟
اعتقدت انك متّ موتة طبيعية. هل انتحرت بصمت؟ هل أقتله؟
أنا عاجز مثلك. لكنّني لن أنسى أنه أبي الحقير.