عقلانية التضامن، وتقليدانية الإحسان



حميد المصباحي
2017 / 12 / 23

____
التسول يقابله العطاء،الذي عاشته كل الحضارات الإنسانية في صيغة
تبادلات،ترسخ قيم التقرب بين الناس والجماعات،لكن هذا العطاء تحول فيما
بعد إلى علاقات تخفي القوة بين الكائنات الاجتماعية،بل اعتبره نيتشه أصل
الحق،باعتباره تخفيف من التوترات وخلق توازن بين القوى المتصارعة،لكن
الفكر البشري سوف يجعل منه فيما بعد وسيلة للتقرب من القوى الخارقة،سواء
كانت طبيعة أو قدرا أو حتى آلهة،لكن فيما بعد،غدا التسول ظاهرة
مجتمعية،تغلبت عليها التجمعات البشرية بإبداعية قيمية أو
سياسية،واستبدلتها بقيمة التضامن لإخفاء البعد الإحساني،المعتبر وفق هذه
القيم حطا من الكرامة الإنسانية،أوتهربا للدولة من واجباتها في حماية
مواطنيها من المهانة أو العيش بفضل الغير،وتهربا من الفعل الحافظ
لإنسانية الإنسان والمصين لها من كل خدش بها كيفما كانت مبررات المحسنين
ودوافعهم الأخلاقية أو السياسية.
1_التسول والقيم
لم تدن الحضارات البشرية التسول إلا متأخرة،لكن دوافع القبول به كانت
مختلفة،حسب السياقات التاريخية وطبيعة القيم السائدة،والتي يمكن تقسيم
أنماطها بشكل عام،إلى أخلاق لاهوتية كما عبر عنها أوجست كونت،والقائمة
على اعتبار منطق الجزاءات الأخروية،وكأن للمتسولين دور وظيفي يتمثل في
ضرورة وجودهم،ليجد الأغنياء محتاجين يتقربون بهم إلى الله،وتطهير أنفسهم
مما علق بها من طمع وجشع،ليصير البؤس مبررا دينيا بشكل لاهوتي لوجود فئات
مقبولة اجتماعيا،ومحفزة على ممارسة هذا الفعل وكأنه حق من حقوقها،لا
تغتني بالعطاء بل تسد به حاجتها،إلى أن تكف عنه،اغتناء أو توقفا
إراديا،وعندما تصل المجتمعات إلى المرحلة القصوى من التطور أي،الحالة
الوضعية،يتفانى الناس لخدمة بعضهم كرد لدين إنساني،و يتخلصون من النزوعات
الغريزية الفردانية،ليؤسسوا قيما جديدة قائمة على التفاني لخدمة الغير
بدون دوافع لاهوتية أو حتى ميتافيزيقية،متعالية عن المصالح ،معتبرة أن
الخير فضيلة لا تهمه المصالح بل الخير كمثل عقلانية تؤكد إنسانية الإنسان
وتدعمها.
2_التسول والمجتمع
لكل مجتمع أشكال تضامنه،بحيث تتم تغطية التسول بمفاهيم دينية كما يحدث في
العالم الإسلامي،بحيث يبدو دعم التسول كإحسان،وهو من الثوابت الدينية
الإسلامية التي لا ينبغي التفريط فيها،وهي حالة سبق لإميل دوركايم أن
سماها تضامنا آليا،يقترب قليلا من هذا المفهوم،من حيث أن الفعل الإحسان
هو عبارة عن مساعدة أحادية الجانب،يمارسها الأغنياء تجاه الضعفاء،طبعا
بدوافع مختلفة أحيانا باختلاف قيم التجمعات البشرية،لكن يمكن لهذا
التضامن مع تطور المجتمعات أن يصير تضامنا عضويا،بين فاعلين،يثبثون حاجة
بعضهم لبعض،بعيدا عن أشكال التضامن الإحساني،بحيث يتشارك الناس فيما
يؤهلهم لخلق نوع من التعاون العقلاني،تنخرط فيه كل الفعاليات،حسب القدرات
والمهارات،وهو ما أدى لتقسيم العمل،والبحث عما يستطيعه كل فرد من أفراد
الجماعة.
3_التسول والسياسة
تتأثر أشكال التضامن والتعاون،بشكل الدولة وبناءاتها الفكرية
والإيديولوجية وحتى التاريخية،فأما الدول المبادرة والفاعلة سياسية ببناء
اقتصاديات عثلانية،فهي تسعى للحد من الفوارق الاجتماعية بما تبدعه من
إجراءات تقلص من الفقر وتنشط الدورات الاقتصادية للقضاء على كل أشكال
الإقصاء والهشاشة بعيدا عن الممارسات الإحسانية وكل أشكال الدعم
لها،،لكنها قد تلجأ للمجتمع المدني ليمارس مقترحاته بفعالية لكن بدون
دوافع إحسانية لتوظيف الدين فيه،لأن ذلك يمدد في عمر العقليات المحافظة،و
يصب في صالح القوى الدينية،قد يعترض البعض على ذلك بوجود كنائس تقدم
خدمات للمهمشين في بعض الدول الغربية،لكن تلك الممارسا بعيدة عن اختيارات
الدول الديمقراطية،والكنيسة لا تمارسها لخدمة أهداف سياسية لصالح هذا
الحزب أو ذاك.لكن الدول الريعية لا تريد تنظيم أشكال التضامن
العقلي،لأنها تخلق متسولين كبار،يمارسون تسول الرأسمال الرمزي سايسيا
بالمصاهرات وكل أشكال التقرب من مراكز القرار،فكيف تتوقف عمليات التسول
إن كانت تمارس هي نفسها للزيادة في الثروة وبدون دافع الحاجة
والهشاشة؟؟؟؟
5_التسول والتخلف
في كتابات مصطفى حجازي،توقف عند ذهنية التخلف،واصفا إياها بالتفكير
السطحي والسحري ،وهو ما ينتج عنه عقلية الخنوع،والتظاهر بالضعف الجسدي
،بل والمبالغة في استعراضه أمام الناس،وهي العملية التي يمارسها
المتسولون ،بكل أشكاله،سواء كان ماديا اجتماعيا،أو حتى سياسيا،أي المسكنة
والدروشة والتظاهر بالضعف والعجز بل أحيانا الزهد فيما هو مادي باسم
الدين والرغبة في لقاء الله بدون وسخ دنيوي،أي المال والثروة،إنه الخنوع
والمبالغة فيه،هنا تبقي الدول الريعية على التسول،لأنها يخدمها ويخدم كل
الطامعين في امتيازاتها،لأن تقديم الأعطيات قد يكون وسيلة للتهرب من
الضرائب،أوالظهور بمظهر المتفانين في خدمة الناس طلبا لحظوة اجتماعية
مغلفة بما هو ديني،وهي القيم اللاهوتية التي نبه إليها أوجست كونت منذ
عقود،فرغم فعاليتها فإنها لا تخدم لا الحوافز الإقتصادية ولا حتى نظام
القيم المعاصر،القائمة على حفظ كرامة المواطنين،وتوعيتهم بضرورة العمل
كفعل بشري إنساني،به تصان الكرامة الإنسانية وتحفظ،فأجمل الأموال ما حصل
بالجهد،إلا إن كان المقصود بالفعل التضامني المعاقون والعاجزون عن
العمل،فهؤلاء من حقهم الاستفادة مما تعده الدولة لمثل هاته الحالات.
خلاصات
_____
إن الظاهر المشينة لا تحل كمشاكل بالفعل الإحساني،بل بالفعل التضامني
العقلاني،بحيث يقول المثال الياباني_بدل أن تعطيني في كل يوم سمكة علمني
كيف أصطاد_فبدل التصدق على المعوزين،علينا تعليمهم كيف يكسبون رزقهم
بكرامة وبدون التسول لأحد،و على المدافعين عن الممارسة الإحسانية،إن
كانوا ساسة ابتكار إجراءات اقتصادية تخفف من الهشاشة والحيف
الإجتماعي،فلذلك صوت عليهم من المواطنون،و عليهم هم أنفسهم الخجل من كل
الأعطيات التي يفتخرون بها،سواء حصلوا عليها الداخل أو الخارج،في شكل
مساعدات مالية أو دوائية،فتلك الممارسات هي نفسها تشجع على التسول وتطيل
عمره بمقبوليته،ما دام الكل يتسول،أغنياء وفقراء وحتى ساسة.