كتب اثرت فى حياتى ديمقراطية القلة مايكل بارنتى



مارينا سوريال
2018 / 1 / 24

يمثل «المال السياسي» أحد عناصر التناقضات الصارخة في الحياة السياسية الأمريكية، والمدهش أن المحكمة الدستورية العليا هي التي أصدرت حكمها بأن المال يساوي الكلام المباح،
وبذلك أصبح " المال السياسي" مفهومًا وفعلاً وواقعًا، ينطبق عليه التعديل الأول للدستور والخاص بحرية التعبير، أي حرية إنفاق المال السياسي في الانتخابات. أصبح "المال السياسي" استثمارًا مضادًا لجوهر الديمقراطية، ليرسخ عجز الأغلبية عن ممارسة استحقاقاتها المشروعة لعضوية مجلس الشيوخ والنواب، في مواجهة خصوصية واقع قلة بحوزتها الثروات، إذ صار شرط الفوز بعضوية أحد المجلسين، إنفاق أكثر من عشرة ملايين دولار يدفعها المرشح، أو وفقًا للمصالح يسهم فيها الأثرياء ممن يصطفون إلى جانب المرشح، عندئذ يتجلى الثراء أداة إكراه وهيمنة، كتحدٍ صريح للديمقراطية ولسيادة العدالة وشرعيتها، وبينما اختفى مبدأ إنصاف الأغلبية، علت أصوات الأثرياء تروج لتمجيد الديمقراطية بصورة مجردة، وعزلها عن ظروف الاستغلال التي يمارسونها. هل المواطنة عيشًا، أم هي الفعل المنتج لالمؤلف يتساءل: ما النهج الذي يتبعه النظام السياسي الأمريكي، وكيف يؤدي مهامه؟ ما القوى الرئيسية التي تشكل الحياة السياسية؟ من الذي يحكم أمريكا؟ من يحصل على ماذا، ومتى، وكيف ولماذا؟ من الذي يدفع الثمن، وبأي السبل يتم ذلك؟ وهذه التساؤلات إجاباتها - كما يطرحها المؤلف- تضاد ما تمارسه الأمركة وتكرره بأن واقعها لا يتطلب فحصًا، بل لا بد من التسليم به؛ لذا يحاول المتخصصون في العلوم السياسية الذين يمثلون الاتجاه السائد في أمريكا، والمدافعون عن النظام الاجتماعي القائم، إعادة عرض كل النواقص في النظام السياسي، بحيث تبدو وكأنها نقاط قوة؛ بل يحاولون ترسيخ القناعة بأن الملايين ممن يحجمون عن الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأمريكية، قانعون بالظروف الاجتماعية الراهنة، وتتعدد الدفاعات عن دكتاتورية الفساد المعلن المنظم، بحيث تتبدى مسلمات مفروغًا منها تأسيسًا، ولا تتطلب تفكيكها على ضوء أهداف تنظير جديد، بل يستعان بها هي ذاتها، غير أن المؤلف يكشف عن كل المخفيات الأخرى التي اختزلها المدافعون عن تصوراتهم الاستباقية، فهو يكشف حقيقة أن الديمقراطية تتنافى مع الرأسمالية القائمة؛ بل إن النظام الاجتماعي الرأسمالي ينتهك الديمقراطية على نحو مستمر، وأن مفهوم الديمقراطية الحقيقية في أمريكا محض وهم، ولم يجنب الكاتب نفسه عناء الدخول إلى تفاصيل مستفيضة تاريخيًا، لرصد طبيعة النظام السياسي والاقتصادي وتجلياته، إذ يقرر أن "ديمقراطية للقلة"، هي محض انعكاس للنظام الاقتصادي السياسي كله، وأيضًا لطريقة توزيع مصادر السلطة داخل هذا النظام التي تمثل قلة ذات امتيازات، وليس عامة الناس، وأن القوانين وضعت بصفة رئيسية لدعم من يملكون، على حساب البقية الباقية من الشعب، إذ لدى أمريكا أعلى مستوى من عدم المساواة في جميع الدول المتقدمة، ثم يطرح سؤالاً: من الذي يملك أمريكا؟ وتأتي الإجابة فاضحة لمكامن خلل الديمقراطية الأمريكية، إذ إن نسبة 10 % من البيوت الأمريكية، التي تتربع على قمة الهرم، تملك 98 % من السندات المعفاة من الضرائب، كما تملك 94 % من الأصول المالية لمؤسسات الأعمال، وأيضا 95 % من قيمة جميع الودائع، كما تملك الطبقة الأغنى، التي لا تتجاوز 1% فقط من الأمريكيين، ما يصل إلى 60 % من أسهم الشركات الكبرى جميعًا، وكذلك 60 % من كل أصول مؤسسات الأعمال، وتنحو الاتجاهات نحو مزيد من التفاوتات. ألا يعني ذلك أن القلة هي التي تملك أمريكا؟ وبمراجعة تأسيسية شاملة، فكك المؤلف تمفصل النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي، بوصفه مركزًا لتخطيط وتنميط وضبط كل مقول أو مفعول أو متداول، ليكشف الأوضاع المغلقة لقلة أضفت على نفسها اللامحدودية، وامتطت القانون بوصفه إحدى دوائر الضبط الاجتماعي، ليصبح جسرًا إلى أهدافها في استلاب حقوق الأغلبية. ولأن التمفصلات السياسية والاقتصادية تأتي صنيعة أهدافها، ويمكن استشفافها؛ لذا فإن المؤلف يطرح خارطة المخاطر المعادية للديمقراطية، في ممارسات أجهزة الإعلام، وجماعات الضغط، والعدالة القضائية، والتدخل فيما وراء البحار وغيرها من الممارسات التي تعزز التفاوتات والهيمنة، فمثلاً استطاعت الشركات العملاقة للقلة المتحكمة في الإعلام، استصدار " قانون الاتصالات" الذي يسمح لشركة متفردة بامتلاك محطات تلفزة تخدم ما يزيد عن ثلث المشاهدين الأمريكيين، في حين أنها استراتيجية واضحة لإهدار تأمين التعدد واغتيال المصلحة العامة، كما رفضت شركات الإعلام عرض برامج أو تعليقات تدعو إلى التأمين الصحي، أو تنتقد التدخل العسكري الأمريكي في الدول الأخرى، وذلك ما يعني أنها محض سياسة واستراتيجية واحدة تفرضها قلة وليس ثمة خيار للأغلبية، وأيضًا عندما أظهرت إحدى عمليات استطلاع الرأي أن 23% ممن تم استفتاؤهم وافقوا على أن نظام الحزبين الاثنين، يسير سيرًا حسنًا، في حين عبر 67 % عن اعتقادهم أنه ينطوي على مشكلات كثيرة، وأنه غير فعال على الإطلاق، ومع ذلك لم تؤخذ خيارات الناس بعين الاعتبار ولم يعدل نظام الحزبين، صحيح أن الكونجرس يتكون من مجلسين، مجلس نواب توزع مقاعده بين الولايات تبعًا لعدد سكان كل ولاية، ومجلس شيوخ يضم عضوين عن كل ولاية بغض النظر عن عدد سكانها، وصحيح أنه وفقًا لذلك فإن تسع ولايات تضم أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة، ولكنها لا تحتل إلا 18 % من مقاعد مجلس الشيوخ، فمن، وماذا يمثل الكونجرس في الواقع؟ لذا يتولى من يدعمون الرأسمالية الكونية، ودولة الأمن القومي، مركزية التفكير لطرح فقه الدفاع عن الأوضاع الداخلية والخارجية، بوصفها ليست مرشحة للتغيير. يستعرض المؤلف نتائج تدخلات واشنطن في الإطاحة بحكومات إصلاحية لاثنتي عشرة دولة في العالم، خلال القرن المنصرم، واستعانتها بالمخابرات الأمريكية، وقوات من المرتزقة في تلك الحروب التي أدت إلى تشريد وقتل الملايين. يؤكد المؤلف أن "هذه السياسة التوسعية صممت على نطاق الكون كله، لكي تحمي وتدعم تنمية فرصتها المالية العالمية، ولتمنع قيام أنظمة اجتماعية ذات طبيعة ثورية أو إصلاحية"، وتساءل المؤلف: هل المخابرات الأمريكية هي جيش للرأسمالية؟ ويعاود الكاتب تأكيده أن "حكومة بلاده في سعيها لتوفير الأمن والسلامة للرأسمالية العالمية، تلجأ لقمع حركات التمرد الإصلاحية في العالم، وتقنع مواطنيها بأن سياسات التدخل ضرورة لمحاربة الإرهاب"، ثم يطرح سؤالاً: ترى من يراقب الأوصياء على الناس؟
حياة اجتماعية عادلة؟ وهل المجال السياسي هو مجال عام، وليس مجالاً خصوصيًا، إذ يتأسس على الانتخاب وليس الولادة، أو الانتماء إلى قلة مغلقة، أو الشراء؟ وفي ظل سلطان التلاعب واختطاف الحقائق من كياناتها، ظهر كتاب " ديمقراطية للقلة"، للكاتب السياسي الشهير "مايكل بارنتي"
الكتاب ربط بين السياسة والاقتصاد - وأن السياسي يعمل في خدمة رجل الاقتصاد الذي نجح في أن جعل الآخرين يعملون لتحقيق مصالحه وزيادة ثروته التي غالبًا لا تكون وطنية، كما يصف جيمي كارتر السياسة بأنها ثاني أقدم مهنة في التاريخ، ويعلق الكاتب بأن السياسي يلعب الدور نفسه الذي تلعبه العاهرة باستغلال كل منهما للمظاهر والوعود من أجل تسويق النفس.
سمة في عالم اليوم, أم تلك هي سمة العالم في التاريخ?! حيث إنه من غير المعقول أن تقف العقول, لكي يبدو أن كل ما اكتشف, أو كشف النقاب عنه وكأنه الممثل الدائم لسيرورة الحق أو المال الحتمي لصيرورة العدل في الناس, والأمم.
ثمة تجربة في التاريخ تنطق بما يظاهر هذه الفرضية على قاعدة أن المنظور ليس على سنن المستور وما بين المنظور, والمستور تتحرك قوى خفية تحاول أن تصوغ الحياة, وتهيكل الاقتصاد والسياسة, والعدل بما يتوافق مع مصالحها بتوليفات ذكية تبدو لأصحاب الفهم الظاهري أنها منطقية ومتناغمة مع الحراك الإنساني العام للمجتمع المعني, أو للمعني في الدولة صاحبة الشأن, ومن هنا جاءت في أدبيات السياسة مقولة التعمق فيما وراء الظاهر, واحتسب على الفلاسفة كل من يملك نظرة نافذة إلى ماوراء الظاهر.‏

وإلى ذلك سنجد أن عدم سقوط الرؤيا إلى حلقات ما وراء الظاهر سيبقي عناصر التحليل عند فضاء محدود, ولن يحدث أي تفعيل للعناصرالتنبؤية في الذهن, لتستقر المعرفة على سطح ما يلمس بالحس المباشر, تفتقد إثر ذلك المكونات المعرفية الأعمق التي لا تتشوش بعرض مقصود عبر حدث مضلل أو مجموعة مفارقات رصدت كي تضيع معها الهدفية الرئيسية مما يستحدث خاصة حينما يكون البشر يواجهون صراعات التحكم بالكون عن بعد, أو الإمساك بحركة الزمان, والتاريخ عن قصد, وبعيانية متحدية ليس فيها إخفاء أو حياء.‏

ويبقى محكوماً بالعرف التاريخي كل منطق يحاول أن يتشكل خارج التاريخ فمن المعروف أن للتاريخ امتداداً إليك ولو لم يكن لك أي امتداد إليه, فالبعض قد يفترض أنه يقود التاريخ عن طريق السير باتجاهه وكأن للتاريخ اتجاهاً معلوماً, واضحاً محدداً بنيات حسنة, والآخر قد يفترض أنه محصن, ولا تعنيه سيرورة التاريخ الملحوظة على سطح شعوره بل يفترض أن حقائقه تكفيه, وليس مستعداً لأن يغوص في أثر حقائق جديدة ويبقى الصناع المهرة للتاريخ أولئك الذين يملكون من العقل الكلي أكثر من غيرهم, ومن الطاقات المادية ما يدعم إراداتهم, ومن القدرة على انتشار تجعلهم أصحاب خارطة أوسع, ومناطق فاعلية أمنع.‏

والحال عليه فإن ما يميز السيرورة الإنسانية في التاريخ هو اكتشاف الذات, وتوظيف القدرات, وتنافس الإرادات ومن لا يملك المشغل الخاص بهذه العمليات اللازمة يدخل التاريخ أعزل, متعرضاً لصنوف التقلبات, وبالضرورة سيكون دوماً محملاً على خرائط التحديد الجديدة, أو إعادة الترسيم والهيكلة ولا سيما حين يكون العالم مقبوضاً عليه لمصلحة تحالفات كبيرة, أو قوة امبراطورية أكبر.‏

فالمشغل العقلي في كل زمان يجعل الأمم تأخذ مما لا يعطى بالبساطة, وتعطي مما لا يضر بالأصالة, كي تبقى خيوط التجاذب بينها, وبين من تعيش بين ظهرانيهم في العصور المختلفة سليمة, حية معطاءة وبهذا تكون الأمم المعنية بهذا الشأن قد حجزت لذاتها دوماً بطاقاتها اللازمة لدخول المستقبل المنظور, أما حين يكون للأمم حراك مخالف, ومبني على قواعد بطل العمل بها, أو تجاوزتها العملية الاقليمية أو الدولية بآفاقيات جديدة فإن هذه الأمم تكون هي بذاتها قد وضعت نفسها في غير الموضع التاريخي المطلوب وحكمت على نفسها باستقبال ما سيفرض عليها.‏

وقد يتساءل متسائل هنا حول مقدار لزومية أن تستدير الأمم ميممة وجهها شطر كل وافد دولي, وخاصة حين لا تكون معالمه محققة للاطمئنان منه..فالجواب هنا لا بد أن يتعلق أولاً بكيفية رؤية كل أمة لذاتها, ونوازعها الداخلية في التغيير, والتغير, وصور تجاذباتها عبر معادلة الداخل, والخارج حتى يأتي المطلوب استحقاقاً لمتحولات التاريخ المعاش بمعايرات ذاتية, ومقايسات وطنية عارفة, ومتعرفة بذهنية التفتح المأمولة, لا أن يأتي فرضاً لاستحقاقات مريبة, قد لا يكون الواقع جاهزاً لاستقبالها, ولا إنسان ذلك الواقع كذلك.‏

العالم كما تمت مشاهدته, عاش, ويعيش ضمن فلسفات محددة لأطرافه المحددة, ومن غير الطبيعي أن يكون الموجود فيه خارج الوجود, ويدعي فلسفة له, أو لغيره, والظروف الحية على أرض الأمم هي المختبر الأساسي لتصوراتها الحاضرية والقادمة, فالأحياء يحاصصون في ميراث الحياة, أما غيرهم فليسوا على أي حساب, نقول بذلك ونحن لاننسى طغيان الأفكار والنظريات التي تخترعها القوى العظمى وتحاول فرضها على بشرية كوكبنا الأرضي, وتشرعن لها بمنطق حق القوة, أو فلسفة القوة, أو برامج عمل الأقوى نعم إن الكثير من هذا موجود ولعل اللافتة الأبرز في هذ المجال هي قضية الحرية, والديمقراطية على صعيد عالمي, كيف تطرح بمنطق نفي ما عند الآخر, والتقرير القسري من خارج احترام السيادات الوطنية, وحقوق الأمم, وفي ظلال مشاريع كونية لم تخضع بالأساس لديمقراطية التداول فيها, أو لحرية اختيار التبني ,هذا ما حدث في عصور مختلفة وما يحدث في عصر القطب الوحيد المهيمن اليوم, فالسجال العالمي يأخذ أشكاله المختلفة بين الأمم المعنية, وسيبقى ما لنا عناية به, مرهوناً بمقدار حكمتنا, وقوانا في الوصول إليه