حتى يا جوافة؟



نوال السعداوي
2018 / 1 / 31


أحببت «الجوافة» منذ طفولتى والتين البرشومى والبرتقال، كانت هى الفواكه الثلاث بأرض جدتى والدة أبي، كنت أتسلق الأشجار، أنا وأخى الأكبر، لنقطف الثمار من فوق أغصانها، قبل أن يأتى الرجال يعبئونها فى الأقفاص ويحملونها على ظهور الحمير لبيعها فى سوق «بنها»، أقرب مدينة أو مركز لقرية «كفر طحلة» بمحافظة القليوبية، لم تكن هناك وسيلة للنقل إلا الحمير والبغال، أما أصحاب الأراضى الكبيرة (الإقطاعيين) فكانت لهم عربات النقل اللورى الضخمة ، تحمل الفواكه النادرة الغالية، التفاح والبرقوق والكمثرى والفراولة واللوز والكريز، مما يأكله الملك والإنجليز، كما كنت أسمع أطفال القرية يقولون، وكان الملك فاروق يستحم باللبن والعسل.

لم تكن القرية بعيدة عن السكة الحديد، هناك قطار نحيل طويل يسمونه «قطار الدلتا» أو «الوابور» ليس له مواعيد، بطيء الحركة، تسبقه الحمارة الشابة النشيطة، يتوقف دون محطات معلومة، تشخشخ مفاصله الصدئة المفككة، ينفث الدخان من رأسه كثيفا، تتقطع أنفاسه كالمريض بالدرن الرئوى المزمن، رغم ذلك يحتل هذا القطار مساحات فى ذكرياتى الطفولية السعيدة، كنت أسابقه فى الجرى مع الأطفال، فأسبقه قبل أن يصل للمحطة، وأسبق أخى والصبيان الكبار، ألهذا اكتسبت القدرة على قطع المسافات واختراق الحواجز، والخطوط الحمراء فوق أعمدة السوارى والأبواب؟

وتظل «الجوافة» فاكهتى المفضلة، أسأل عنها إن سافرت وراء البحار والمحيطات، نكهتها تعيدنى للوطن والأهل، وإن ابتلعنى المنفى وراء الشمس، أستعيد بها طفولتى ورائحة أمي، رأيت بلاد الشرق والغرب، وعرفت طعم ما يأكله الملوك والإنجليز، وظلت «الجوافة» حبى الأول، لا ينازعها لبن العصفور فوق الهمالايا، ولا بيض النمل فى المكسيك ولا العنقاء والخل الوفي، لكنها تعرضت للضربات منذ الانفتاح فى السبعينيات، غرقت الأسواق بالبضائع الأجنبية، اختفى الإنتاج المحلي، انغلقت مصانع النسيج والقطن المصري، وأصبح الاستيراد هو الغول والجن والعنقاء، حتى اللبن والخبز والماء، والفول المدمس يأتى فى العلب من كاليفورنيا، يفقد نكهته وله طعم الصفيح، والجبنة البيضاء أصبحت مثل نعل الكاوتش، والملوخية والخيار والطماطم لها رائحة الزرنيخ أو الفسيخ ، وسمعت رئيس الدولة (السادات) يعلن فى الأبواق عن الثورة الخضراء والأمن الغذائي، الذى تمخض عن استيراد المزيد من الأطعمة الفاسدة، ألبان وفاكهة ولحوم، تجاوزت المدة القانونية الدولية، لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي، قرأت فى الصحف أخبار تسمم التلاميذ بالمدارس، فكتبت مقالا «بجريدة الشعب» متسائلة: أيكون الأمن الغذائى هو التسمم الغذائى والديمقراطية هى الديكتاتورية؟ هل فقدت الكلمات معناها بمثل ما فقدت الأطعمة مذاقها؟

قاومت «الجوافة» هجمة الشركات الأجنبية ووكلائهم من رجال الأعمال المصريين، ربما انتصرت فاكهتى على شراسة الغش فى السوق الحرة، وهى حرية الأقوى للبطش بالضعيف، لكن الجوافة ظلت صامدة كالفلاح الفقير، يشق الأرض بفأسه ويأكل المش والدود، نكهتها لم تتبدد وطعمها لم يتغير، بعد سقوط السادات ومبارك ظلت صامدة، وإن تغير طعمها وكادت نكهتها تضيع، قرأت فى الصحف عن كيماويات وأسمدة ومبيدات، لكنى لم أعرف الحقيقة، أتغذى بالشائعات والأطعمة دون شهية، أرى الهوة بين الأثرياء والفقراء تزداد، والفتنة بين الأقباط والمسلمين والإرهاب، وقهر الرجال للنساء، حتى اختفى رأس الطفلة بالحجاب أو النقاب، وظهرت الشوارب الغليظة واللحى الكثيفة على وجوه الذكور، وانتشرت أنفلونزا الخنازير ومكاتب الاستيراد والبنوك الإسلامية وصور العاريات، وتحول ذوى الملايين الى القطط السمان ذوى المليارات، ولم يعد للجوافة نكهة ولا طعم، وارتفع ثمن كل شيء إلا الإنسان، يقوده عقله المبدع الى السجن أو الليمان.

واستغنيت عن «الجوافة» وأنا أقول لنفسى «الاستغناء» التام أو الموت الزؤام، الاستغناء هو سر «البقاء» تجاوزت السبعة والثمانين عاما ولم يقتلك التسمم اليومي، ثم قرأت بالأمس، أول السنة الجديدة هذا الخبر: «أعلنت مصادر رسمية بوزارة الزراعة أن المملكة العربية السعودية أخطرت مصر رسميا بقرار حظر استيراد الجوافة المصرية بسبب ارتفاع متبقيات المبيدات بها على الحدود المسموح بها دوليا»، ولم أقرأ تكذيبا للخبر، فاشتريت نصف كيلو جوافة لمجرد الذكري، وهمست فى أذنها أعاتبها «حتى أنت يا جوافة»؟.