اصلاح المجتمع وفقا لفلسفة عقيدة الحياة لمعاصرة الجزء الاول



رياض العصري
2018 / 2 / 23

هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات لاحقة حول برنامج عقيدة الحياة المعاصرة من اجل اصلاح اوضاع مجتمعاتنا العربية وتغييرها نحو الافضل والاحسن بعد ان وصلت تلك الاوضاع الى درجة بالغة من السوء والتردي ، والحقيقة ان الحالة المتردية التي تعيشها هذه المجتمعات ليست حالة جديدة بل انها قديمة وتتوارثها الاجيال جيلا بعد جيل ، وهي ناجمة عن خلل او اضطراب في النظام الاجتماعي العام ، وان من الطبيعي والمنطقي ان النظام الاجتماعي السائد في اي مجتمع ينعكس سلبا او ايجابا على مجمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ذلك المجتمع ، وهذا الخلل او الاضطراب المزمن في النظام الاجتماعي العربي هو بدوره نتاج بيئة اجتماعية غير صالحة ، هذه البيئة ونتيجة عوامل سلبية عديدة أدت الى بلورة نظام اجتماعي مضطرب منذ زمن بعيد وما زلنا نعاني من انعكاساته ، ومن المعلوم ان اي بيئة اجتماعية تتشكل وتتبلور خصائصها ومواصفاتها وثقافتها نتيجة تأثيرات ثلاثة عوامل وهي: (اولا) عامل اقتصادي ويشمل الوضع الاقتصادي والمعيشي للافراد وبضمنه الوضع السكني لهم ، (ثانيا ) عامل جغرافي ويشمل طبيعة المناخ وتضاريس الارض ، (ثالثا ) عامل معنوي او ثقافي ويشمل طبيعة القيم والمعتقدات والاعراف السائدة في المجتمع وهي بمجملها تمثل الثقافة العامة ، وهناك علاقة تأثير متبادل ومتفاعل بين كل من البيئة الاجتماعية ومنظومة الثقافة العامة من جهة وبين النظام الاجتماعي من جهة أخرى ، وبالرغم من التأثير الكبير للعاملين الجغرافي والاقتصادي في تشكيل ملامح البيئة الاجتماعية الا ان للقيم والمعتقدات تأثيرا أكبر واعمق في رسم ملامح البيئة وتشكيل خصائصها الاجتماعية لتنعكس في النظام الاجتماعي العام ، فالانحطاط في الثقافة العامة او سوء القيم والمعتقدات الشائعة تنعكس سلبا على خصائص البيئة الاجتماعية وعلى النظام الاجتماعي برمته ، من المؤسف ان نقول ان بيئة مجتمعاتنا العربية بشكل عام بيئة منتجة للمظالم والمفاسد والشرور وبكثافة عالية ، وقد اثبتت الايام والسنين والعقود والقرون ان منظومة القيم والمعتقدات في مجتمعاتنا قد فشلت منذ زمن بعيد في تأسيس بيئة اجتماعية صالحة ، وان عملية اصلاح هذه البيئة تتطلب قبل كل شيء تقويم الثقافة العامة بما تشتمل عليه من معتقدات وقيم لانها هي الاساس وهي المرتكز في بناء نظام اجتماعي صالح ، ومهما يحاول المصلحون اصلاح الاحوال والاوضاع في بلادنا العربية فلن يكتب لهم النجاح اذا لم يطال الاصلاح أسس وركائز النظام الاجتماعي ذاته ، النظام الاجتماعي غير الصالح ينتج بطبيعة الحال انظمة سياسية غير صالحة وكذلك انظمة اقتصادية غير صالحة ، اذ ان طريقة ادارة البشر لشؤونهم وطريقة ادارتهم لمواردهم تعتمد على طبيعة النظام الاجتماعي بقوانينه المنظمة للعلاقات بين افراد المجتمع ، وبوجود الخلل في النظام الاجتماعي تبقى ركائز الشر والظلم والفساد وما يتبعها من سلبيات تبقى قائمة مهما تغيرت الانظمة السياسية وتبدلت الانظمة الاقتصادية ، يمضي الزمان ويرحل حكام وقادة ويأتون غيرهم وتتقلب اوضاعنا الاقتصادية ارتفاعا وهبوطا ويبقى شيء واحد كامن في شرايين المجتمع لا يرحل ولا يتغير الا وهو الظلم بجميع انواعه وصوره ، فهذه بيئتنا الاجتماعية التي يتغلغل في عروقها الظلم والفساد منذ زمن بعيد هي أشبه بمبنى قديم مكتظ بسكانه الذين توارثوا العيش فيه وتكاثروا فيه ولكن بقي هذا المبنى على حاله ، حيث لم تجري عليه الترميمات ولا الصيانة منذ عهود بعيدة فتساقط طلائه وتآكل بنيانه وتشققت جدرانه وتلوثت مياهه وفسدت أجوائه رطوبة وعفونة ، فهل نتوقع من سكان هذا المبنى المتهالك ان يتمتعوا بصحة بدنية ونفسية وان يعيشوا في سلام ووئام فيما بينهم ؟ من المؤكد ان المظالم والمفاسد والشرور موجودة بنسب متفاوتة في جميع المجتمعات في العالم ولكنها في مجتمعاتنا موجودة بكثافة عالية ومقيمة بشكل دائم وكأنها تتواجد في بيئتها المناسبة حيث تنمو وتتناسل وتتكاثر وتتطور في اساليبها الشريرة ، العالم من حولنا يتقدم ويتطور ويتحسن ونحن منهمكون في ممارسة طقوس الاجداد وتكرارها دون ملل او كلل ولا نعيد النظر فيها ابدا ، نتباكى على مظالم الماضي واساطير الحزن القديمة وفي حاضرنا نظلم بعضنا بعضا ، وهذه الاموال الوفيرة في بلداننا النفطية رغم وفرتها لم تستغل لاصلاح احوال البشر ومعالجة النفوس المريضة واحياء الضمائر الميتة ، وانما أدت هذه الاموال الوفيرة الى زيادة في افساد النفوس والذمم ، فلا الثروات الاقتصادية في بيئتنا الطبيعية ازالت الظلم من بيئتنا الاجتماعية ولا تغيير الحكام السياسيين ازال الظلم وأصلح الاحوال ، اننا نرى بان الفقر في البلدان الغنية دليل وجود الظلم في مجتمعاتها ، كما ان الغنى الفاحش في البلدان الفقيرة دليل وجود الفساد في مجتمعاتها ، ولن يزول الفقر ولا الظلم ولا الفساد الا بتغيير منظومة القيم والمعتقدات التي تمثل البنية التحتية للبيئة الاجتماعية ، كما هو معلوم فان المصدر الرئيسي لمنظومة القيم والمعتقدات والاعراف الشائعة في مجتمعاتنا العربية هو العقيدة الدينية الاسلامية ، مجتمعاتنا تتغذى ثقافيا واخلاقيا وفكريا من هذه العقيدة منذ 1400 سنة وتستمد منها قوانينها الاجتماعية والاقتصادية وحتى قواعد العلاقات والسلوك بين افراده ، وبالتالي فان هذه العقيدة تتحمل المسؤولية الاولى عن كل مظاهر الظلم والفساد التي تعاني منها مجتمعاتنا في العصر الحالي ، ان المعيار في صلاح اي عقيدة هو في قدرتها على تحقيق اهدافها التي وعدت اتباعها بها ، ومع ايماننا بان مؤسسي الاديان كانوا يحملون نوايا صادقة ومخلصة في نشر العدالة والفضيلة في المجتمعات التي نشأوا فيها ، وايماننا بان العقائد الدينية بشكل عام وجدت لغرض اصلاح احوال البشر ، الا اننا نعتقد ان العقائد الدينية قاطبة ومن ضمنها العقيدة الاسلامية قد فشلت في تحقيق اهدافها ورسالتها في نشر العدالة وازالة الظلم والفساد من المجتمعات البشرية كما وعدت ، فهذه مجتمعاتنا العربية والاسلامية رغم مضي اكثر من ألف واربعمائة سنة على وجود العقيدة الاسلامية فيها مازال الظلم والفساد والشرور متفشيا فيها بشتى الصور والاشكال ، فما الفائدة من دواء كان شافيا فيما مضى ولكنه لم يعد يحقق الشفاء في الوقت الحاضر ؟ لقد تغيرت الظروف والاحوال ، وظهرت علل جديدة ، الا ينبغي اجراء تغيير في بعض مكونات الدواء او تغيير الدواء ذاته ؟ يمكننا القول وبكل وضوح ان العقيدة الدينية الاسلامية تنطوي على الكثير من التشدد والجمود في احكامها وذلك لكونها غير قابلة للتغيير حسب الظروف والمتغيرات ، وهذا ما يعرقل اجراء عمليات التطوير والاصلاح فيها ، ولقد حاول رجال الدين الاصلاحيين ودعاة التجديد الديني منذ مطلع القرن العشرين اصلاح الفكرالديني وتجديد نظرياته لتتوافق مع طبيعة متطلبات العصر الحالي .. ولكنهم فشلوا ، لان محاولاتهم كانت تصطدم بجدار صلب الا وهو جدار التشريعات الدينية المتشددة التي تتحكم في شؤون الناس وفي معاملاتهم واحوالهم الشخصية من خلال أحكام غير قابلة للتعديل او للتبديل بدعوى صلاحيتها لكل زمان ومكان ، وحتى في حالة اجراء اي عملية لاصلاح او تطوير للخطاب الديني فان هذه العملية ستكون جزئية ترقيعية لن تدوم طويلا ولن تحقق الاهداف ، كما ان اغلب رجال الدين الذين كتبوا في الفقه الديني زادوا العقيدة تشددا وتزمّتا ، حيث اظهروا تمسكا حرفيا مبالغا به في النصوص الدينية ، وفي الاقتداء والتقليد للسابقين ، وتحولوا الى عبادة الماضي باشخاصه وثقافته او ما يسمى ( الاقتداء بالسلف الصالح ) وتركوا التفكير بالحاضر والمستقبل ، ومن هنا نرى المسلم المعاصر المتمسك بدينه يحيا في ازدواجية بين متطلبات دينه ومتطلبات عصره ، وهي متطلبات متعارضة ليس هناك اي مجال للجمع او التوفيق بينهما الا بالعيش بصفة انسان مزدوج الشخصية ، واذا علمنا بان صفة النفاق هي احدى صور الازدواج في الشخصية من هنا يكون واضحا كيف تؤثر العقيدة على منظومة القيم الاخلاقية في المجتمع ، وهكذا اصبحت الشريعة الاسلامية بأحكامها الجامدة والمتشددة عقبة كبيرة امام اجراء عمليات الاصلاح الحقيقية في اوضاع مجتمعاتنا.
يتبع الجزء الثاني ....