مشعوذات القرن الواحد والعشرين



حنان مرجية
2018 / 4 / 7

"مشعوذات القرن الواحد والعشرين"

إستقلالها يخيفهم..
أي امرأة تتجرأ أن تكون مستقلة ماديا اجتماعيا ومهنيا تُنعت بأبشع الصفات لأن مجتمعنا يربي فتياته منذ نعومة أظفارهن على أن تكون "تابع قفه"، فمنذ اللحظة التي تولد بها الفتاة تتبع أباها، ويصبح الاب هو الآمر الناهي في حياتها، وثم تتزوج لتصبح تابعة لزوجها، واذا حصل وتجرأت المرأة على أن تكسر قيود المجتمع الذكوري وقررت انها امرأة منتجة عاملة حرة التفكير والتصرف وليست فقط وعاء للإنجاب وخادمة في البيت وتابعة لزوجها واباها، مباشرة توصف أنها "قليلة حيا ومحصنة".. وهذا في أفضل الحالات..

"أبوها ميت..." - جملة استعملتها صديقتي لتشرح لي التصرفات "غير الأخلاقية" لإحدى الفتيات في حارتنا. كنت وقتها في العاشرة من عمري، ولم افهم ما هي العلاقة بين وفاة الأب والاتهامات الخطيرة التي توجهها صديقتي الى تلك الفتاة.
كبرت وبين الفينة والأخرى ومع تقدم العمر بت أسمع هذه الجملة تتردد في أذني كثيرا وحاولت تفسيرها – ولكن لم أفهم ابدا معناها الى أن اتى ذاك اليوم الذي أصبحت فيه انا شخصيا احدى تلك النساء اللواتي اجبرتهن الحياة على ان يعشن ويربين أولادهن بدون زوج، وعندها وفقط عندها فهمت ما قصدته صديقتي عن العلاقة بين وجود الاب (الذكر) وتصرفات الفتاة...
فهمت اليوم أن كل امرأة تتجرأ أن تعيش حرة من دون رجل يفرض سلطته على حياتها هي متهمة بشكل مباشر بالانحلال الأخلاقي وبتهديد الامن المجتمعي الذي يعيش فيه مجتمعنا..
فهمت اليوم أن أي امرأة تتجرأ أن تكون مستقلة ماديا اجتماعيا ومهنيا تُنعت بأبشع الصفات لأن مجتمعنا يربي فتياته منذ نعومة أظفارهن على أن تكون "تابع قفه"، فمنذ اللحظة التي تولد بها الفتاة تتبع أباها، ويصبح الاب هو الآمر الناهي في حياتها، وثم تتزوج لتصبح تابعة لزوجها، واذا حصل وتجرأت المرأة على أن تكسر قيود المجتمع الذكوري وقررت انها امرأة منتجة عاملة حرة التفكير والتصرف وليست فقط وعاء للإنجاب وخادمة في البيت وتابعة لزوجها واباها، مباشرة توصف أنها "قليلة حيا ومحصنة".. وهذا في أفضل الحالات..
ومن الغريب انه بالرغم من أن نسبة النساء المتعلمات واللواتي أنهين مسيرتهن الأكاديمية في المجتمع العربي أعلى من نسبة الرجال اللذين يكملون دراستهم الأكاديمية، فمع هذا ما زال المجتمع يرى في تعليم المرأة وعملها "رفاهية" اجتماعية معينة هدفها الأساسي أشغال المرأة وذاك تحاشيا لوضع تتنقل فيه المرأة من "بيت شقاع لبيت رقاع" وتقضي وقتها في النميمة –– يذكرني هذا بامرأة سألتني قبل أسبوع "وشو بتعملي بس الأولاد ينامو؟ اكيد بتفلسي" وكأن المرأة أن لم يكن لديها رجل تخدمه وتسهر على راحته فلا يوجد ماذا يملأ وقتها!!
لم يصل مجتمعنا الى وضع يؤمن فيه وبصدق ان المرأة تحتاج للتعليم وبناء مستقبل مهني مثلها مثل الرجل تماما وهذه تعد خسارة فادحة للمجتمع – فالمرأة تحتاج أن تبني قدرتها على أن تعول نفسها بنفسها حتى وإن كانت متزوجة، وعليها أن تكون شريكة فعلية من ناحية اقتصادية في حياتها الزوجية وذلك حتى تكون متساوية تماما للرجل شريك حياتها– وبالتالي سيكون زوجها أيضا شريكا فعليا في هذه العلاقة عندما يشاركها الاعمال المنزلية وتربية الأولاد (التي يفرضها المجتمع بشكل تلقائي على المرأة) وبذالك تتحقق المساواة التامة بين الجنسين في داخل الحياة الأسرية.
المشكلة تكمن في الاتهام الرهيب للمرأة انها ان استقلت ماديا فحتما ستتصرف بطريقة غير لائقة، وأنها إذا سكنت وحدها حتما سيقع الشك في تصرفاتها، بينما الرجل ممكن أن يعيش لسنوات طويلة من دون زواج ولكن احدا لن يتجرأ أن يعرض عليه الزواج "عشان ينضب"، ولذلك تخاف معظم النساء أن تقوم بأي خطوة ممكن أن تزج فيها في خانة المرأة غير المرضي عنها اجتماعيا بينما يتمتع الرجال بحرية تامة لأنه لا يشعر ان هناك من يقف له بالمرصاد ليصدر حكما بحقه من دون محاكمه.
ان المجتمع يخاف من أي امرأة قوية تستطيع ان تعيش بمفردها بدون وجود رجل الى جانبها، لان هذه المرأة ممكن أن تكون مثالا لنساء أخريات ليحذون بحذوها، فأسلوب حياة هذه المرآة يمرر رسالة للأخريات وهي أن المرأة ليست ضلعا قاصرا وانها تستطيع ان تدير حياتها بنفسها بدون وجود ذكر يلعب دور الشرطي عليها، وهذا هو السبب الأساسي لهجوم المجتمع على كل امرأة تتجرأ أن تخرج عن سيطرة الذكور في عائلتها، وكل امرأة تقرر أن تتحدى النظام الذكوري.
في السنوات الأخيرة، ازدادت نسبة الطلاق في المجتمع العربي. مجتمعنا بطبيعة الحال يحاول القاء اللوم على المرأة في هذه الظاهرة الآخذة بالانتشار، وكأن السبب في الطلاق دائما هو المرأة الشيطان بينما الرجل الملاك لا يخطئ أبدا. الحقيقة أن ظاهرة الطلاق الآخذة بالانتشار هي أكبر دليل على أنه عندما تكون المرأة مستقلة اقتصاديا وتقيّم نفسها وتحترم كيانها فهي تستطيع أن تتخذ قرار الانفصال بشكل أقوى عند الحاجة، وعندما ترى النساء عامة أن هناك مثالا لامرأة تتخذ دور الأب والأم معا وهي لا تشعر أنها مسكينة إنما تمارس حياتها بكل طبيعي، ستتشجع نساء أخريات في المجتمع للقيام بهذه الخطوة- وبهذا تكون قد تحققت أكبر مخاوف المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه وهو اضعاف السلطة الذكورية في مجتمعنا العربي، وهذا لأنه لم تعد المرأة التي تعيش بدون رجل منبوذة مجتمعيا والسبب يعود لتكاثر حالات الطلاق واتساع هذه المجموعة، وبالتالي لن يستطيع المجتمع تهميشهن كلهن، بالإضافة الى أن هؤلاء النساء لن يسمحن هن بأنفسهن لأحد أن يدخلهن الى خانة المنبوذات.
أن الاستقلال الاقتصادي للمرأة وانخراطها في المجتمع والعمل بجيل مبكر خلق نوعا آخر من النساء ، نساء يشكلن تهديدا جديا لكل التقاليد والأعراف، نساء متعلمات مستقلات ماديا لا يرضين بأن تشل سيرورة حياتهن فقط لعدم وجود رجل فيها، اليوم نحن امام جيل من النساء يتحدى الأفكار البالية ويثبت ان المرأة ليست بناقصة عقل انما انسان كامل يستطيع أن يشغل أكثر من وظيفة في نفس الوقت، وتستطيع أن تقوم بدورها وبدور غيرها اذا اقتضى الامر، امرأة تضرب بعرض الحائط كل ما هو متعارف عليه وتزهر في ظل ظروف قاهرة لا يزهر فيها من تعودت نفسه على الشدائد .
محزن جدا انه بالرغم من اتساع ظاهرة النساء اللواتي يخترن الحياة بعيدا عن سلطة الرجل، وبالرغم من ان هؤلاء النساء لا يعزلن نفسهن عن الحياة العامة انما ينخرطن بالحياة الاجتماعية بالرغم من كل الانتقادات اللاذعة، فما زال المجتمع ينظر اليهن بعين الشفقة "يا حرام" ثم بنظرة لوم وعتب والتي يمكن أن تصل الى اتهامات شخصية بالانحلال الأخلاقي، وبهذا تصبح كل مطلقة أرملة وغير متزوجة متهمة حتى تثبت براءتها.
في عصور مضت واظبت الكنيسة الكاثوليكية على قتل أي امرأة قيادية مستقلة حرة التفكير باتهامها بالشعوذة، وبهذا قضت الكنيسة على أجيال من النساء بتهمة السحر بدون أي محاكمة والسبب هو خوف الكنيسة من أن تؤثر هؤلاء النساء على غيرهن وينقلبن على المجتمع الذكوري الذي حافظت عليه الكنيسة على مر القرون. وأتساءل: هل ما زلنا اليوم في مرحلة صيد الساحرات ذاتها؟ اليس اتهام المرأة بدون أي دليل باتهامات خطيرة قد تودي بحياتها هو كإحراقها عمدا بدون محاكمة وذالك خوفا من انتشار أفكارها؟ أظن أننا ما زلنا في المرحلة ذاتها التي تدفع فيها المرأة الحرة المستقلة ثمن استقلالها هذا، ولكن الفرق الوحيد هو أنه في ذالك الزمان أحرقت النساء بألسنة النار على العمود أما الآن فتحرق المرأة على ألسنة الناس وتدوس على جثتها النميمة وتدفن في مقبرة المنبوذين...