النسوية واليسار



وضحى الهويمل
2019 / 2 / 20

النسوية واليسار: حوار مع ليندا مارتن ألكوف – ترجمة: وضحى الهويمل


لقد تناول العديد من الكتَّاب القضايا الجندرية بشكل ثري في هذا الكتاب لدى قراءاتهم لمشهد بناء التحالفات اليسارية، في حين أننا نحن أولئك المنخرطين بالنظرية النسوية، والنشاط السياسي النسوي غالبًا مانشهد أن الخطابات التي تتناول الجندرية بدأت تخبو لصالح أجندة سياسية يسارية؛ ومرارًا حتى أصبحت “الجندرية” مسألة ثانوية أو لاحقة نسبة للقضايا الجوهرية أو المركزية، مع استمرارية اتخاذها مَطِيَّة لاسيما عندما تتلائم مع غايات سياسية أخرى.

ونظرًا لحدوث ذلك على سياقات ودواعٍ لاحصر لها، وجدت أنه من المهم لإحاطة مثل هذه القضايا المُلْتبسة أن أختم الكتاب بإجراء حوار مع الصديقة والباحثة: [ليندا مارتن ألكوف] المعروفة بإسهاماتها لتحديد شكل العلاقة بين النظرية، والممارسة. ومساعيها المستمرة لبناء تحالفات تنطوي على “الجندر” باعتباره طرف رئيس، إلى جانب تقاطعه مع أشكال أخرى للإضطهاد. بل قد يكون من أهم الأطراف لمدى تأثيره علينا نحن اليساريين حسبما يتبين لنا من أعمالها.

لقد كان لي شرف المشاركة مع [ألكوف] في مطلع التسعينات، حينما بدأت تأخذ الأنشطة المناهضة للعنف المتزايد ضد النساء بالجامعات حيزًا واقعيًا. حيث كانت الغالبية من الشابات يخشين الإفصاح عن تجاربهن، أو اللجوء للقضاء المنحاز بدوره للجاني، ومواجهة التستر المُمَارس من قِبل الجامعات لتلك الانتهاكات بحق النساء، خوفًا على سمعة الجامعة، وللحفاظ بذلك على تزايد معدلات الالتحاق بها.

كنا ومازلنا عند إيماننا بأن أصوات اليسار اللاتي نجين من الاعتداءات الجنسية على قدرة عالية لمواجهة هيمنة الخطابات القمعية. وأدركنا من واقع انخراطنا ــ فضلًا عن النشاط السياسي أيضًا ــ بأن مماراسات التخميد للقضايا الجندرية لا تقتصر على الفصائل المحافظة وحسب، بل كثيرًا ما تبدر من جماعات تتبنى خطابات سياسية نقدية نتفق معها بالعديد من الأهداف، وكان من بينها في الغالب الخطاب اليساري. وتبعًا لذلك بات من الصعب ربما ردم الصدع الذي أخذ باتساع بين أهداف النسويين واليساريين.

تناولنا في حوارنا التالي مع [ليندا مارتن ألكوف] الدراسات النسوية في الولايات المتحدة بوضعها الراهن، وكيف تقرأ العلاقة الخاصة بين النسوية، واليسار في إطارها التاريخي، وأين هذه العلاقة من حياتها الخاصة ومجال دراساتها، والمشاكل المنبثقة جراء محاولاتنا لبناء التحالفات، وما الذي قد يمكِّننا من بناء علاقات أكثر إنتاجية بين النسوية واليسار.




1/ لورا: أعلم بأنه سؤالًا مستحيلًا ولكنني سأطرحه على أيّة حال؛ كيف تقرأين الوضع الراهن للنسوية في الولايات المتحدة، ومالصدوع، والإشكاليات المهيمنة على المشهد؟

ليندا: الصعوبة ليست في قراءة المشهد الراهن للنسوية، ولكنها بلا شك تكمن في تشخيص الإشكاليات أو تحديد ملامح العوائق. فمن المفارقات التي يكتنفها الوضع الراهن أن النسوية تتنامى بتأثيرها على الصعيد الثقافي، برغم الهجوم التصاعدي والسرش من عناصر ذات وزن داخل الحكومة، والإعلام، وصناعة الثقافة. [culture industry: مصطلح تم إدراجه في كتاب جدل التنوير لـ هوركهايمر، وأدرونو ويشير إلى أنه يجري استخدام الأفلام والإعلانات والبرامج والمجلات..إلخ، كأدوات لإنتاج ثقافة شعبية ما].

ويمكننا لو أردنا أن نعرِّف “النسوية” بأنها الإقرار بمساواة النساء للرجال في الحقوق، والخيارات. والاعتراف بأهليتهن في جميع مجالات الحياة. ويتضح لنا من تعاقب الأجيال النسوية أن التمسك بتلك المعتقدات مازال راسخًا. فإذا نظرنا إلى التعليم العالي نجد أن نسبة النساء تفوق نسبة الرجال، ونلحظ كذلك النمو المتزايد لالتحاقهن بتخصصات كالقانون، والطب.

أما بالنسبة لارتفاع معدلات الطلاق والتي يعزو المناهضين للخطاب النسوي أسبابه إلى النسوية، فقد يكون ذلك صحيحًا! ولكن بشكل لا تتفق معه هذه الخطابات المناهضة؛ بمعنى: أنه أصبح من السهل علينا اليوم كنسوة أن نسند أنفسنا، وأطفالنا، وأن نتخلص من الزيجات الفاشلة، نسبة لمراحل لم يكن فيها قوانينًا تمنح النساء الحصانة ضد التمييز، والمساواة في مجالات العمل. ما أدى إلى اتساع رقعة الرفض عند النساء للأزواج المتسلطين والمتعسفين، وعدم الخنوع للنظرة الجنسية الدونية الممارسة تجاههن، وهذا بدوره سينعكس بالضرورة على بناء تصورات الأطفال، والأجيال القادمة، وصياغة مفاهيمهم حول المرأة والرجل. ولكن هذا التحول الثقافي المتدرج تتم مهاجمته على عدّة جبهات:

فالإعلام يقدم النسوية باعتبارها “علم الضحية”، ما جعل النساء اللواتي يؤمنّ بكفاءتهن وأهليتهن يصَنَّفنَ ببساطة كمناهضات للنسوية، ولسنَ بنسويات. وغالبًا ما ينجحن المناهضات للنسوية في محاولاتهن للادعاء بأنهن نسويات حقيقيات؛ وذلك لرفضهن تصنيف النساء كضحايا.

فالحركة المناهضة للعنف الجنسي بتصورهم تُعزز لفكرة أن المرأة ضحية؛ بالرغم من أن نضالنا ــ كما نعلم ــ يهدف لوضع حد للعنف الممارس ضد النساء. وبدلًا من دعمهم لهذا النضال نجد المناهضين للنسوية يستخفون باستفحال العنف الجنسي الذي يواجهنه النساء من كافة الأعمار، ويرفضون التمييز الإيجابي كتسوية، ويهاجمون النقد، والتحليل الثقافي؛ باعتبارهما قيودًا سياسية على الحرية الفكرية، ويصرُّون على أن الضحايا الحقيقيون هم الذكور البيض الذين وجِدوا ليشعروا بالخطيئة تجاه طبيعتهم العدوانية. فلا تزال كلمة “النسوية” بذلك، ــ وكما كانت دائمًا ــ تحمل في حقلها الدلالي مضامين سلبية مؤثرة باتساقها مع الواقع.

ولا ننسى كذلك تهميش حقوق النساء الإنجابية، والآثار الجسيمة المترتبة على ذلك، فالنساء اللواتي يُجْبَرنَ على الأمومة مع عدم قدرتهن على تغطية الإمكانيات الاقتصادية، والعاطفية لمواجهة متطلبات الأمومة تصبح حياتهن غالبًا مرتهنة، ومهددة على المدى القصير. وتتقلص فُرصهن بالمشاركة في بناء المجتمع، والقيادة السياسية، والتنظيمات النقابية، والإصلاحات الاجتماعية الأخرى.

وبما يتعلق بالإجهاض القانوني، فقد تمكنت النسوية من المحافظة على دعم أغلبية ضئيلة من عموم السكان، ولكنها عجزت عن حشدهم بهدف إجبار الكليات الطبية على تعليم عملية الإجهاض، ولم تتمكن بعد من توفير موانع مجانية للحمل داخل المدارس، ولا من الحصول على الخدمات الإنجابية الكاملة للنساء الفقيرات، ونساء الريف، وللنساء في كل ولاية ببساطة.

الوضع هنا معقدٌ بعض الشيء، حيث نجد أن صناعة الثقافة تسعى لاستخدام النسوية بالشكل الذي تستطيع من خلاله تنشيط عملية بيع الأحذية الرياضية للنساء، في ذات الوقت الذي تقوم فيه بتسليع واستثمار المرأة جنسيًا بهدف العوائد الربحية الهائلة.

وتدفع برامج إلى امتهان المرأة جنسيًا لمستويات جديدة في مثل The Bacholar وThe Man Show؛ فقد أصبح تحقير النساء من أساليب العصرنة المتَّبعة حديثًا، بحيث لا نرى لو أردنا المقارنة في الوسائل الإعلامية نظيرًا لمثل هذه البرامج يعزز بدوره للنسوية. بل أن جلّ ما يتعلق بالنساء: نصائحٌ حول الموضة، وحزمة من أفلام تشيك فليكس ” chick flick” [وصف رائج يُطلق عادة على نوع الأفلام التي تتناول العلاقات الرومانسية وقصص الحب، والتي تستهدف بطبيعتها النساء على افتراض أنهن الطرف المسؤول عن إنجاح العلاقات].

ويبدو لي لدى استعراض المشهد على نحو آيديولوجي أن النسوية بحاجة للإصلاح من جانبين مهمين، ويجب العمل عليهما وفق مقاربة ليبرالية، وليست يسارية. يتقدم هذين الجانبين الواجهة العامة للنسوية والتي تخلت ــ رغم امتلاك الكثير ــ عن الحس الأخلاقي. فالجدليات حول الحقوق الانجابية، والفرص الوظيفية… إلخ، تنطلق جميعها باسم حرية الاختيار. بمعنى أن حرية الاختيار ضمن النطاق الخاص تتضارب مع النطاق العام داخل التنظيم الحكومي، نظراً لأن الجمهوريين كسبوا بالأساس المعركة لتمثيل سياسة حكومية وقائية ــ مع استثناء المؤسسة العسكرية بالطبع ــ ”وفق قاعدة مدان لحين ثبوت برائته“.

ولأن النطاق الخاص للخيار الفردي يعتبر المجال الوحيد الملائم للقرارات الأخلاقية، لا يستطيع النسويون الليبراليون أن ينطلقوا بمطالباتهم من حجج أخلاقية، دون استحضار أخلاقيات الفردية، ولكن هذا غير كاف، وغير ضروري، بل وغير صحيح! وقد ثَبت ــ على نحو مأساوي ــ أن مقاومة الفضيلة الأخلاقية للنشطاء المناهضين للإجهاض بدعوى حرية الاختيار الليبرالية غير ملائمة، فإذا كان الفرد يعتقد حقًا أن الاجهاض أمر غير أخلاقي على الدوام سيدفع به ذلك إلى مقاومته تحت أي ظرف من الظروف، أو إلى المجازفة بفقدان شعوره تجاه نفسه كفرد أخلاقي. ولا نختلف أن الجوهر من حركات اليمين المسيحي يتمحور في الواقع حول الأخلاق. وتسعى الفصائل داخله لتعزيز منطلقاتهم الأخلاقية، وطرد ما يمليه السوق من جشع، وأنانية، ورفاهية. وتعميم ذلك على شتى نطاقات حياتهم.

فقد ارتكب الليبراليون خطأً جسيمًا في تنازلهم عن الأرضية الأخلاقية لصالح اليمين، ولم يتوانى إلى جانب ذلك الأكاديميين من النسويين الليبراليين عن نقد “الأخلاقية” أو أي خطاب يتصل بها، أو يمثل ”ما ينبغي“؛ أنا لا أدعو هنا لانتهاز المنطلقات الأخلاقية بغرض استمالة الناس بها، ولكن يجب أن نقرّ بأنها كانت الأفضل من بين منطلقاتنا، وأن نكون صريحين حيال ذلك. يمكن حبس الدين ضمن خيارات النطاق الخاص، ولكن يصعب عزل الأخلاق بالنطاق الخاص بلا تناقض أو تضارب، حيث أن دعوى خصخصة الأخلاق هي دعوى مرتكزة بحد ذاتها على منح التقييم الأخلاقي الأعلى لاستقلالية الفرد.

بظني هنا أن التحليل الاجتماعي اليساري أكثر إقناعا بكثير من الليبرالي. إذ يعتقد الليبراليون بأننا نستطيع ابقاء الحكومة خارج مهمة تشريع الأخلاق. لكن وفقًا لماركس فإن الحكومات، والأنظمة الاقتصادية للمؤسسات هي التي تجعل من الأخلاق أمرًا ممكنًا، وهي التي تجعل بعض الخيارات الأخلاقية متاحة، والبعض الآخر منها أمرًا مستحيلًا؛ أو ما حول ذلك. ونحتاج من منطلق أنه يستحيل علينا تفادي التعزيز لبعض القيم الأخلاقية أن نجعل منهجنا ديمقراطيًا، وعرضة للمحاسبة والتعليل. بدلًا من تفادي ذلك بالكلية.

يأتي بعد ذلك الجانب الآخر المتعلق بالأعمال المحصورة على النوع الاجتماعي أو الجندر، فالتقسيم بالوظائف، والقيمة المتدنية لتلك الوظائف المحصورة للأناث، سبب رئيس في بقاء المرأة متخلفة عن الرجل اقتصاديًا. فقرابة 80٪ من النساء العاملات؛ يشغلن وظائف مقترنة بالأناث ــ كالحياكة، والعناية، والتمريض، والتعليم، والتنظيف ــ. ولن يتحقق الانصاف بالأجور إلا بتعديل وصف تلك الوظائف بشكل جذري، أو أن يتم الاقرار بصعوبة تلك الوظائف، وبقيمتها الحقيقية في سلم الأجور. فالبرنامج الليبرالي المتعلق بدفع المرأة للمهن وتمكينها، ينحصر تأثيره على أقلية صغيرة من نساء الطبقة المتوسطة، وما فوق المتوسطة. في حين أن اللاتي يعملن بالتمريض المنزلي، ومراكز العناية النهارية ــ كلا القطاعين يمكن أن تحصل فيهما المرأة على العمل بسهولة دون أن تحمل مؤهل ــ يتقاضين بشكل عام أجرًا منخفضًا، لا يغني عن الإعانة الحكومية في حال كنّ العاملات أمهات عازبات. وخطورة هذه الوظائف بخطورة التنقيب عن الفحم، ــ فالعاملات بالتمريض المنزلي يُصَبن بالبكتيريا بصورة روتينية، ويتوجب عليهن حمل أوزان ثقيلة على نحو مستمرــ وصعوبتها بصعوبة إدارة أي مصنع؛ فتصوَّري أنك مسؤولة عن رعاية أحدهم، لمدة خمسة بالأسبوع، فيما يقارب، أو يتجاوز العشرة ساعات يوميًا.

يمثِّل اليساريين في بعض الأحيان مشكلة أثناء معالجتهم لتلك الصعوبات التي يواجهنها الملايين من النساء بالقدر الذي يمثله الليبراليين. فلايزال اليسار مستمر بذهنية الاختزال الطبقي التي تنخر بقدرته على تطوير ذاك النوع من التحليل الثقافي الذي يحتاجه الفرد لفهم وظيفة “الآيديولوجية الجندرية” في تنظيم القوى العاملة.

وبالتالي نجد أن غالبية النشطاء النسويين ــ والذين على ما أعتقد دائمًا ليبراليين ــ ينحصر تركيزهم على الطبقات العليا من النساء العاملات، فيما ينحصر تركيز اليساريين على طبقة لا تختلف كثيرًا، لتبقى الغالبية من النسوة العاملات مهمّشة. وأود هُنا أن أُشير لاستثنائيين: أولًا، على الصعيد الأكاديمي، حيث الكمية الهائلة من البحوث والدراسات الممتازة المتعلقة بالعمل، و“الجندر”، وتوجهات الشركات العالمية باستخدام آيديولوجيات جنسية متحيزة لمضاعفة استثمارتها، وصراع العمالة الوافدة/المهاجرة من ذوي الأجور المتدنية… وما إلى ذلك.

وثانيًا: الحركة العمالية، ومساهمة شريحة كبيرة منها بتوضيح دور كل من الجنس، والعرق، والهجرة بخلق ما يعرف اليوم “ascriptive class segment“ [هناك طبقتين كأساس لتقسيم المجتمع في الاقتصاد السياسي الرأسمالي وينحدر منها تقسيمات فرعية تتأثر بصفات العاملين الموروثة والخارجة بالضرورة عن إرادتهم كاللون، والعرق، والجنس] المفهوم الذي أضحى موقع الفرد داخل الطبقة العاملة رهنًا له. حيث بدأت بعض النقابات باستهداف الحملات المؤسساتية، والعمل على تطوير تفاصيل العقود بشكل يساعد على اصلاح بعض سلالم الأجور الحالية للعاملين بمعزل عن صفاتهم الوراثية. هذين الجانبين المفصليين ــ حاجة النسوية لخطاب أخلاقي، وأهمية معالجة الإصلاحات المطلوبة حيثما يعملن النساء فعلًا ــ يحتِّمان العمل عليهما في حال أردنا النهوض بالنسوية لمستويات أعلى وأبعد مما هي عليه الآن.




٢/ لورا: كيف يمكن أن تصفين العلاقة بوضعها الحالي، والتاريخي بين “النسوية” و”اليسار”؟

ليندا: بالطبع يعتمد هذا وكما تعلمين ــ بشكل كبير ــ على كيفية تعريفنا لـ”الحركة النسوية” و”اليسار”. لاسيما وأن كلاهما بالغالب يتموقع ضمن أكثرية بيضاء، ولم يتشكل مطلقًا داخل تنظيمات جموع الأقليات.

فمعظم الباحثين والمختصين بتاريخ “الحركة النسوية” على سبيل المثال لازالو يميلون لتصنيفها باعتبارها حركة تخص النساء البيضاوات؛ متجاهلين بذلك دور النساء السوداوات سواء في [لجنة التنسيق الطلابية السلمية SNCC/]، أو [الاتحاد الحضري /Urban Leauge]، أو نضالهن في البرامج، والإصدارات التي تهدف لتمكين المرأة. وكذلك نضال النساء ذوات الأصول اللاتينية داخل منظمة [MEChA]، واللاتي أدرجن مناهضة التمييز الجنسي ضمن برامجهن.

وهذه الجموع من “الأقليات” لا يُنظر لها باعتبارها جزءًا أساسيًا من الجموع المكوِّنة لـ”اليسار” في هذا البلد. بل الغالب أن تصورنا عن الحركة النسوية كذلك لا يشمل المنظمات العمالية التي تسعى لتمكين المرأة في مجالاتها التقليدية كالتمريض، أو التعليم.

وعلى الرغم من جهود هذه المنظمات، ووصولها لمئات الألوف من نساء الطبقة العاملة، والسعي لتأهيلهن ليصبحن منظِّمات، وقائدات، ودفعهن للانخراط بالتكتلات النضالية للمطالبة بتقييم منصف لوظائف مثل الرعاية النهارية، والتمريض المنزلي. يصرّ الإعلام على أن يوجّه تركيزه على النسويات اللواتي يسعين لدمج أندية الغولف الخاصة بالنخبة. وكحاصل لتلك التصورات المغلوطة على وجه التحديد تنحصر لدينا جودة العلاقات في العمل داخل الحشود، ويتقيد فهمنا الجماعي حول كيفية توحيد والتحام برامجنا بتنوعاتها، وتعدديتها.

لذا لابد كأولوية أن نعيد التفكير بالطريقة التي نفكر من خلالها أحيانًا بـ“اليسار”، و”النسوية”؛ من حيث تواجدهما اليوم.

ولكي نقيِّم النسوية بوضعها الراهن تقييمًا عادلًا أعتقد أننا بحاجة إلى البحث ببساطة عن المواضع التي ينضالن فيها النساء، حتى لو لم تكن تلك النضالات ضمن مؤسسات مكرَّسة لشؤون المرأة. وعلى نحو مماثل يتعين علينا أن نتتبع مواضع التحديات ــ أينما كانت ــ داخل الهيكل الاقتصادي الحالي لكي نصل إلى تقييم منصف لليسار.

يتجاهل الأكاديميين أحيانًا هذه الكوكبة الشاسعة من الجموع والأنشطة؛ بحجة أن هذه الجموع لا تفصح عن غايات يسارية أو نسوية. فربما لا يقدم الأفراد فيها أنفسهم على اعتبار أنهم يساريين أو نسويين، ولكن هذا لا ينفي أنهم على قدر عالٍ من الإدراك، وربما مستوى معقَّد ودقيق إلى حد كبير حول تكلفة التغيير الاجتماعي، وعلى مَنْ تقع المسؤولية في هذا البلد، وكيف تتم ممارسة السلطة من ــ قِبَل مجموعة معينة ــ على السكان.

أنا مؤمنة جدًا بأهمية النظرية، وبحاجتنا الماسّة للبعض ممّن يقضون وقتًا ليس بالقليل للوصول إلى نظرياتهم؛ بالنهاية أنا فيلسوفة. لكنني بالمقابل مؤمنة بأن النظرية السياسية يمكن أن تكمن بالعديد من الأماكن، خارج حدود الكتب المتعلقة بذلك؛ لا أعني هنا الآمال والتطلعات السياسية وحسب، بل أعني النظرية.

وأستدعي على سبيل المثال هنا مؤَلَّف [Rasta and resistance] لأستاذ العلوم السياسية ”هوراس كامبل”، والمؤَلَّف الجديد لأستاذ العلوم الإنسانية والنظرية النقدية ”آنتوني بوقز”: [Black Heretics, Black Prophets] والذي تناول فيه الحركات الثقافية الشعبية، والمنهج الراديكالي للسود على ضوء شخصيات مثل الناشطة والصحفية “آيدا بي ويلز”.

ووفقًا لذلك فإن كل من: النسوية واليسار، يمكن أن يتشكل ضمن مؤسسات، ويمكن كذلك أن يتجسد بثورة اجتماعية، أو ثورة ثقافية، بعيدًا عن أي نطاق مؤسساتي. والحركة النسوية على أية حال ــ تعد دائمًا ــ ومن حيث المبدأ لامركزية نسبيًا. وبالنظر للسؤال المهم الذي طرحتموه عن العلاقة بين النسوية واليسار فإنه يتطلَّبنا إجابة ذات أبعاد متعددة، تتناول “اليسار” و“النسوية” ضمن سياقيهما، وترصد العلاقات بتنوعها، وباختلاف سياقاتها من الصراعات الطبقية، والجندرية.




٣/ لورا: مالدور الذي لعبته علاقتك بـ“النسوية” و”اليسار” على صعيد العمل، والحياة؟ وما تبعات ذلك من الناحية الشخصية، والسياسة؟

ليندا: أعتقد بأن تجربتي تمثل ــ إلى حد كبير ــ العديد من نساء الجيل الذي أنتمي إليه، والذي انخرط بالنشاط السياسي في مطلع السبعينات نتيجة لسلسلة الثورات الاجتماعية، والأنشطة الجماعية التي زامنت نشأته في الخمسينات والستينات، وأوقدت ضرامها فيه؛ وبالفعل حالما غادرت البلاد انخرطت بالنشاط النسوي، وأنشطة اليسار المتوسعة آنذاك.

فعندما التحقت بالجامعة عام 1973م، بعدما غادرت بلدتي في ”فلوريدا”، كان الحراك الشعبي في أوجّ مراحله، ضمن كوكبة من مختلف التنظيمات داخل، وحول الحرم الجامعي. وكان اليسار المنظم ”organized left“ الذي يشير لمنظومة من مختلف الجماعات ذات الجذور الماركسية، ينتقد الحركة النسوية آنذاك بوصفها “نسوية برجوازية”. وأذكر تلك النقاشات التي تكاد لا تنتهي حول شخصيات مثل “جولدا مائير”، أو”أنديرا غاندي” وما إذ كنَّ قد تعرضن للاضطهاد؛ وحول جوهر النضال النسوي، وما إذ كان ذريعة يراد منها مضاعفة نصيب النساء من كعكة الرأسمالية. حيث كان السؤال: هل واجهن النساء البرجوازيات شيئًا من التمييز الجنسي؟ في حال أن التمييز الجنسي لم يكن حصرًا على طبقة معينة. فالرجال من اليسار الجديد غالبًا يعتقدون بأن مظاهر الاضطهاد مقتصرة على نساء الطبقة العاملة فقط، وبالتالي لا يجدون أية دواعٍ للتركيز على حقوق المرأة على وجه التحديد. ومن الأسباب التي أدّت إلى وصف النسوية بالبرجوازية أنها لم تطالب بإطاحة الدولة؛ بل كان جلّ تركيزها على المطالبات الإصلاحية المتعلقة بمسائل الإجهاض، والمساواة بالأجور.

فقد برز الدور الجدير للنسويات على المستوى المحلي من خلال العمل على إنشاء مراكز رعاية صحية للنساء، وإقامة ندوات نسوية معْنيَّة بتعليم، وتثقيف، وتوجيه النساء إزاءَ حياتهن الإنجابية. وكذلك العمل على إنشاء دور لإيواء النساء المعنفات، ومراكز حماية لضحايا الاغتصاب، في محاولة لخلق فضاء آمن ومؤهل لاستقبال وإيواء ضحايا التعنيف الذكوري الذي مازال يتصدر الصحف والأخبار.

وكانت هذه الجهود الإصلاحية داخل المؤسسات وليدة لما يعانيه مجتمعنا من أزمات حقيقية، ولكن تلك المحاولات لم تلقى حظوة عند البعض من ذوي الامتيازات من الطلبة داخل تيار اليسار ــ البيض منهم، والأقليات على حدٍ سواء ــ، وانتقدونا، ولم يستسيغوا جهودنا تلك؛ من منطلق أنها لم تكن [راديكالية] بالمستوى المرجو. بالوقت الذي كن النسويات ــ من طالبات جامعيات، أو طالبات سابقات ــ يسعين لتوفير الخدمات الأساسية داخل المجتمع من الطبقة العاملة، في حين لم يكن ثمة أحد من شأنه العمل على توفيرها.

ولا أقصد هنا الحطّ من هذا النقد، بل على العكس تمامًا؛ الدولة حتى الآن لم تغطي مثل هذه الخدمات في غالبية أطياف المجتمع. وهذه الاجتهادات الإصلاحية النسوية بمثابة الأنشطة التطوعية للنساء، فقد تسببن بالعديد من الإصلاحات العظيمة ــ بلا مقابل يذكرــ بغية التخلص من لوثة وهيمنة الأوليغارشية الأبوية. فالجدير بنا العمل على تغيير طبيعة بنية السلطة في البلد، وإلا فإننا سنظل ندفع ثمن فاتورة التداعيات والانعكاسات الفادحة لتدني الأجور، والبطالة الجزئية، والجشع المادي؛ وغيرها من الإشكاليات المتأصلة بالنظام الاجتماعي الحالي. ولكن اليساريين من الذكور كثيًرا ما كانوا يستهينون بالإصلاحات النسوية آنذاك، ويَعَمَدون للتقليل من شأنها، وبلا شك أن ما يسمى بـ“النسوية البرجوازية“ لا ينطبق على أغلبية الجماعات النسوية المحلية التي لم تكرس جهودها، ووقتها بهدف دمج أندية الغولف.

فما أنجزنه النسويات ــ من مراكز رعاية صحية، وملاجئ لضحايا الاغتصاب، والتعنيف ــ كان يهدف لإيواء النساء اللاتي يعانين من الظلم والقمع، لتأهيلهن، وتفعيل دورهن داخل أسرهن، وإعادة دمجهن بالمجتمع. في حين يعمد البعض من اليساريين للتساؤل أين كن أولئك النسوة من الاجتماعات والندوات؛ ولو أنهم أمعنوا النظر قليلًا لأدركوا بأنهن كنّ يصارعن صعوبات الحياة اليومية داخل بيوتهن في مجتمعاتهن الذكورية.

وعليه نجد أن الغالبية من اليسار آنذاك تمارس التمييز الجنسي بشكل جليّ؛ من أنماط ذكورية في القيادات، إلى تقسيم العمل المرتكز على الجنس داخل المؤسسات، وتجاهل البرامج اليسارية داخل الحرم الجامعي للاضطهاد الجنسي “الجندري” المُمارس. فقد عَملت ضمن المجلس الاستشاري في [CPE] ــ وهي جامعة مجانية تتواجد في عدة أماكن حول البلد حيث تسعى لتوفير المصادر الفكرية للمجتمع بشكل مجاني ــ، إذ كنت ناشطة بالحرم الجامعي ودُعيت للمجلس بغرض المساعدة في التنظيم والإدارة. وكنت غالبًا ما أقوم بالأرشفة، وأُجيب الاتصالات، وأوفر الملصقات. والبرنامج الوحيد الذي طُلب مني تنظيمه كان في يوم المرأة العالمي حيث دعوت فيه ثلاث سيدات من قيادات اليسار للجامعة.

وكنت كذلك أبيع منشورات يسارية في ركن بمقر الطلبة داخل الحرم الجامعي، وكان هناك منشورات بين التي بعنا من جمهورية ألبانيا الاشتراكية أشارت بأن الدور المجيد الذي قد تقدمه المرأة للاشتراكية يتجسد بولادة الجيل القادم من العمال الاشتراكيين؛ كان اليسار في تلك المرحلة بأسوأ حالاته. ونتيجة لهذا الوضع بدأ العديد من النساء بالانسحاب من المجموعات التي يقودها أو يترأسها الرجال، وبات ذلك أمرًا مستساغاً كرد فعل للاضطهاد الممارس عليهن. حيث بدأن بالانضمام والتأسيس لمجموعات نسوية، ومراكز رعاية صحية، ومنظمات لحقوق الإجهاض، ومكتبات …إلخ. ليتمكنَّ بذلك من تجنب الجدل اليومي حول شرعية مطالبهن، وليتجنبن كذلك التعامل مع الرجال الذكوريين.

ومعظم أولئك النسوة كن على الأرجح من البيضاوات، ولكن ليس جميعهن بيضاوات أو من الطبقة الوسطى؛ بل كانت مجموعة متنوعة من الطبقات، متمثلة بمجموعات نسوية مختلفة، وأستدعي على سبيل المثال هنا:

– NARAL/ National Abortion Right Action League))، والمعنية آنذاك بالدفاع عن حق الاجهاض، وحصرت جهودها في سبيل ذلك.

– و(R2N2/ the Reproductive Right National Network)، المعنية بنيل الحقوق الإنجابية، ليتسنى للمرأة بذلك مكافحة التعقيم الممارس على النساء الفقيرات ونساء الأقليات؛ ولتتمكن النسوة من حقهن بالإنجاب، وكذلك حقهن بألَّا ينجبن.

وبدلًا من التعامل مع المجموعات النسوية ككتلة واحدة، نحن بحاجة لتحليل طبقي. فبالرغم من نشاطي داخل البعض من هذه المجموعات، إلا أنني توسعت بنشاطي نحو منظمات تهدف علنًا للتغيير الاجتماعي بشكل أكثر راديكالية في شتى أطياف المجتمع الأمريكي. أردت بذلك أن أتوغل بمناهضة تلك الإشكاليات المتداخلة.

لقد كنت مستاءة جدًا من الإمبريالية الأمريكية المتفشية بأمريكا الوسطى؛ من ”ڤيتنام” إلى “السلڤادور”، واستعانتها بعساكر أجانب تفاديًا للحركات المحلية المناهضة للتجنيد الإلزامي. وكنت مندفعة لمناهضة العنصرية المقيتة ضد السود المتفشية في الجنوب حيث ترعرعت، وكان يُقلقني الاستغلال الطبقي؛ ومما لا شك فيه أن هذه المخاوف رافقتني نتيجة جذوري اللاتينية، وعلاقتي ببلدة “بنما” إحدى فرائس الإمبريالية الأمريكية التوسعية، وروابطي بفقراء الريف الجنوبي، ونشأتي وسط أسرة بين جنباتها عنصريين من البيض في حين كنت نصف بيضاء، وتجربتي المتزامنة مع حقبة “چيم كرو” [حقبة حظرت على الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية حق الحصول على العمل، وكذلك الدخول إلى الأماكن العامة، مثل المطاعم والفنادق والمنشآت الأخرى. وقد عاش السود، خاصة في جنوب الولايات المتحدة، في خوف من أعمال العنف التي تحرض عليها دوافع عنصرية؛ أُطلق عليها هذا الاسم إشارة إلى شخصية كانت تُظهر السود بصورة نمطية سيئة في العروض المسرحية الغنائية إبان فترة التفرقة العنصرية]. الفظيعة، بتحولاتها البطيئة ونتائجها المحدودة بغية إعادة الدمج.

وكان موقف المنظمات اليسارية التي استرعت اهتمامي تجاه اضطهاد المرأة يؤكد على ضرورة التعامل مع الاضطهاد بشكل آني، على عكس البعض من المجموعات الراديكالية آنذاك حيث كانت ترى أن التصعيد بقضايا العنصرية، والتمييز الجنسي يعد “انقساما” أو مثيراً للانقسام في حال أردنا التركيز على توحيد الطبقة العاملة، إذ كان موقفها يؤكد على حاجتنا للانتظار لـ ”ما بعد الثورة“.

وكان هناك مجموعات ترى أن الدفاع عن المرأة يجب أن يكون سمة أساسية في جميع النضالات. فمثًلا كانت منظمة الجنوب بأكمله تتزعمها سيدة بيضاء من الطبقة العاملة تدعى Lyn Wells، إذ عملت كمُنظمة سابقة في [لجنة التنسيق الطلابية السلمية/ SNCC]، و[اللجنة التنظيمية لطلاب الجنوب/ SSOC]. وفي “أتلانتا” ــ مقر إقامتي آنذاك ــ كانت الرئاسة لسيدة أمريكية ذات أصول أفريقية من الطبقة العاملة تُدعى Betty Bryant وكانت إحدى المشاركات بإضراب شركة “Mead”. هؤلاء النسوة كنّ على إدراك تام بحاجتنا لمقاومة التمييز الجنسي، ونقد الأنماط الذكورية. وكان ذلك حينها بالنسبة لي بمثابة البرهان على أن المنظمات حَملت ”قضية المرأة“ محمل الجد.

لقد أُوْلعت ــ كغيري من النسويات الشابات الناشطات ــ بالمنظمات اليسارية المنشقة عن الحزب الشيوعي الأمريكي الذي عدَّ تاريخيًا أضخم منظمة شيوعية لعبت دورًا رائدًا بالعام 1930م على وجه الخصوص، من حيث المساهمة بإعانات البطالة، والتضامن العرقي. وذلك لانزعاجي من دعم الحزب اللامشروط للإتحاد السوڤيتي.

فلم يناضل الاتحاد السوڤيتي حسبما بدا للعديد منا بهذه الشراسة في سبيل المساواة للمرأة إلا من أجل جلبها للقوى العاملة. ولم يقدم شيئًا حيال المهام التي تقع على النساء داخل المنزل، وخارجه. أو ممارسات الذكور الشوفينية، وقلة مشاركتهم بالأعمال المنزلية؛ كما أنه لم يدعم القيادة السياسية للمرأة بالشكل المرجو. (مثلت كوبا على ما أعتقد نموذجًا أفضل؛ ولم تكن الكثير من الدول الاشتراكية التابعة في أوروپا الشرقية أفضل شأنا في القضايا المتعلقة بالجندر من الاتحاد السوڤيتي).

وفي السبعينات وبواكير الثمانينات حاولت بعض المجموعات الراديكالية محاولات جادة بقصد توحيد الحركات العمالية، والحركات المناهضة للعنصرية، ومنظمات الفقراء في برامج مشتركة.

وقد اُرتكبت العديد والعديد من الأخطاء التي قد نتعلم منها أثناء تلك المحاولات أوردها [Max Elbaum] في كتابه العظيم Revolutions in the Air، والجدير بالذكر أن بعض هذه المجموعات الراديكالية كانت مهتمّة بالتعبئة السياسية، وتسعى لإنها التهميش السياسي بخلاف نظيراتها آنذاك، وحاليًا.

وقد حَظِيَت بطاقاتنا والتزامنا عن استحقاق، برغم مواطن الضعف فيها.




٤/ لورا: من وجهة نظرك كناشطة وأكاديمية ماهي الإشكاليات الناتجة جراء مساعينا لبناء التحالفات؟

ليندا: أعتقد أن هناك مشكلتين جوهريتين كان من شأنهما عرقلة التحالفات، أولاً: التمييز الجنسي داخل اليسار. وثانياً: تبنِّي النسويين لمطالبات، وإصلاحات ليست جذرية أو راديكالية بما يكفي. سنستعرض كل مشكلة على حدة.

لقد كانت الأوساط الاشتراكية والتقدمية عاجزة عمومًا عن تناول شأن اضطهاد المرأة نظريًا على نحو مُرْضٍ أو شافٍ، وعن صياغة أو تحديد الخطوات المطلوبة لتحريرنا. ولم تنصرف كثيرًا بمحاولاتها لهذا الاتجاه.

ومقاييس أو منطلقات الماضي ــ أخصّ انجلز هنا ــ مؤيّدوها قلّة اليوم، حيث نرى أنه كان ولازال هناك مقاومة قوية تجاه الاختزالية الطبقية [التصور بأن الصراع الطبقي سوف يعمل على حل مسألة التمييز الجنسي من تلقاء نفسه، من خلال الكشف عن المصالح الطبقية الحقيقية؛ بمعنى أن قضايا الاضطهاد الجنسي ناتجة للاستغلال الطبقي، ووفقًا لذلك لا حاجة لنا لتبني مسألة التمييز الجنسي بشكل مباشر]. من منطلق أن التنظيم أو الحشد حول المسائل الطبقية سيعالج التمييز الجنسي. وهذا كما تعلمين محط تشكيك لدى كثير من النسويين وذلك حاصل أمر واحد وهو: نموذج الدول الاشتراكية ــ وهناك جدل بلا شك حول حقيقة اشتراكية تلك الدول، ولكني سأتجنب ذلك الآن ــ، ووضع المرأة المتأخر داخلها.

فقد أدرك معظم الباحثين أنه لا يمكن للفرد أن يتناول الطبقة كعنصر منفصل، فالوضع الطبقي وليدٌ للعرق والنوع الاجتماعي ”الجندر”، وبنية القوى العاملة مصنفة كَكلّ وفقًا للعرق والنوع الاجتماعي “الجندر”. ومن ثمَّ فنحن بحاجة إلى تحليل أكثر عمقًا وتعقيدًا من شأنه خدمة الأوضاع داخل المجتمعات المستعبدة، والمجتمعات الأبوية التي أخضعت ذواتها للرأسمالية.

وفي وقتنا الحاضر هناك عوائد إيجابية جدًا للباحثين والناشطين النسويين على اليسار، يأتي بمقدمتها وصولهم لتصور الغالبية من الناس وإقناعهم بأن البنية التنظيمية مسألة سياسية، ومسألة “جندرية” على وجه التحديد. بمعنى آخر ان التمييز الجنسي داخل أي منظمة قد لا يكون مادة مكتوبة في لائحة مهماها، ولكنه موجود بالنهج التنظيمي المتَّبع داخلها. فهناك أساليب متَّبَعَة من القيادات التنظيمية: كالتضخيم لكفاءة وقدرة الرجل مقابل المرأة، مع تجاهل وحجب القيادات النسائية؛ فقد تشكِّل المرأة عصب المؤسسة ولكن دون أي مقابل ينسب لها. (تناولت Karen Sach هذ الصدد بشكل رائع). ويقودنا ذلك للإشادة بتجربة النسوية الراديكالية، والنسوية المثلية، حيث عكفن أولئك النسوة بالتوسع وتطوير نماذج مختلفة من التنظيمات، وتكتلنّ ضمن مجموعات صغيرة ومتجانسة، ومطالب أساسية ومتفق عليها، بلا مركزية أو بنية هرمية. ونرى أن الحركة المناهضة للرأسمالية العالمية اليوم اكتسبت الشيء الكثير من اللاّمركزية، فجهود المجموعات الصغيرة، ونجاحاتها بعرقلة وإغلاق أجزاء من المدن خلال اجتماعات “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” كانت نتيجة مباشرة لما اكتسبوه من تجارب النسويين.

اللاّمركزية ضمان مبهر لديمومة أي مشروع؛ إذ لا يوجد “رأس” ليُقطع، ولا “جسد” ينتهي بقطع ذلك الرأس. والنضال باللّعب على أوتار متعددة، وبأساليب متفاوتة، وبؤر وأولويات سياسية مختلفة، مؤشر قوة لا ضعف. ولكي ندرك ذلك ينبغي علينا ــ وعلى نحو مباشر ــ مهاجمة التعديات الذكورية التقليدية للمنافسة الداخلية على القيادة. وينبغي علينا أيضاً أن نتناول ذلك كما يجب، ووفقًا لما هو عليه حقيقة.

لقد ركز النسويين كذلك على الممارسات الواقعية والحياة الشخصية حيث تتجلى مظاهر التمييز الجنسي التي تستبعد المرأة من المشاركة الفعالة نتيجة تضاعف المسؤوليات والأعباء، وعدم تكافؤها داخل المنزل. وبطبيعة الحال أصبح هذا النقد السياسي للحيز الشخصي في بعض الأحيان محصورا جدا، وكأن لم يخلق سوى نموذجا واحدا مناسبا وصالحا لتنتهجه الأُسْر، وليتبناه الناس في سلوكهم، ومظهرهم، وحتى حديثهم؛ ومن هنا اسْتُحدث الصواب السياسي حيث كان نقدًا ذاتيًا داخليًا ضمن اليسار، قبل أن يتم تشويهه من قِبل اليمين. ولكن كان لمفهوم الشخصي هو السياسي [:the personal is plitical تشير هذه العبارة من ستينات القرن الماضي بمعناها الكامن إلى النظرية القائلة بأن ماتعاني منه المرأة على النطاق الشخصي أو على صعيد علاقتها مع الرجل، هي بالأصل مشاكل سياسية. بمعنى أنها نتيجة للقمع الممنهج، وليست نتيجة لأخطاء ارتكبتها المرأة] دور جوهري بالإشارة إلى أن الرجال الذين يدافعون عن العدالة الاجتماعية ولم يشاركوا قط بالمهام المنزلية من طبخ وتنظيف، هم في واقع الأمر مفلسين سياسيًا. وأن نظريتنا لن تثبت نفسها بشكل أفضل على الاطلاق دون أن تتخطى نطاقها وتنتقل إلى نطاق الممارسة.

ومن هنا أُثَمِّن تلك الجهود التي قمن بها النسويات الراديكاليات في سبيل الإصلاحات التنظيمية، والتحليل السياسي للنطاق الشخصي والتأثير المعتبر المترتب على تلك الجهود، والذي لم يقدَّر حق تقديره. فاليوم نجد أن الفصائل المتجانسة بمصالحها داخل الحركات المناهضة للحروب أصبحت هي القاعدة؛ إلى جانب الحث للعمل على الآليات، وتجاوز التركيز على النتائج فقط.

حتى حركة المليشيات اليمينية تبينت مزايا الفصائل المتعددة، واللّامركزية الراديكالية. وهذا يعبر إلى حد ما عن الأناركية التقليدية على نهج “النارودنك” في روسيا، أو”باكونين” في فرنسا؛ إذ تبنَّت الجماعات النسوية هذا النهج، وتوسعت فيه بالماضي القريب أكثر من غيرها، واستخدمته على نحو فعال. ودعيني أذكر هنا “Lesbian Avengers” و“Guerilla Girls” فكلتا المجموعتين على سبيل المثال تجنبت فكرة أن يكون لها أيّة رموز أو زعامات، أو شخصيات قيادية، وحافظت بذلك على إغفال هويتها؛ وغيرها العديد والعديد من المجموعات الصغيرة والمحلية التي دمقرطة منهجيتها بالعمل.

ما أود أن اُشير إليه هنا أن جميع تلك الدروس التي اكتسبها اليسار من المجموعات النسوية، هو بحاجة لاكتساب المزيد منها في حال أراد تجاوز التمييز الجنسي ضمن دائرته. وبظني أن الإسهامات النظرية لعلماء الاجتماع، والباحثين الاجتماعيين من النسويين فيما يتعلق بالنزعة الاختزالية الطبقية مهمة جدًا وباتت مؤثرة. حيث يتبين لنا من خلال أعمالهم أنه على الرغم من أن الرأسمالية مستفيدة من ظلم المرأة بشكل مؤكد، إلا أن ذلك لا يأذن لنا ربطه بشكل كامل للقوى الاقتصادية الرأسمالية ــ كما لو كان له نموذج مثالي ــ، بل ينبغي ايضاحه بالإشارة إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية، والتقسيم المرتكز على الجنس في سوق العمل المنتمي لتلك المرحلة.

ويبدو الأمر ملتبسًا؛ فما يُعرف بالدخل الأسري، وفجوة الأجور بين الجنسين على سبيل المثال (والذي تتقاضى فيه النساء العاملات أجرًا أقل من الرجال على افتراض أن أجورهن لا تعيل الأسرة من منطلق كونهن نساء)، يعتبر من مقتضيات الرأسمالية. بينما نجد أن النساء العاملات بمناطق المشاريع الحرة [free enterprise zones] مثل “ماكيلادوراس” لهن الأسبقية بالتوظيف، ويتقاضين أجورًا تفوق أجور شركائهن من الرجال؛ من منظور أن النساء العاملات مرنات، وسيخضعن لظروف العمل السيئة، ويسهل استضعافهن نظرًا لالتزاماتهن العائلية، وهلم جرا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرأسماليين لا يسعون للتغلب على التمييز الجنسي، بل يستخدمونه مجددًا لأغراضهم الخاصة. ولا أتطلع أيضاً أن يقرأ الاختزاليون class reductionists هذه النماذج كما ينبغي، أو أن يقترحوا سبلًا لمواجهتها. لذا فنحن بحاجة إلى تحليل نتناول من خلاله التمييز الجنسي، والعنصرية، والكولونيالية بقدر من الاهتمام الذي نتناول به الطبقات في طريقنا لمحاولة فهم النماذج الحالية للاضطهاد الاقتصادي.

وأرى كذلك أن صعود السلطة الآيديولوجية للأسرة النووية والأبوية لا يمكن تناولها أو تفسيرها ضمن أدائها للرأسمالية وحسب. فالرأسمالية كما هو الحال جزء من منظومة مناخات تاريخية وثقافية معينة، فلا نستطيع تجاهل حقيقة أن الرجال من الطبقة العاملة مستفيدين، فمناهضتهم أو معارضتعهم للتمييز الجنسي لن يدعمها أو يسندها وضعهم الطبقي كما ينبغي. وبناء على ذلك نجد أن العديد من النسويين على الصعيد الأكاديمي انخرطوا باستقراء التاريخ والثقافة لسبر جذور التمييز الجنسي؛ وكثيرًا ما يتسأل جراء ذلك بعض الرجال من اليسار ”أين الطبقة؟“، وهذا التساؤل غالبًا ما يشير إلى اختزالية ضمنية، وعجز عن الوصول لماهية الطبقة في هذه الحالات الأكثر تعقيداً.

وإضافة لتلك الكوكبة التي أشرنا إليها، هناك مشكلة رئيسية أخرى بين النسوية واليسار تتعلق بتحديد المطالب النسوية. حيث لا تخلو بلا شك المنظمات النسوية ــ بالكثير منها ــ من السياسات الطبقية، ما يؤكد حاجتنا لتشريح طبقي نستوضح من خلاله كيف تتوصل مختلف الجماعات النسوية لأولوياتها، وبرامجها. ففي الستينات الميلادية تلخصت مطالب الغالبية من الجماعات النسوية بفضّ الاحتكار على مستوى المهن، والقضاء على التمييز الجنسي بالوظائف، والترقيات، والأجور؛ وتقليص المهام المسندة للمرأة داخل المنزل وخارجه، وتشريع الاجهاض، ومضاعفة أجهزة المساندة الاجتماعية لتنشئة الأطفال، والرعاية النهارية؛ والحد من التمييز ضد المثليات في ميادين العمل، وفي الشارع.

تحققت معظم هذه المطالب لنساء الطبقة العليا، والطبقة الوسطى، فقد تمكنَّ من الالتحاق بالمهن المهمة ــ كالقانون والطب ــ بأعداد كبيرة؛ إلى جانب التعهدات الحكومية لمساواة الأجور بين الجنسين مقابل شغل الوظيفة ذاتها. وأصبح الإجهاض شرعيًا للنساء مادُمن يمكلن تكلفته، وأضحى كذلك تقليص المهام داخل المنزل وخارجه أمرًا متوفرًا للنساء العاملات من الطبقة العليا والوسطى بوفرة المال الكافي لتغطية تكاليف مراكز الرعاية النهارية الباهظة، واستقدام الجليسات من السويد والسلڤادور، وتشغيل نساء الطبقة العاملة لسد حاجتهن ــ أي نساء الطبقة العليا والوسطى ــ ومساعدتهن بالأعمال المنزلية الروتينية مقابل أجور بخسة.

وتعود نوعية المطالب، وإمكانية الحصول عليها، وانحصار منفعتها للطبقات العليا، إلى ظروف سوق العمل، وعدم كفاءة الفقراء..إلخ، وقد تكرر هذا المشهد مع مطالب أخرى في الستينات الميلادية متعلقة بالبيئة، وجودة الحياة حيث لامجال لتتحقيقها مالم يكن الفرد ثريًا بما فيه الكفاية ليتمكن من تحمل تكاليف المياه النظيفة، والمرشحات الهوائية، والدجاج العضوي، وليتمكن من السفر للمناطق الخلّابة، وتحمل تكاليف دراسة أطفاله للفنون. ولكن هذه ليست نسوية، ولا يمكن تسميتها بذلك. فكما قالت “بيل هوكس”: “إذا كانت النسوية لجميع النساء بلا استثناء، فيجب أن تكون ثورية، ويسارية..”

وقد يكون هذا الدرس للشابات ممن يتطلعن اليوم بجدية إلى مستقبل نسوي بمثابة معركة مريرة. فيبدو أن مناهضة الأوليغارشية العالمية أمرا غير منطقيا، وخياليا للكثير منهن. لذا فقد يتبنيَّنَ النموذج النسوي المنطوي على التقسيمات الطبقية الاجتماعية ــ والذي ترتبط فيه المطالب والتطلعات ارتباط وثيق الصلة بالطبقة ــ، مادام يوحد صفوف النساء على جميع الأصعدة.

وطالما أن اليسار يرزح تحت وطأة التمييز الجنسي لن تسترعي المنظمات والحركات اليسارية اهتمام الشابات، وقد يوَطّن ذلك لديهن الثقافة القدرية حيال فكرة التغيير الاجتماعي المعتبر. وعلينا مقاومة هذه القدرية.



٥/ لورا: يبدو لي أنكِ متفائلة بعض الشيء بقدرة النسويات على تقوية نمط العلاقة، ومدّ الجسور بين ضفتي “النسوية” و”اليسار”، مقارنة بالبعض منا كنسويات يساريات؛ أودّ أن أعلم كيف توصلتِ لذلك؟

ليندا: مبدئيًا دعيني أوضِّح، كوني متفائلة للغاية بالحركة العمالية في البلد لا يعني أنني قدريّة لهذه الدرجة.

فـ[إتحاد العمال الأمريكي، ومجلس المنظمات الصناعية/AFL-CIO] استوعب مايجب استيعابه عن العنصرية، والتمييز الجنسي. وأدرك بأن القوى العمّالية مختلطة ومتعددة. وأن الحركة النقابية إما أن تتهيأ لتلك الحقيقة، أو تنهار. والعديد من النشطاء داخل الحركة العمالية أصبحوا اليوم مدركين لذلك، حيث أدرجوا ورشات عمل لمناهضة التمييز الجنسي، والعنصرية، ورهاب المثلية في منظمات التدريب لديهم؛ وفرضوا التمييز الإيجابي الذي يمنح الأفضلية عند التوظيف للنساء، والسود؛ وطبّقوا نظام الحصص [كوتا] لضمان التمثيل العرقي، والجنسي في المؤتمرات، والمجالس الوطنية. واجتهدوا للتكوين النقابي داخل القطاعات التي عادة ما يشغلها النساء، والسود والملونين ــ الأقليات ــ من القوى العاملة.

وبرغم امتيازات النقابات العمالية على صعيد النفوذ، والتنظيم، والموارد، وكذلك القدرة على الوصول للملايين من الطبقات العمالية، لايزال النضال المناهض للتمييز الجنسي والعنصرية نزالًا شرسًا، والمكاسب فيه تغالب الخسائر، فالمشهد ليس ورديًا في غالبية السياقات. ولكن نجد أن الحركة النقابية بشكلها التقليدي الذي يلبي احتياجات الطبقات العليا فقط من العمال، والذي كان حكرًا على الرجال البيض، بطريقه ليصبح من مخلَّفات الماضي.

ولو أمعنا النظر سنجد أن النقابات لا تمثل الحل الشافي والترياق العجيب، ولا تطرح أجندة اشتراكية؛ ولكنها تعمل بالشكل الذي يخدم متطلبات المرحلة. وتشكِّل بمنظوري ذريعة، ومصدر لا ينضب للدمقرطة، والتي تخلق بدورها سلطة إضافية؛ وضمانة كافية لمستوى معيشي لائق يركز بفضله الشعوب على جودة الحياة، بدلًا من الصراع للبقاء على قيد الحياة.

وحسبما أعتقد أننا ــ نحن مفكري أو مثقفي اليسار النسوي ــ ننتمي غالباً للطبقة الوسطى، وليس بمقدورنا أن نتزعم نيابةً عن الدولة النزال القائم لتحقيق الوعد بالعدالة الاجتماعية. وحدهم الذين نشأوا ضمن تلك النضالات والصراعات الداخلية، ــ نستدعي منها على سبيل المثال: حملة عمال النظافة [JfJ]، وحملة [العاملين بالتمريض المنزلي] والذي تشكِّل فيه النساء السوداوات غالبية الأيدي العاملة؛ وغيرها من الحملات المحلية الهامّة ــ باستطاعتهم الوصول لكيفية يحسموا من خلالها هذه الصراعات، ويحققوا العدالة.

ويعدّ انبثاق الحركات المناهضة للحروب، والرأسمالية ضمن بنية تنظيمية تحكم تلك الحركات، لم تكن حاضرة في المعمار الحركي ــ على أيامنا ــ من الأمور المبشِّرة والواعِدة بالنسبة لي. إلى جانب مستوى الوعي بذيول ومشاكل الطائفية، إضافة إلى قنوات التواصل المفتوحة، والأجندة المشتركة بين الجماعات داخل الولايات المتحدة، وخارجها. وكذلك تولي العديد من النساء مناصب قيادية. فالمرحلة بذلك مرحلة مبادرة وعمل، ولا مجال فيها للقدرية.