جمال المرأة، كحسرة للرجل - 2



محمد عبد القادر الفار
2018 / 6 / 19

جاء شتاء 2016 ساخناً على الصعيد الشخصي، ولم ينته قبل أن أُوفّقَ إلى أفضل قرارٍ اتّخذتُه طوال سنوات عمري الثلاثين، المليئة بالقرارات الخاطئة، فكان ارتباطي بزوجتي، التي لو كان من المتاح لي تصميم زوجتي من كل نواحي الشكل والمضمون، ما كنتُ لأصل إلى ربعها، وهي التي جعلتني أفهم عملياً لا نظريّاً، كيف يمكن للرجل أن يتقبّل مبدأ المونوجامي (الارتباط بشريك واحد والإخلاص له) برغم طمع الرجل الشديد في هذه الناحية، نتيجة لتركيبته البيولوجية والنفسية، وآثار تطوّره من البدائية إلى المعاصرة.

وقبل أيّامٍ فقط من ذلك القرار المصيري كنتُ قد نشرت مقالاً بعنوان "جمال المرأة كحسرة للرجل"، خضتُ فيه دون خوف في دوافع الرّجل وعلاقة إيجو الذكر بمكاسبه الجنسية. وما كنتُ لأخاف أصلاً أن أدخل هذه المساحات وأنا أكتب لموقع يرتاده بالغون، وأنشر على صفحتي الخاصة ومدونتي اللتين ليستا موجهتين للأطفال أيضاً. وبعد نشري للمقال استأذنتني سيدة/آنسة لا أعرفها أن تنشره على صفحتها فلم أمانع. ومن باب الفضول بالطبع دخلت إلى صفحتها –وكانت عامة ومفتوحة- لأجد وابلاً من تعليقات شديدة السمومية والبغض، جلّها من سيدات وآنسات مدّعيات للثقافة، وصل انحدار فهمهنّ إلى اتّهامي بأنني أروّج للاغتصاب في المقال. طبعا بهذا المنطق الرديء يكون فرويد قد روّج لجنس المحارم عبر خوضه في عقدة أوديب وعقدة إلكترا. ولمّا لم يتح لي أن أردّ على تلك الإساءات، التي وصلت إلى استنكار أن أكون ممن يعملون في التدريس والأكاديميا وأنا بهذه "الأخلاق"، فقد أسررتها في نفسي. بعثت لبعضهنّ برسائل ترفض الإساءة وتوضّح أنّ المقال ليس فيه شيء مما اتّهم به، لكنّ متوهّمي ومتوهّمات التفوّق الأخلاقي يتعالون ويتعالين عن الرد، ولربّما اعتبرت في وقتها متحرّشاً لإرسالي رسائل خاصّة. لكنني أسررت ذلك في نفسي على مستوى النشر في الموضوع، فلم أنشر أيّ ردٍّ على تلك الإساءات.

عاد المقال إلى ذاكرتي من جديد عبر مفارقةٍ فيسبوكيّة، وذلك عندما نشر أحد أصدقائي على صفحته مقالاً لأحد أصدقائه تعرّض فيه إلى ما وصفه بظاهرةٍ يبدو أنّه يراها مقتصرة على مجتمعاتنا، ظاهرة هي في جوهرها مشابهةٌ ل"حسرة الرجل على جمال المرأة الذي يفوته" ولكلّ ما كنت أرمي إليه في مقالي، ولكن دون أن يتطرق إلى الجنس، في حين أن الليبيدو الجنسي هو في نظري من الأسباب الرئيسية لتلك الظاهرة، التي لا تقتصر على مجتمعاتنا، بل هي متجذرة في نفس الرجل عموماً، أيّاً كان المجتمع الذي ينتمي إليه.

لا أعرف صديق صديقي، وفي الحقيقة ليس ممّن قد أسعى إلى معرفتهم، بالنظر إلى الوسط الثقافي الذي ينتمي إليه. ولكنّ هذا لا يمنع أنّني استفدت ممّا نشره. ولو كان هو صاحب المصطلح لكانّ لزاماً عليّ طبعا ذكرُ اسمه، ولكنّني ولحسن الحظ، وحتى لا أدخل في متاهات مع أولئك القوم سلباً أو إيجاباً، معفىً من ذلك، كونه أحال في مقاله –مشكوراً- إلى مفهوم موجود في علم النفس، وطبّقه على مستوىً سوسيولوجي. الفكرة التي خاض فيها صديق صديقي هي "الاستحقاق الذاتي" أو Self Entitlement وهو إيمانٌ تلقائي لدى الفرد بأنّ الأولويّة هي له دائماً، وأنّه الأحقّ بكلّ شيء، وقد وجدت عند إجراء بحث سريع أنّ ذلك يتشابه مع أعراض "اضطراب الشخصية النرجسية". وإن كانت تلك الأعراض تظهر بشكل مرضيّ في من يشخصّون بهذا الاضطراب، إلا أنّ وجهة نظري في ما يتعلّق بالجنس – كما هي وجهة نظر صديق صديقي في ما يتعلق بالمجتمع (مجتمعنا بالذات في نظره) أن هذه الأعراض تظهر أيضاً لدى السّليمين ومن لم يشخّصوا بالاضطراب. وأظنّ أنّ من يدرك شروط الحدّ الأدنى للتعامل في المجتمع ويتمكن من إخفاء أمراضه، سيمرّ دائماً دون تشخيص.

ما نبّهني إلى التشابه بين ما خاض فيه هو وبين فكرة حسرة الرجل على كل جمالٍ أنثويٍّ لا يحظى به، وكيف تتراكم هذه الحسرات تدريجياً لتنتج طباعاً ونزعاتٍ أخرى، هو مفارقة مستفزة. حيث أن إحدى السيدات اللواتي أسأن إليّ بشدّة في ذلك الوقت باديَ الرأي ودون تدبّر (وقد عاهدت نفسي منذ سنوات أن لا أنسى الإحسان ولا أنسى الإساءة) كانت ممّن صفّقن وأشدن بمقال صاحبنا عن الاستحقاق الذاتي، وبمجرّد رؤيتي لاسمها استدعت ذاكرتي كلّ المرارة التي أصبتُ بها حين قرأت الإساءات، وكيف أسررت تلك المرارة في صدري ولم أبدها لهم، ووجدت مدى التّشابه بين المقالين، فرأيتُ أن أعودَ وأوضّح ما خضتُ فيه، لئلا أترك ثغرةً لمن يريد توهّم التفوّق الأخلاقي، خاصة من معشر النسويات (والنسويين) ومجتمعات التمويل الأجنبي ومنظمات المجتمع المدني، ومحترفي ومحترفات المبادرات وهلمّ جرّا من شخصيّات ابتلينا بها تتسيّد المنابر وتتحدث مع من يعلونها ذوقاً وعلماً بفوقيّةٍ "غير مستحقّة" بالتأكيد، أو بلغة مموّليهم ومموّليهنّ To which they are certainly not entitled

حسرة الذكر على ما يفوته من إناث، هي حسرة كلّ حيوانٍ منويٍّ لم يتح له أن ينقل مادته الجينية، وهي أيضاً حسرة كلّ حيوانٍ منويٍّ نجح في تلقيح بويضة ما، ثمّ سأل نفسه "وماذا عن البويضات السابقة واللاحقة" ولمَ لم ألقّحها أنا أيضاً. وعلاقة الرجل بحيواناته المنوية تختلف كلياً عن علاقة المرأة ببوييضاتها. فالمرأة تنتج بيضة واحدة كل شهرٍ وتحتضنها بحنانٍ وحين تفقدها تبكيها بالدم. أما الذكر فيقذف في المرة الواحدة ملايين الحيوانات المنوية ولا يرتبط بها أبداً، ومن هنا منشأ صعوبة مبدأ المونوجامي على الرجل مقارنة بالمرأة، عادةً.

الإيجو خشنٌ بطبيعته، ولهذا فمشاكله تظهر بصورة أوضح لدى الرّجال، وأنا لا أنكر على الرّجل هواجسه بخصوص الأنثى. ولا ألومه حين يجد في حلم الحور العين أملاً كبيراً في سدّ تلك الفجوة التي لا يسترها (حين يختلي بنفسه) كلّ ما اكتسبه من ذوق وحبٍّ واحترامٍ للأنثى. واللوم لا يكون على الطبيعة، بل على الطريقة التي تختار فيها أن تتكيّف مع بدائيّتك. فمن يترهبن مدّعٍ، ومن يسرف همجي، ومن يتوازن قدر الاستطاعه له وعليه من أولي الألباب تحيّةٌ وسلام.

نعم لا يكفي ألفُ عمرٍّ للعب كلّ الأدوار، والفوز بكلّ شيء. فهناك آخرون، وهم في حالة الإيجو الضعيف جحيم (كونه يخافهم) وفي حالة الإيجو القوي أيضاً جحيم (كونه يريد الاستئثار بكل شيء).

ومن أحد فحول هذا العصر وأحد آخر رجاله المحترمين، الذين تركهم الرحمن خاملي الذكر رحمةً بهم وبغيرهم، كلمتان نظيفتان: المونوجامي ممكن إن أحسنتَ الاختيار، وغالبتَ طمع نفسك، وهذّبت الإيجو، ونجحت في التعامل مع بدائيّتك. وبكلّ سذاجةٍ رومانسية محمودة في هذه الحالة أقتبس من نزار (وأرجو أن تقرأها أخي القارئ بلحن الموجيّ وصوت العندليب): قد تغدو امرأةٌ يا ولدي يهواها القلبُ هي الدّنيا.