أم إبراهيم والوزيرة غادة والى



نوال السعداوي
2018 / 8 / 29


جاءت تدق بابى وتقول أنا أم إبراهيم, فاكرانى يا، «ضكطورة»، أخدتها بالحضن أتشمم فى جلبابها عطر البرتقال فوق الشجر، ورائحة «خبيز» جدتى التى ماتت منذ سبعين عاما، منذ دقت بابى فى قرية كفر طحلة منذ اثنين وستين، لا أنساها، كانت شابة تتألق بالحيوية والمرح، عيناها تتأججان بالبريق، أصبحت عجوزا انطفأت عيناها من طول البكاء، ابنها الوحيد إبراهيم، ذهب الى صحراء سيناء فى حرب 1956، ولم يعد أبدا، أصبح ضمن المفقودين، لم يحمل لقب الشهيد، لم يحصل على مكافأة، تركت أمه أرضها ودارها لزوجها وسافرت إلى القاهرة، داخت فى سراديب الحكومة، تبحث عن ابنها، حى أو ميت دون جدوي؟

كنت طبيبة ناشئة بالقرية، طفلتى عمرها ستة أشهر، تولت أم إبراهيم رعايتها كأنما ابنها الغائب، ماتت أمى بعد أربعة أشهر فقط ، فأصبحت أم إبراهيم ترعانى وابنتى معا، لولا عنايتها، ربما هزمتنى هذه الفترة الصعبة من حياتي.

كانت مصر تمر بفترة أكثر صعوبة، الاعتداء الثلاثى فى نوفمبر 1956، ثلاثة جيوش بريطانية فرنسية إسرائيلية تضرب بورسعيد بطائراتها ودباباتها، تحولت المدينة إلى قطعة من النار، الأصوات تدوى فى الراديو: سنقاتل حتى النصر، القنابل والصواريخ تضرب من السماء، سفن الأساطيل تضرب من البحر، الدبابات تضرب من الأرض، القناصة هبطوا من الطائرات الهليكوبتر على أسطح البيوت. يطلقون النيران على الناس فى النوافذ والمارة فى الشوارع، دافعت النساء والاطفال عن حياتهم من حارة الى حارة، ومن بيت الى بيت، بالحجارة والشوم والسكاكين، تكونت فرق من الفدائيين، فتيان وفتيات وأطفال من أهل بورسعيد، أمسك الانجليز غلاما صغيرا كان يقاتل، ضربوه وعذبوه ليعترف على زملائه الفدائيين، لم ينطق بكلمة واحدة, قلعوا عينيه ثم قتلوه دون أن يفتح فمه، زميله الفدائى كان فى حى المناخ قتلوه أمام أمه، دون أن يفتح فمه، ضربوا أمه وعذبوها لتدلى بشيء عن الفدائيين، ماتت دون أن تنطق.

أم إبراهيم تنشج: قلبها اتحرق على ابنها يا، ضكطورة ، لكن الموت أهون، لو عرفت إن ابنى ميت يمكن قلبى يبرد شوية، خايفة يكونوا بيعذبوه فى السجن جوه إسرائيل.

قلوب الأمهات المكلومات فى الحروب التى شهدتها مصر، الأمهات المكلومات أيام السلم دون حرب، بقوانين تغتصب حقوقهن، أم إبراهيم واحدة من هؤلاء المكلومات، خدمت وطنها وزوجها بحياتها ونور عينيها، لم يكافئها الوطن والزوج إلا بالغدر والطعن فى الظهر، تطوعت فى الجيش الشعبي، سافرت الى بورسعيد لتقاتل، فقدت عينها اليمنى بطلقة القناصة، لم تحصل على مكافأة إلا الحبس فى التخشيبة، يحقق معها البوليس يومين، ليه سافرت بورسعيد يا أم إبراهيم؟.

خدمت أم إبراهيم زوجها خمسين عاما، ثم اكتشفت بعد موته أنه طلقها غيابيا دون علمها، وتزوج وهو فى التسعين طفلة فى التاسعة عشرة، ورثت معاشه من الحكومة، والفدان الذى كانت تملكه، كان قد كتبه باسمه فى غيابها كوكيل عنها، كان موظفا فى أسفل السلم الوظيفى لكنه كان يعرف القراءة والكتابة وبنود القانون، وهى تبصم فقط.

كنت عاوزة أتعلم يا (ضكطورة) وأعرف حقوقي، لكن أبويا جوزنى غصب عنى بتلاتة جنيه ونص، مهر العروسة على أيامنا. لم تعرف أم إبراهيم أن قانون التأمينات الاجتماعية كان يمنح المرأة مثلها، المطلقة غيابيا دون إرادتها الحق فى معاش زوجها المتوفى إن دام زواجهما أكثر من عشرين عاما، وكان يحرم المرأة الأخرى التى تزوجها الرجل بعد سن الستين، إلا أن القانون 117 لسنة 2015 حرمها من المعاش وإن دام زواجها خمسين عاما، وأعطى المعاش للعروس الجديدة الصغيرة، وإن تزوجت الرجل العجوز لمجرد أن ترثه قبل أن يموت؟.

والسؤال إلى د. غادة والى وزيرة التضامن، ماهى القوى السياسية التى غيرت القانون، لتزيد الظلم الواقع على النساء المقهورات بالطلاق الشفهى والغيابي، وتكافئ الرجل المسن، غير المتزن، الذى يطلق ويتزوج بإرادته المنفردة، فى نهاية عمره، ويشترى بالمهر طفلة أصغر من حفيدته؟. وفى الوقت الذى تحتفل فيه الحركة النسائية التونسية بالمساواة الكاملة بين النساء والرجال، تسلب من المرأة المصرية كرامتها وحقوقها الأساسية، وتغط الحركة النسائية المصرية فى النوم العميق.