قضية امرأة خلف القضبان



سامي قرة
2018 / 9 / 14

يكشف لنا الكاتب الفرنسي فكتور هوجو في كتابه الشهير البؤساء أن الظروف الاجتماعية التي يعيشها الفرد قد تؤدي به إلى ارتكاب الجريمة، فنرى الشخصية الرئيسية جون فالجان يرتكب جنحة ويسرق رغيف خبز كي يُطعم والدته وأخوته الصغار، وعلى الرغم من ضآلة حجم الفعل الذي يقترفه جون فالجان إلا أن المحكمة تحكم بسجنه مدة خمسة أعوام، يحاول خلالها جون فالجان الهرب؛ فتصبح مدة محكوميته 19 عاما، وكل ذلك بسبب سرقة رغيف خبز. أمّا الكاتب الروسي دوستويفسكي في روايته الشهيرة الجريمة والعقاب فيُبيّن لنا أن ارتكاب الجريمة هو عمل طوعي وسلوك عقلاني غالبا ما يتمخض عنه ألم واكتئاب وشعور بالذنب، وصراع أخلاقي في ذهن مُرتكب الجريمة.
يمّر الإنسان أثناء حياته بتجارب شتى منها ما يُعزّز روح الخير فيه، ومنها ما تدفعه رغما عنه إلى اقتراف أعمال متهورة قد يدفع ثمنها غاليا، ولكن من وجهة نظره يعتقد أنه يحقق العدالة ويثور على الظلم. وهذه هي حالة فدوى القابعة في أحد السجون المدنية الفلسطينية، والتي تسمّى تلطيفيا مراكز الإصلاح والتأهيل.
تعرّفت على فدوى أثناء زيارتي إلى أحد السجون الفلسطينية برفقة فريق من خبراء السجون الأوروبيين الذين يعملون على دعم مراكز الإصلاح والتأهيل في فلسطين، ويتخذ هذا الدعم أشكالا مختلفة منها على سبيل المثال ترميم السجون وتأثيثها وبناء سجون جديدة. وكنت كلمّا أزور سجنا أتوق إلى الحديث مع النزلاء، فأطلب إذنا من مدير السجن كي يسمح لي بالتحدث مع بعض النزلاء، وبعد التأكد من براءة مبتغاي يعطيني مدير السجن الإذن بالحديث. ولم أطمح في مقابلة النزلاء الذكور بل اهتممت أكثر بمقابلة النساء من النزلاء؛ لمعرفة الأسباب التي تدفعهن إلى مخالفة القانون وارتكاب الجريمة لا سيما وأن نسبة النساء اللواتي يرتكبن الجريمة في ارتفاع مستمر، وهذا ما يخالف القاعدة عندما يتعلق الأمر بأدوار الجنسين.
كانت النزيلات صغيرات السن، وكانت أكبرهن لا تتعدى الثلاثين عاما. وعندما سألتهن عن سبب محكوميتهن، فأجبن الكثير منهن أنهن قتلن أزواجهن أو حاولن قتلهم، وأن المحكمة حكمت عليهن بالسجن لسنوات طويلة. كانت إجابتهن بمثابة صدمة بالنسبة لي، إذ تساءلت في قرارة نفسي عن الدافع الذي قد يؤدي بزوجة في ريعان شبابها إلى قتل زوجها. وهل بالفعل يمكن لمثل هذه الجرائم أن تحدث في مجتمعنا الفلسطيني المحافظ؟
عندما أحضر حارس السجن فدوى إلى غرفة مدير السجن، حيث أجريت معها المقابلة ظننت للوهلة الأولى أنني أنظر إلى تمثال دبّت فيه الحياة فجأة. كانت تجّر نفسها جرّ،ا تكاد ساقاها لا تحملانها، وتنظر يمنة ويسرة كأنها تكتشف عالما جديدا لم تعتد عليه. لم تشعر فدوى بالحرج من وجودي واستقبالها لي، بل تحدّثت بثقة كبيرة وبكل صدق. كان صوتها ناعما رقيقا مما ولّد في داخلي شعورا بالعطف نحوها. أحسست في صوتها حلاوة شيطانية زادني فضولا وشوقًا للاستماع إلى قصتها.
فدوى فتاة ممتلئة تبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، طويلة القامة نسبيا مقارنة مع غيرها من الفتيات، داكنة البشرة تميل إلى السمرة، رقيقة وتشّع ملامح وجهها ببراءة صادقة. عيناها العسليتان تلمعان كأنهما مرآتان تعكسان شعورا بالرضى والطمأنينة.
أمضت فدوى طفولتها في قرية نائية في محافظة نابلس وتزوجت مرّتين. عندما بلغت من العمر ثمانية عشر عاما تقدّم لخطبتها شاب كان عمره آنذاك عشرين عاما، ووافقت على الفور نكاية بوالدها الذي كان يعتزم تزويجها من ابن أخيه الذي أحبهّا رغما عنها. وكان ابن عمّها قد صرّح لها بحبه وطلب منها أن تتزوجه، لكن فدوى كانت تكره كرها شديدا زواج الأقارب، فرفضت ذلك الحب وواجهت والدها وتحدّته، وقبلت أن تتزوج الشاب، وهي تعرف تماما أن علاقتها معه لا تستند إلى الحب، وإنما جاءت كردّة فعل على ظلم أبيها وطغيانه عليها. قضت فدوى عاما كاملا مع زوجها وخلال هذه الفترة كانت تشعر وكأنه غريب عنها لا يربطهما رابط سوى الرغبة الجسدية والشهوة، فقررت من تلقاء نفسها أن تتطلق منه دون احتساب النتائج التي قد يسببه طلاقها على حياتها وعلى علاقتها مع أسرتها ومع المجتمع الذي تنتمي له. وبالفعل تمّ الطلاق وتعقدت علاقة فدوى مع أهلها خاصة أباها الذي توهّم أن طلاق ابنته كان عقابا لها على عصيانها لإرادته. غير أن الحظ ابتسم لفدوى مرّة أخرى إذ بعد مرور عدة أشهر من طلاقها تقدّم لزواجها شاب اسمه أمجد ويبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، شاب وسيم يعمل ميكانيكيا ميسور الحال يؤهله دخله من فتح بيت وإنشاء عائلة. وقد تحمسّت فدوى لبدء حياة جديدة مع أمجد ولدفن مآسيها مع زوجها السابق في قبر النسيان. لم تتردد فدوى بقبول أمجد زوجا لها، لكنها سوف تكتشف قريبا أن قرارها هذا سيدّمر حياتها ويضع نهاية لآمالها وأحلامها.
ألقت الشرطة القبض على فدوى في شباط 2014 متهمة إياها بقتل زوجها مع سبق الإصرار والترصد. أمضت فدوى ثلاثة أعوام ونصف في السجن، وخلال تلك الفترة لم تذهب إلى المحكمة ولو حتى لمرّة واحدة. كانت موقوفة بانتظار المحاكمة. لم تكن متأكدة من المدة التي ستقضيها في السجن بينما قضيّتها عالقة لدى النيابة. وبعد نفاذ صبرها وبناء على مشورة محاميتها لجأت فدوى إلى مؤسسات حقوق الإنسان التي تمكنت من مساعدتها والبدء بإجراءات محاكمتها. ومع ذلك حتى هذه اللحظة لم تبت المحكمة بقضية فدوى، وهي حائرة مستاءة تعيش في حالة من الغموض والحيرة والريبة والخوف من مستقبل مجهول.
قالت فدوى بحسرة وسخط: "حتى الآن أنا موقوفة ولم تتخذ المحكمة بعد قرارا نهائيا بشأني كما أن المحكمة ترفض إطلاق سراحي بالكفالة. فالتأجيل في الحكم يؤثر علينا سلبا خاصة نحن النزيلات اللواتي لهن أطفال. لدي أربعة أطفال، ثلاث بنات وولد وهم الآن في الملجأ لأن أهلي يرفضون استقبالهم بسبب الظروف التي مررت بها والأوضاع التي أعيشها. أطفالي بحاجة لي كما أنني بحاجة لهم".
لم تقتل فدوى زوجها لكنها شريكة في الجريمة. أمّا القاتل الحقيقي فيبدو أنه ابن عمها الذي أحبّها وسعى إلى الزواج منها قبل عدة سنوات. كان ما يزال يضمر لها مشاعر الحب، وعندما حدثته عن علاقتها مع زوجها أمجد، وفي لحظة جنون ودون إيلاء أية اعتبار للعواقب اتخذ ابن عمّها خطوة حمقاء وقام بقتل زوج فدوى، وهو يقبع حتى الآن داخل السجن. وعلى الرغم من أن فدوى لم تتوقع مثل هذا الفعل الشنيع من ابن عمّها إلا أنها أحسّت في صميم ذاتها باغتباط كبير؛ لأنه أنقذها من حياة ذليلة ومهينة، ومن اضطهاد زوج كان يسيء معاملتها ويسبب لها الأذى الجسدي والنفسي. بكت فدوى بحُرقة، وبصوت كئيب عال بعض الشيء، قالت بأنها بريئة وأن الحقيقة ستظهر يوما ما، وأضافت: "على المحكمة أن تُسرّع إجراءات المحاكمة كي أثبت براءتي. أنا ضحية زوج حقير نذل. أنا ضحية مجتمع لا يعرف الرحمة ولا يحترم المرأة".
شعرت بالحيرة والارتباك، وكنت أرغب في تعزيتها ومواساتها. لمست يدها دون أن أدري، وتمنيت لو أنها تجد السلام الداخلي وراحة البال التي حُرمت منها طوال السنين التي قضتها في السجن.
فدوى مقتنعة تمامًا أنها ضحية مجتمع قاس لا مبال، وأنها ضحية أسرة لم تعرها اهتماما ولم تُظهر لها حبا. قالت لي أن والدها متلهف للتخلص منها كونها مجرد فتاة تقع مسؤوليتها على عاتق زوجها. ومنذ إلقاء القبض عليها أصبحت فدوى وصمة عار لعائلتها، وفي أكثر من مناسبة تلقت تهديدات بالقتل من طرف اقاربها. وهنا قاطعتها وقلت لها: "إذن يوفر لك السجن مكانا آمنا يحميك من القتل". ابتسمت مستهجنة سذاجتي وأجابتني: "هذا ممكن، لكنني لا أريد أن أقضي بقية حياتي في السجن هاربة من أسرتي".
سكتت فدوى فجأة عن الكلام وعمّ الهدوء داخل مكتب مدير السجن. ومثل شهريار الذي كان ينتظر بشدة إلى ماذا ستؤول نهاية حكايات شهرزاد، كنت أنتظر بشدة الاستماع إلى بقية قصة فدوى. نظرت إلى فدوى استجدي منها أن تستمر في سرد حكايتها على الرغم من واقعها الأليم والأثر السوداوي الحزين الذي تولدّ فيّ، والذي لازمني مدة طويلة بعد مغادرتي السجن ولقائي مع فدوى. تنهدّت ثم روت لي عن علاقتها مع زوجها أمجد وكيف كان يعاملها.
تحدّثت فدوى بصوت خافت يقرب إلى الهمس، وكأنها تريد أن تطمر ذكريات مؤلمة لا تبغي استذكارها. قالت: "كان زوجي يضربني، وكان يمارس معي الجنس عنوة، وفي بعض الأحيان كان يجلب أصدقاءه كي يمارسوا معي الجنس، وكان كلما حاولت الإفلات يضربني ضربا مبرحا على مرأى ومسمع أصدقائه وهم يتلذذون ويتمتعون بآهاتي وبكائي". أضافت فدوى أن زوجها كان يتلذذ بالإساءة له، ويشعر بنشوة الرجولة. أردفت فدوى في حديثها قائلة: "أعتقد أنه كان يعاني من عقدة النقص. لم يكن إنسانا طبيعيا أبدا". اكتشفت فدوى متأخرا أنها تزوجت من رجل مخبول أدهشها بسلوكه وتصرفاته الشاذة. فقد سمعت عشرات القصص عن نساء ذقن الأمرّين مع أزواجهن، لكنها لم تتصور أبدا أنها يوما ما ستكون ضحية رجل منحرف سادّي.
في المجتمعات التقليدية المحافظة تعتبر الزوجة دائما هي المسؤولة عمّا يجري بينها وبين زوجها،ولذلك لم تتجرأ فدوى على البوح لعائلتها أنها تعاني كثيرا من زوجها. تذمرت فدوى قائلة: "المرأة مصدر عار لأهلها وفي كثير من الأحيان يحاول الأقرباء قتلها". اعتقدت عائلة فدوى أن ابنتهم لا بد أن تكون مذنبة، لأنه تمّ إلقاء القبض عليها وتوقيفها، وهي تستحق العقاب، ولذلك لم يبق أمام فدوى إلا أن تواجه مصيرها وتستسلم له.
لم تكن علاقة فدوى مع أهل زوجها جيدة أيضا، ولذلك قررت أن لا تتواصل معهم. كانت عائلة زوجها متزعزعة ومضطربة يبتليها الكثير من المشاكل، وربما كان لها أثر سلبي على شخصية أمجد. كان أمجد يجد متعة كبيرة في تعنيفها وكان يبتهج حين يرى جسدها يتلوى من الألم مثل الأفعى التي تصارع الموت وهي تصرخ طالبة الرحمة. وعقب تفريغ غضبه على زوجته، كان أمجد يهدأ وكأنه تعاطى مخدرا، ويشّد زوجته إلى جانبه وينام معها فيما يهمس في أذنيها أن تسامحه، ويعدها أن لا يكرّر فعلته مرة أخرى. لكنها كانت تتمنى أن يزيح جسده الثقيل عنها. كانت فدوى تتطلع إلى الحرية والاستقلال.
تحمّلت فدوى الصعاب من أجل أطفالها الأربعة، ثلاث بنات عمر الكبرى منها ثلاثة عشر عاما وولد في عمر السادسة يعيشون جميعهم في ملجأ للأطفال. لم ترغب في تقديم شكوى إلى الشرطة كي تتجنب فضيحة اجتماعية. كان اهتمامها ينصّب فقط على توفير الحماية لأطفالها، وفي نفس الوقت كانت تتشوق إلى الخروج من السجن، لكن تخرج إلى أين؟
كان يبدو على فدوى أنها تقضي أوقاتا سعيدة في السجن، وقالت أنها كانت تعيش مع أخواتها النزيلات في زنزانة واحدة، وأن "معاملة النزلاء كانت جيدة، لكن الروتين اليومي قاتل". تؤمن فدوى بضرورة توفر البرامج التأهيلية للنزيلات كي يستفدن من أوقاتهن، ويتدربن على مهنة معينة، وتعتقد فدوى أيضا أن مثل هذا التأهيل سيساعد النزيلات على الاندماج في المجتمع عند إطلاق سراحهن. لا تفكر فدوى بالعودة إلى أسرتها بعد إطلاق سراحها؛ فبدلا من ذلك تفكر فدوي بكل جدّية بالهجرة إلى بلد آخر مع أطفالها حيث ستتمكن من بداية حياة جديدة. فقد كبر في قلبها كره شديد لعادات وتقاليد مجتمعها؛ لأنها "ضد المرأة". قالت فدوى بمرارة: "النساء في مجتمعنا دائما مذنبات سواء كنّ متزوجات أو مطلقات أو ارامل أو حتى نزيلات في السجن. تزوجت أول مرّة وعانيت نتيجة الطلاق، وتزوجت مرّة ثانية وأساء زوجي لي".
لو رجعت فدوى إلى الوراء إلى سن المراهقة لاتخذت خطوات جريئة في حياتها. كانت لتهجر عائلتها وتعيش مستقلة وتجد لنفسها مهنة أو وظيفة تعتاش منها. وأهم من ذلك، كانت فدوى ستعيش دون زوج أو زواج؛ لأن الزواج في مجتمعنا لا يقوم على الحب الصادق، بل على حماية المرأة من الرذيلة والفحشاء.
انقضت ساعة كاملة منذ أن بدأت فدوى بسرد قصتها. تأثرت كثيرا بروايتها وتمنيت لها أن تتمكن من بداية حياة جديدة. شكرتها وقالت لي أن الحقيقة ستظهر آجلا أم عاجلا. ما تزال فدوى حتى الآن تنتظر حكما بشأن قضيتها.