المرأة إنسان راشد؛ و الرجل كذلك



سلامة محمد لمين عبد الله
2018 / 9 / 26

المرأةُ إنسانٌ راشدٌ؛ و الرَّجلُ كذلكَ!

كنتُ أجلسُ بجانب سائق التاكسي عند محطة الولاية، ننتظر بقية الرّكاب. لم يمض سوى وقت قصير حتى أتت احدى الشابات و سألت السّائق عمّا إذا كان يستطيع أن يطلبَ منِّي أن أترك المقعد الأمامي لها ؛ أقول: أترُكُ لها المقعد، بأمر أو بطلب من السائق؛ و لا أقول: السّماحَ لها بالجلوس فيه، لأنها لم تطلب منِّي ذلك مباشرة. فتركُ الشيءِ بإرادةٍ أو بدونها، يختلف عن التخلي عنه عن رغبة و طيب خاطر. الحقيقة، هي أنّ سؤالها كان هكذا: إذا كنتَ تستطيع أن تقول "الْذَاكْ" أو "الرَّاجَلْ" أن يركب "الْلَوْرَ"، أي في المقاعد الخلفية. السّائق بدوره نقل إليّ رغبتها بدون تكلّف. ألتفتُ نحوها معبرا عن احتجاجي، وعتبي. قلتُ لها أنها تستطيع بالفعل الركوب في مكاني؛ لكن كان يجب عليها في البداية، أن تطلب ذلك منّي شخصيا، لأنني أجّرتُ المقعد بحكم إتفاقية النقل المبرمة بيني و بين صاحب السّيارة. ثم أنه ليس أخلاقيا أن تتحدث هيّ إلى شخص غيري، أو يتحدثُ أشخاصٌ آخرون، في أمر أنا معنيٌّ به، و في حضوري، دون إشراكي في ذلك الأمر. فأنا مبدئيا لا تعنيني الأمورالتي يتحدث فيها الآخرون، و لا تترتب عليّ أيّة مسؤولية مما يتفقون عليه أو يدور بينهم. و عندما يكون موضوع حديثِهم هو "أنا"، فإن ذلك هو سببٌ كافٍ لكي أتجاهَلَهم و أقطعَ كلَّ الصِّلات التي تربطني بهم. فلم يعودوا بالنسبة لِي مؤهلين لتقديم الدروس و اسداء النصائح؛ كما أنه ليس من حقهم التذرع بالعادات و التقاليد و الأعراف، و لا التحدث عمّا هو لائقٌ و نبيلٌ.

ثم أنَّ سببَ سؤالها لسائق التاكسي بدلا منّي، أمرٌ ينم عن ثقة و إطمئنان لا مبرر لهما. فلا يبدو أنهما يعرفان بعضهما من قبل. إذ لا يوجد سببٌ ظاهر يجعلها تفعل ذلك سوى أنه هو صاحب سيارة الأجرة. كانت شابة متعلمة و محافظة، مرت بأدب و إحتشام من خلف السيارة و تقدمت بحذر نحو جهة السائق الذي يجلس أمام المقود و يضع لثاماً يغطي أغلب وجهه ليحميه من شمس الأيام الأخيرة من شهر ماي و غبار المحطة، في إنتظار دوره في طابور السيارات. السيّارة عتيقة و رائحة البنزين و الزيوت تذكرك برائحة ورشات اصلاح السيارات، مثلما تذكرك رائحة ألأدوية والمنظفات بإجواء المستشفيات.
صعدَتْ بهدوء اِلى الجزء الخلفي من السيارة؛ و بعد لحظات من الصمت، انضم إلينا أحد المقاتلين الذي قدم حديثا من منطقة التفاريتي المحررة و يريد التوجه بأسرع وقت ممكن إلى مخيم الشهيد الحافظ بوجمعة و أخبر السائق أنه سيتولى دفع ثمن المقعد الرابع.

في الطريق، اعتذرتُ للشابة و للركاب عن غضبي، و قلت لها أن الموضوع برمته هو نوع من "كَثْرَتْ لَخْبار" و أن ما يهمني هو جانبه الإجتماعي والثقافي، و بدأت أعدد الأسباب التي دفعتني إلى الإحتجاج و العتاب. قلت أنه لا يوجد قانون يلزم المسافرين الذكور بترك مقعد في سيارة الأجرة للمرأة، و أنه لو كانت معنا مرأة أخرى، لأضطرت احداهما أو كليهما، الى الجلوس في المقعد الخلفي إلى جانب الرجال. و مع ذلك فأنا أتنازل عن مكاني بإستمرار لأي إمرأة تطلبُ مِنّي ذلك، أو يمليه الموقف. كما أن الأمر ينطبق على الرجال و الأطفال و كبار السن و المرضى، من الذكور و الإناث على حد سواء. و أن الموضوع بسيطٌ لا يتطلب التعقيدات التي لا لزوم لها. فالنساء تعلمن وضع حقيبة اليد و غيرها من الأغراض الأخرى، كفاصل بينهن و الرجل المجاور. ثم أن المرأة يجب أن تشكرني على ذلك لأن الفضل يعود لِي "أنا" و ليس للسائق أو شخص آخر. إنَّ ما يزعجني أكثر من غيره، هو ما نشاهده هذه الأيام عند سيارات الأجرة من رأفة زائدة و اهتمام شكلي في معاملة النساء المسافرات. فما تكاد إحداهن تقترب من السيارة، حتى يسارع بعض الرّكاب الذكور الغير معنيين إلى طلب منك ترك مقعدك لها. و إذا كنت تجلس في الخلف، يطلبون منك الذهاب للمقعد الأمامي عندما يتعلق الأمر بمرأتين أو أكثر. أعرف أن الكثير من الرجال يفعلون ذلك عن حسن نية، لأسباب دينية، لتفادي الإزدحام و الإحراج لكليهما؛ و هذا أمر مقبول. لكنه اصبح يتكرر بشكل لافت و عنيف و مُبتذَل، لا يترك مجالا للتفكير و التعبير للمعنيَّيْن؛ المرأة و صاحب المقعد. فالرجل يتم تجاوزه بكل ما تعنيه الكلمة من معني. حيث يُعاملُ معاملة شخص بدون شعور أو أخلاق، فاقد للضمير و جاهل لقواعد الدين والتعامل الإجتماعي؛ غير قادرعلى التمييز و الحكم و التقدير. أما المرأة، فتُفرَضُ عليها الوصاية، و يتم معاملتها كمخلوق غريب، كإنسان قاصر لا يعرف كيف يتصرف؛ فإينما ظهرت في مكان يوجد فيه الرّجال، تكون سببا في الإضطراب. كأنها زائر أجنبي، أو كارثة طبيعية، أو حالة عابرة، يجب أن ينشغلَ بها الجميعُ حتّى تزولَ. كيف تستطيع المرأةُ حلَّ مشاكلها مع التاجر و الطبيب والموظف الحكومي، و مع زملائها في المدرسة و الجامعة؛ بينما يضطربُ سلوكُها الإجتماعي و تخفقُ في تعاملها مع مسافرين في سيارة الأجرة؟ يجب علينا جميعا، رجالا و نساء، التريثُ و التّحلّي بالصبر، و أنْ نُتيحَ الفرصة للقيّم و المُثُل العليا، لتبرُزَ و تنمو و تُزهِر. يوجد أفرادٌ بيننا لا يتصرفون حسب ما نتمناه منهم. هؤلاء أيضا، يجب أن نحترمهم و نقبل بوجودهم، فقد يأتي وقتٌ يراجعون فيه أنفسَهم و يندمون على تصرفاتهم، و بذلك يستخلصون الدروس التي تفيدهم في حالات مماثلة في المستقبل.
التريثُ والصبر في المواقف الحسّاسة، خاصة عندما لا تكون حياة الإنسان مهددةً، و مالُه ليس مَعرّضا للسّلب، و عِرضُه مَصونٌ؛ هو الفرصة التي نمنحها، و الضريبة التي ندفعها، و التسامح الذي نبديه، من أجل بلوغ هذه المرامي و الأهداف.
فالمرأة إنسانٌ راشدٌ، ومسؤولة عن أفعالها بشكل كامل؛ و الرجل كذلك!
من الأشياء المألوفة في ثقافتنا، هو أن تطلبَ النساءُ من الرجال الغرباء مساعدتهن في تنفيذ أمر معين. كبناء الخيمة، و حمل الأشياء الثقيلة، و تقديم الطعام والشراب للضيوف في المناسبات الإجتماعية. الثقافة والعرف الإجتماعي يبيحان للمرأة، كذلك، توجيه الكلام لمجموعة من الرجال أو لرجل بذاته. كما تستطيع المرأة أن تقول:"يَنْتَ" فقط، أي: يا أنتَ، بغض النظر عن معرفة إسم الرجل من عدمها؛ و تقول: يا صاحب القميص الأزرق أو "بودرّاعة"، أي: الرجل الذي يرتدي دراعة، أو صاحب النظّارات، لتمييزه و تخصيصه عن بقية الرجال في المجموعة. و تستطيع تكرار ذلك و الإلحاح فيه، و التَّوسُّل و التّدلُّل؛ و استعمال كل الأساليب التي تثير الشفقة و العطف لدى الرجل، من أجل الوصول لما تريد. و توجد نساءٌ جريئات كثيرات، لا يتردَّدنَ في مسك الرجل من ملابسه، و جره جرا. كل هذا جائزٌ و لا يُنْقِصُ من قدر المرأة و لا يمسُّ من شخصيتها و مكانتها في عيُون الرِّجال. ما دامت تستطيع توظيف ذكائها في صياغته في قالب من الفكاهة و المرح والرِّقَّة واللباقة. كما يمكنها توجيه اللوم لرجل غريب عندما تشعر أنه في نظرها مُقصِّرٌ في واجبه الإجتماعي أو الأخلاقي. و بالمقابل، يحق للرجل أن يحمي نفسه من سطوة فئة من النساء المغرورات اللاتي اعتدن على التسلط و الغطرسة و امتهان كرامة و كبرياء الرجال، و أن لا يرضخ لسلوكهن المزاجي المُذِل.
أثناء النقاش مع شابات متعلمات، كثيرا ما أدعوهن إلى بذل جهود أكثر من أجل بناء شخصية قوية، مسؤولة و مستقلة. لأني ألاحظ أن شيئا ما ينقصهن. إنه يكفي إدراك درجة ثبات الشخصية و الثقة في النفس و التفتح الإجتماعي، التي يتميز بها جيل الأمهات، رغم أنهن تعرضن للمعاناة و عشن في ظروف أكثر صعوبة؛ فأغلبهن لم ينل حظا و فيرا من التعليم و التكوين مثلما يتوفر لنساء اليوم.
المبالغة في خدمة المرأة التي ليست في محلها، بحجج مختلفة، التي أدت إلى إرتباك سلوك النساء، هي تصرفٌ غريبٌ على الثقافة و المجتمع يزيدُ حياتنا الإجتماعية تعقيدا إضافيا. لذلك يجب علينا الوعيُ به و إبرازُه.

قرأتُ حديثا أنّ مساعدةَ الفراشَة بدافع العطف و الشفقة على الخروج من شَرْنَقَتِها قبل أن تتمكن بنفسها من فعل ذلك، يسلب جناحيْها القوة اللازمة التي تحتاجها فيما بعد للتحليق و الحياة بشكل عادي.