العاطلون والعاطلات عن العمل المنتج



نوال السعداوي
2018 / 9 / 26


أصبحت طالبة بالجامعة فى بداية الخمسينيات، قبل سقوط الملكية بعامين، وكانت المظاهرات الطلابية تدوس صورة الملك، والسنة الإعدادية لنا بالمبنى الرئيسى للجامعة بالجيزة. حيث برج الساعة بدقاتها المهيبة، قبل أن ينقلونا الى مبنى كلية الطب البائس فى شارع قصر العيني، حيث قاعة المشرحة بالجثث المحنطة. كانت الطالبات قليلات العدد، فى بحر من الطلبة الذكور، الذين لم يروا الجنس الآخر إلا فى الحلم، وأصبحت الواحدة منا تتلقى عشرات الرسائل الغرامية فى اليوم الواحد.

وانعكست الانقسامات الحزبية فى مصر على الطلبة، فانتمى بعضهم إلى الإخوان المسلمين، والبعض الآخر أصبح من الشيوعيين، أو اتباع حزب الوفد أو الأحرار الدستوريين أو غيرهم، كان زعيم الإخوان المسلمين يدس لى رسالته فى كتاب التشريح كاننجهام، تفوح رائحة الفورمالين من كلماته المشبعة بالآيات المحفوظة، أما رسالة زعيم الشيوعيين فكانت ركيكة الأسلوب، تختلط فيها الكلمات العربية بالأجنبية، ويحشو الزعيم الوفدى رسالته بالهتافات للنحاس باشا، وقد اتهمنى هذا الزميل، حين أعرضت عنه، أننى أفتقد الوطنية، واتهمنى زعيم الإخوان أننى أفتقد الإيمان بالله، أو من أتباع الشيطان، وأشاع زعيم الطلبة الشيوعيين أننى أفتقد الأنوثة وأكره الرجال، أما زعيم الجمعية النفسية، فقد أعلن أن خلط السياسة بالدين أو بالجنس، يندرج تحت الهرطقة، وأنه الوحيد الذى يفهم سيكلوجية المرأة، كان يستخدم كلمة سيكلوجية بدلا من نفسية، لإثبات معرفته باللغات الأجنبية وإبحاره فى العلم، مما يؤكد جهله بهما، لأن أعظم العلماء يعترف بأنه لا يعلم، وقد أعلن سيجموند فرويد، فى نهاية عمره ، جهله التام بسيكلوجية المرأة.

لكن فى بلادنا يتصور بعض الكتاب أو الصحفيين أنهم وصلوا الى أغوار المرأة النفسية لمجرد بعض القراءات أو العلاقات العابرة السطحية. نادرا ما تكتب المرأة عن نفسها، بسبب الكبت المزمن الناتج عن الخوف من أن تنهشها الألسنة، لكن الرجل يزداد فخرا بغزواته النسائية وأنه الخبير الأعظم بالمرأة، على حين تتباهى المرأة بالجهل وعدم معرفة الرجل، قرأت أخيرا تحليلا نفسيا لظاهرة التحرش، واغتصاب الرجال الأمريكيين الكبار للبنات الأطفال، وقد نشأت حركة نسائية جديدة فى أمريكا بعنوان: أنا أيضا, كشفت كل امرأة عما كتمته طويلا، من اغتصاب أو تحرش فى طفولتها.

وانبرى الرجال يدافعون عن أنفسهم، ويقولون إن الرجل لا يتحرش بامرأة لا تريده، فالمرأة هى التى تبدأ وإن كانت طفلة، ويتساءلون، لماذا تكشف البنات عن أجزاء من أجسادهن فى الأمكنة العامة، أو ليس للنساء طرقهن الخفية فى مغازلة الرجال والإيقاع بهم فى بئر الحب والزواج والإنجاب، أو العلاقات العابرة، للتسلية أو لمكاسب مادية، نظرة تودى بأعتى الرجال فى التهلكة، فيقترف الجرائم وينتهك القيم التى كان يتشدق بها فى الحزب الثوري؟ وبدأ بعض الكتاب والصحفيين غربا وشرقا، يتهمون المرأة بالتحرش بالرجل، يؤكد أديب من الخليج، أن كاتبة اعترفت له بأنها تكره عدم اهتمام الرجال بسويسرا بأنوثتها وهى تمشى فى شوارع جنيف، وكانت تحرك هامات الرجال وهى تمشى فى شوارع بيروت والقاهرة، لهذا بدأت مع صديقات لها حركة لمغازلة الرجال وطرد الملل من حياتهن. وكتب صحفى أمريكى يقول أن الرغبة فى الجنس الآخر جزء من الطبيعة البشرية، وأن الطبيعة الجنسية للمرأة أقوى من الرجل، فهى المسئولة عن استمرار الجنس البشرى وبقاء الفصيلة، وأن تحرش الرجال بالنساء، أو العكس، (النساء بالرجال)، يدخل ضمن الصحة النفسية، وأن الأمريكيات الرافضات لتحرش الرجال غير طبيعيات، ولا يمثلن إلا قلة من النساء ذوات العقد النفسية. وينقل بعض الكتاب والصحفيين فى بلادنا مثل هذا الكلام المغلوط، الذى يتخفى تحت إسم الطبيعة، فهل الرجل الكبير الذى يتحرش بطفلة، فى الخفاء، إنسان طبيعي؟ أم أنه رجل جبان يتخفى فى الظلام مستغلا سذاجة الطفلة أو ضعفها؟ وهل الرجل الذى يغازل النساء فى الشوارع ينساق وراء الطبيعة المحبة للجمال؟ أم أنه رجل عاطل بلا عمل منتج، يملأ فراغ حياته؟ والمرأة التى تغازل الرجال فى الطريق هل هى طبيعية؟ أم أنها عاطلة، تعيش عالة على الآخرين، تشعر بالفراغ فى حياتها، وتريد أن تملأ هذا الفراغ بالتزين ومغازلة الرجال، أو عرض بعض أجزاء من جسمها لعيونهم فى الأمكنة العامة؟