الأنوثة من الطبيعة إلى الثقافة



وفاء البوعيسي
2018 / 10 / 14

تأخرت المرأة عن موعدها بقرون، للتعبير عن نفسها وذلك لأسباب تاريخية، وقد كان الرجال طوال فترة غيابها، يفكرون كيف يجب أن يبدو حضورها، كانوا يمارسون تحزيراتهم الخاصة حول طبيعتها، وهل هي ذات عاقلة ولها كيان مستقل مثلهم، أم مجرد كائن بيولوجي جميل للتلذذ به، وحين استقر رأيهم على أنها كائن بيولوجي، استبعدوا منه كل ما يُعتقد بأنه يخص الرجال، كالعضلات والعقل والقوة، والتعبير، وأسرفوا في تعميق ما قرروا أنه جذاب، للحصول على أنوثة خالصة النقاوة دائمة الجاذبية.
هذه الأفكار الأولية حول المرأة، تحوّلت بعد فترة إلى عقد اجتماعي غير مكتوب، تَوَافق عليه زعماء المجاميع الذكورية، من رؤساء القبائل، وكهنة المعابد، وأباء الفتيات، وأرباب المهن، ومُلاّك الأموال، وقد صمد هذا العقد عبر التاريخ، وخضع لتعديلات متعاقبة من طرفٍ واحدٍ دائماً، لتنقية الأنوثة مما يُعتقد أنها شوائب تَشينُها، ففي الصين كانت تُشد كواحل البنات إلى عمود البيت، لثني الساقين حتى تمنح مشيتهن تمايلاً وغنجاً يعجب الرجال، وفي اليابان جرى حشر أقدام الطفلات في أحذية ضيقة لسنوات متتالية، حتى تنبعج القدم وتتقلص، وبهذا تحتفظ بقياس صغير مهما تقدمت المرأة بالعمر، هذا لأن الثقافة السائدة وقتها، كانت تعتقد بأن المرأة اليابانية ليست بحاجة لأن تمشي مسافات بعيدة عن بيتها، وبما تتطلبه خدمة زوجها وأولادها فقط، وبأوروبا في القرون الوسطى، كانت الفتاة تُجبر على ارتداء مِشد للخصر ليل نهار، يضغط على أعضاء جسدها الداخلية حتى تتراكم على بعضها، ليأخذ قوامها مع الزمن شكل ثمرة الكمثرى، ولا يهم بعد ذلك مقدار الألم الذي ينجم عن ذلك، ومخاطر الضغط المتتالي على الأمعاء والقفص الصدري، وفي بورما وتايلاند، تُجبر الطفلات على وضع حلقات نحاسية حول الرقبة، لتستطيل أعناقهن أكثر من المعتاد، إذ يضغط ثقل الحلقات وصلابتها على عظام الترقوة حتى تغور للأسفل، ويشرأب العنق للأعلى، وتظل الرقبة محاطةً بالحلقات طوال العمر ولا يمكن نزعها حتى لا تموت صاحبته، أما في موريتانيا، فتُجبر النساء على تناول الكثير من الطعام المشبّع بالدهون، بغرض تسمينهن للعريس قسراً، وذلك دون اكتراث بعواقب ذلك على صحة المرأة من تراكم الشحوم والكوليسترول، فالمهم هو إرضاء تبدلات مزاج الرجال في الجمال الأنثوي.
وبهذا القرن التعس، سنرى أن الدُمى المتشابهة في المحال التجارية (المانيكان)، قد خرجت من الفيترينا إلى كثير من عواصم العالم، لتستعمل موادَّ جماليةً مستعارة، كالرموش، والأظافر، وخصلات شعر صناعي، وتاتو بدل الحاجبين، وعدسات ملونة، وسيليكون في مناطق الصدر والأرداف، وعقاقير لتكبير الشفاه وطرد التجاعيد، ومستحضرات تسمير وتشقير البشرة، ورغم تورد خديها الدائم، فإنها شاحبة هزيلة وكأنها مصابة بأنيميا، لكنها تجد الطاقة لتلهث خلف ما تتطلبه صرعات الموضة، لإرضاء المستهلك (الرجل) للمرأة ومشتقاتها.
إن الهوس بالمكياج والنحافة وعمليات التجميل، لم يعد منذ مدة سلوكاً فردياً لبعض المترفات، بل تحوّل إلى ظاهرة وثيقة الصلة بالمتغيرات الثقافية، التي رافقت تنامي القيم الرأسمالية، وصناعات الجمال التي تتحكم في الإنتاج الثقافي وتوجّه مساراته وقضاياه، وتكرّس جهودها لإنتاج امرأة ضحلة، نحيفة، مثيرة، عصرية المظهر، لأن قانون العرض والطلب على المرأة في سوق الزواج والتوظيف والإعلان، يعتمد على الظفر بالمرأة الجميلة والمطواعة، حتى تسطّحت شخصيتها وأهملت قضاياها الإنسانية.

وفاء البوعيسي