كتب اثرت فى حياتى النبيذة



مارينا سوريال
2018 / 11 / 2

ثلاث شخصيات, امرأتان ورجل, لكل منها صوتها وقصتها الخاصة, تلتقي في رواية يجتمع فيها الحب مع الموسيقى , والشعر مع الجاسوسية. تاج الملوك عبد المجيد, الصحافية المتحررة صاحبة مجلة الرحاب التي رعاها نوري السعيد في أربعينيات بغداد. منصور البادي, زميلها الفلسطيني في إذاعة كراتشي الذي هاجر إلى فنزويلا وأضحى مستشارا لرئيسها هوغو شافز. ووديان الملاح, عازفة الكمان في الأوركسترا السمفونية العراقية التي يثقل أذنيها صمم عوقبت به الأنها تمردت على نزوات "الأستاذ". سالفة إثر سالفة, تغزل النبيذة خيوط الوقائع بمغزل الخيال, حين تحرف مصائر البشر عن مساراتها الطبيعية, عابرة ثمانين عاما من تاريخ بلد معذِّب ومعذَّب.
ليس في حياة تاجي عبد المجيد موجة متهاودة. لا سواحل رملية أو ضحالات. دائماً في قلب اللُجّة. نشرت الصحف صور تشييع شهداء الوثبة. تتأمل صورتها وهي تتقدم حاملة لافتة جمعية الصحافيين. لا تخفي نظارتها السوداء ملامحها. شكلها مميّز ولا محلّ للالتباس. بدلتها الغامقة وحقيبتها البيضاء الصغيرة المتدلية من كتفها. لا بد أن الصحف موجودة على مكتب الباشا. أو ستؤخذ له إلى بيته على الشط، يطالعها مع شاي الفطور. هي منذ الآن مرصودة. مسحوب عنها الغطاء. مثلما رسمها أكرم شكري في تلك اللوحة. مكشوفة. ناكرة جميل. تبصق في الطبق الذي أكلت فيه. وسيأتي من ينصحها بمغادرة البلد. الهروب عبر الحدود الشرقية وإلا...
يرمقها بنظرة طويلة. يتردد في الكلام. ثم يختصر لها الحكاية. كان العطيّة رفيقاً لفهد في الصفّ وهما تلميذان في البصرة. تجاورا على منضدة واحدة في مدرسة الرجاء العالي. إرسالية مسيحية أميركية. حتى اسميهما كانا متشابهين. بهجت سلمان ويوسف سلمان. الأول تربّى برفاهية والثاني حسبما تيسّر. لما كبرا صارا عدوّين. سار كلٌ في طريق. دخل العطيّة ثانوية الشرطة، تدرّج في المراتب وصار مديراً للأمن. وسافر يوسف سلمان إلى موسكو وعاد ليشارك في تثبيت الحزب الشيوعي. اتخذ لنفسه اسماً حركياً: فهد.
ليست هي المرة الأولى التي تسمع فيها بالأسماء الحركيّة. كانت تظنها بدعة من بدع المقاومة الفرنسية. غطاء للإفلات من ملاحقة الغستابو. لم تتصوّر أن يستخدمها الشيوعيون في العراق. يلجأ بعض الصحافيين والفنانات إلى إخفاء أسمائهم الحقيقية. ينشر زملاء لها مقالات باسم قرندل. حبزبوز. فتاة العرب. كنّاس الشوارع. خجّه خان. أما تاجي فلا تفهم تواضع الكاتب. أن يكتم هويته ولا يتباهى بما يكتب. تفتح مجلتها، كل أسبوع، وتتأمل اسمها في الترويسة فتنتشي. ترضى عن نفسها. تبتسم حتى لو كانت مهمومة.
«يرث قسم من البشر عن آبائهم الثروات. ينال آخرون أمراضاً وراثية. وكان من نصيب ابن الشيخ أنه ورث نفوذاً على العباد. سطوة لم يعرف كيف يتصرّف فيها فراح يُبدّدها في فنون الشرّ. منحته الحاشية مركز «أستاذ» بدون أن يطلبه. مُنافقون يتكاثرون ذباباً في كلّ زمان ومكان. يبصق واحدهم لُبان المراوغة في فم زميله. يعلكه الثاني. يمتصه. يمطّه وينفخه فقاعة كبيرة في وجه الأول. تنبت شجرة الخديعة في متنزه الزوراء. أكبر حدائق المدينة. يعكف خبراء النباتات النادرة على ترقيد جذورها وتكثيرها. تمتد الأغصان والفروع وتغطي حدائق المنازل في بغداد. تبلغ حقول القمح في الشمال وغابات النخيل في الجنوب. تلوّث قصب الأهوار. تظهر في البلد قبيلة جديدة. بنو نفاق.
في فراشه لم يكن يشعر بحرارة ولا ببرد. أجهزة التبريد والتدفئة في قصوره مبرمجة لتتبع تقلبات الجو وتتابع الفصول. وفي الأسرّة العديدة التي تؤثث غرف نومه، هناك مُنظّم إلكترونيّ يعمل بحسب الشرشف الذي يتغطى به. ترتفع حرارة الغطاء عن درجة معينة فتنخفض درجة التدفئة تلقائيًا. وإذا فسا الأستاذ تهرش الأجهزة المتطورة رؤوسها لكي تتابع حرارة فسائه وتتصرّف لتخفيفها وتطييب رائحتها. أرسل مهندسين في دورات إلى ألمانيا واليابان لكي يأتوا له بأحدث الاختراعات. استبقى عائلاتهم رهائن حتى عودتهم. من يهرب منهم أو يطلب اللجوء تُباد أُسرته.
ذكّرته وديان إنهما مدعوّان للعشاء في بيت عمّها فطلب إليها أن تعتذر. موعده مع الأستاذ أهم مائة مرّة من أكل الدولمة مع عمّ خطيبته. ورغم حرارة تمّوز، ارتدى بدلة وربطة عنق. أكدّ له المرافق هشام أنه سيطلبه مجدداً ليبلغه بمكان اللقاء. جلس مستعداً عينه على الساعة. انتظر من الرابعة بعد الظهر حتى أوشك الليل أن ينتصف. تكرمشت سترته وابتلّ قميصه بالعرق. كاد يستسلم للنعاس حين رنّ الهاتف في الحادية عشرة وخمسين دقيقة. صوت هشام يطلب منه أن يتوجّه إلى القصر الصغير ويترك سيارته عند البوابة. ستأتي سيارة أخرى لنقله إلى الداخل. رشّ الكولونيا على وجهه وغادر البيت على عجل. لم تتمكن شقيقته من اللحاق به لتسأله إلى أين يذهب في آخر الليل.