رسالة: عن النساء، الرأسماليّة والقتل



محمد قعدان
2019 / 1 / 21

منذُ أن بدأتُ بكتابةِ هذهِ الرسالة، وفي تفكيري تدور عدّة شكوكٍ مُسبقة حول واقعيّة سؤال(لماذا تُقتل النساء؟)، طرحُنا للسؤال يُعبّر عن ظروفٍ إجتماعيّة نمرّ بها. الفرضيّة المُسبقة التي تكمنُ في السؤال، بأن النساء تُقتل لكونها نساء، وليس كعمليّة عُنف وتوحّش جارية في المُجتمع. من أجل مُناقشةٍ علميّة ذو ملكةٍ ثاقبة ومُحددات إجتماعيّة صارمة، نرفض عمليّة فصل قتلِ النساء عن عمليّة التوحّش في المُجتمع، ولكن بأي معنى؟ القصدُ أن البُنى(أو الجذور) الإجتماعيّة التي تجعل من المُمكن قتلِ النساء هي ذاتِها التي تُمكّن عمليّة التوحّش. وما يجبُ مُلاحظتهِ هو كيفيّة التوحّش عند المُجتمعات، سواء من خلال توحّش مُنضبط جيش ومؤسسة عسكريّة وشُرطة منُظمة، أو توحّش غير مُنضبط إنتشار السلاح الغير شرعي ومُنظمّات إجرام وتهديدات بالقتل والخ. لذلك لكي نُحقق إجابةٍ وافية على السؤال يجب أن نرى بأعينٍ ماركسيّة من خلالِ ثلاثةِ مُصطلحاتٍ سنُعطيها تعريفاتٍ سياقيّة وستُرشدنا إلى البُنى الإجتماعيّة: النظام الأبوي، الرأسماليّة والتبعيّة.

ما جعلَ من المُمكن اليوم التحدّث عن بُنية إجتماعيّة واحدة بشكلِها وترتيبِها الأبوي في العالم، التي يحكمها المراكز الرأسماليّة في العالم(الولايات المُتحدّة، الإتحادّ الأوروبي واليابان) كإتجاه في الإجابة عن سؤالنا، هو القتلِ الأخير للشابة أية مصاروة في أستراليا وقتلِ الفتاةِ يارا في قريتِها، من الداخل الفلسطيني. ما نراهُ حقيقيّا في كلتا الحالتين، هو قتلِ النساء بغضّ النظر عن السياقات الليبراليّة والورديّة في المراكز الرأسماليّة أو التقليديّة في القرية، وكلتا الحالتين جزء من هذهِ البُنيةِ الإجتماعيّة، بأن نسبةِ الإعتداءات على النساء في أستراليا (واحدة من كل خمسة). فما هي هذهِ البُنيةِ الإجتماعيّة التي نضجت في الغرب؟ وما هي الديناميكيّات التي تجعل من المُمكن قتلِ النساء، الإعتداء والسلبيّة؟ وسؤالنا الأخير حول فرضِ التبعيّة لهذهِ البُنية الإجتماعيّة في الوطن العربي وفلسطين خاصّة.

البُنى الإجتماعيّة الأبويّة وهيمنةِ الذكر على المُجتمع هي ليست الطبيعة الإنسانيّة ولم تكن منذُ الأزل، كما تحكي لنا الشروحات الأركيولوجيّة(علم الأثار) عند فراس السوّاح وغيرهِ، المُجتمعات ما قبل رأس المال، ما قبل تقسيم العمل، ما قبل ظهور الأسرة وما قبل الملكيّة الخاصّة على وسائل الإنتاج. كانت المرأة سيّدة ألأسرة، العمل والإنتاج وكانت ألهة في مُخيّلة الإنسان القديم.

الأسرة كانت اللبنةِ الأولى للبنيان الرأسمالي الحديث، النواةِ الأولى للبرجوازيّة نمت بشكلِ العائلة كأحدِ الترسبّات الإقطاعيّة، الملكيّة الخاصّة على المصانع كانت من نصيبِ العائلة وهي تُديرها. وبالتالي الطبقةِ العاملة هي أيضاً عائلات عملت وتقاضت أجرها على أساس العائلة لكي تزيد من نسبةِ فائض القيمةِ التي تربحها العائلات البرجوازيّة التي تملك المصانع، حدّثنا ماركسٍ عن هذهِ العمليّة التي جرت خلال التحديثات الصناعيّة الكبيرة في بريطانيا العُظمى، التي ضمّت النساء والأطفال للعمل بأجرٍ زهيد بسبب التقسيم الإجتماعي بأن المرأة والطفل قوى عاملة رخيصة. هكذا تشكّل مفهوم الأسرة إلى وحدةٍ إنتاجيّة وإقتصاديّة كجُزء من طبقاتٍ، قام عليها البُنيان الرأسمالي، ولكن كيف تمّت هذهِ التقسيمات في العائلة، على أساس الذكر في مركزها؟
كي نستطيع أن نرى علاقةً بين الرأسماليّة كعملٍ وتقسيمٍ للعمل وإنتاجٍ للقيمةِ وفائض القيمة ومن ثمّ تراكمٍ لرأس المال، والهيمنةِ الذكوريّة وظهور المُجتمع الأبوي ومن ثمّ الأسرةِ وتقسيم أدوارها. علينا أن نخترق المُخيّلة الغربيّة التي بدأت بالتشكّل مع العلم الحديث والتصنيفات الأصوليّة للعرق، والبيولوجيا. وهُنا نستطيع أن نرى الجذر الذي مكّن لإنحطاط مكانةِ النساء الإجتماعيّة في المنظومةِ الأسريّة، لتكون منظومةً أبويّة وتماسك هذهِ المُخيّلة مع البُنيان الرأسمالي لتراكمِ فائض القيمة. التصنيف العلمي الأصولي للبيولوجيا، بمعنى وضعِ المرأة تحت وسمٍ بيولوجي جامد بأنها أدنى وأضعف من الرجل. الحاجةِ الرأسماليّة لإعادة تشكيل العائلة وضمّها كوحدةٍ إنتاجيّة وإقتصاديّة لسوقِ العمل في القرنِ التاسع عشر وتحديد قيمةِ القوى العاملة وفق التصنيفات الأصوليّة، ودعمِ ذلك من خلال المؤسسات التعليميّة، الدينيّة كأجهزةٍ أيديولوجيّة تخدم مصلحةِ رأس المال بالمُقابل الأجهزةِ القمعيّة القضاء والبرلمان والشُرطة للحفاظِ على هذهِ التصنيفات وعدمِ مسّها من خلالِ مُمارساتٍ مُضادة. مثلاً، المثليّة الجنسيّة رفضت كلّ هذهِ التصنيفات الأصوليّة وتهديدها للمفهوم العائلةِ الرأسماليّة في الغربِ الأوروبي، وكان القانون يحمي الأسرة من هذهِ المُمارسات الشاذّة التي تخلّ في الوحدات الإنتاجيّة والإقتصاديّة للرأسماليّة.

المنظومةِ الأبويّة تطوّرت مع إكتمالِ البُنيان الرأسمالي، الحاجة إلى العائلة كوحدةٍ إنتاجيّة وإقتصاديّة(التي قامت على التقسيم الإجماعي فيما بينها) وتناقض ذلك مع حاجتِها إلى الفرد المُستهلك(الذي يقوم على جوهرِ الفرد كوحدةٍ مُستقلة مُستهلك)، يُمكننا من إستكشافِ التناقض الإجتماعي الذي بدأ يهزّ البُنيان الرأسمالي. النموّ الإقتصاد الرأسمالي من خلال الشكلِ الإجتماعي-السياسي للعائلة في المرحلةِ الإقطاعيّة، يُحدّثنا المؤرخ فرنان بروديل بأن الإنتقال للرأسماليّة في أوروبا وخاصّة بريطانيا وهولندا وفرنسا أكثرُ متأخرة، هي العلاقة بين العائلة والسياسة وحريّةِ تداخلها في الإقتصاد، الإزدهار الرأسمالي كان مُتعلّق في الشكلِ الإجتماعي، تطمح الرأسماليّة بأن تُفكك العائلة وتبني الفرد المُستهلك، ولكن جذورها هي العائلة وإستقلاليّتها كان أساسيّة لبناء الطبقةِ البرجوازيّة وبالمُقابل لبناء الطبقةِ العاملة.

في هذهِ المرحلة من الرأسماليّة يبدأ التوحّش المُنضبط، نتيجةٍ لتراكمِ الإنتاج الهائل بدون مُستهلك، وبالمُقابل تراكم القوى العاملة للعائلة خلال الإنجاب والحمل. التوحّش المُنضبط هو المؤسسة العسكريّة والحاجةِ إلى الغزواتِ الرأسماليّة وفتحِ أسواقٍ جديدة وإستعمارٍ للعالم وهذهِ المؤسسة التي تضبط التوحّش على الأقل رسميّا، هي أبويّة بالتقسيمات الإجتماعيّة وأثرُ الأيديولوجيا السائدة تجعل من الذكر السيّد، ولذلك نرى هذهِ المؤسسة تعجّ بالتحرّشات الجنسيّة والإعتداءات على النساء.

إستعمارُ العالم، كان لهُ أثرٌ على البُنيةِ الإجتماعيّة في الوطن العربي(أو الإقليم العربي في الدولةِ العُثمانيّة) وموقع المرأة في هذهِ البُنية. العائلة في الإقليم العربي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، لم تملك أي إستقلاليّة إقتصاديّة، ولم تستطيع أن تتوغل في الملكيّة على الأراضي بل الحاكم(السُلطان) هو المالك السياسي والإقتصادي. ولذلك البُنية الإجتماعيّة لم يكن فيها التقسيمات حادّة كما في الغرب، وهذهِ التقسيمات هي من أجل تُركيز الأموال والتجارة والرخاء بيدِ عائلةٍ، وهذهِ الحدّة والجمود لم تكن مشهودة في الدولةِ العُثمانيّة، المُجتمعات كانت أقلُ إستقراراً والكثير من الأبواب مفتوحة والمراتب الإجتماعيّة سهلة البلوغ. وقد لاحظت الباحثة جوديث تاكر في السجّلات العُثمانيّة عدّة مُتغيّرات على النساء العربيّات في الحضر والريف مع إيقاع الإستعمار(القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين)، كنّ النساء يعملن في أكثرِ من حِرفة وغالباً حرفةِ النسيج، ولهنّ مُساهمات هامّة في إنتاج الملابس الحريريّة والقُطنيّة، وأيضاً التجارة بالتجزئة، والترفيه الموسيقي، وكلّ هذهِ الأعمال تطلبّت من المرأة حريّة الحركة والظهور في المحاكم لمُتابعةِ مصالحهن. إلى أن بدأ الإدماج المُتزايد في إقتصادِ أوروبا، من خلال الغزوات الأوروبيّة والإملاءات الإقتصاديّة أو القروض والديون والخ، مما مكّن لمحو كلّ فعلٍ إقتصادي نسائي الحرفِ الإنتاجيّة والنشاطات الخدميّة. نتيجةً للمُنافسةِ الأوروبيّة وطلبهم العالي على المنتوجات الحريريّة والغزل فُرضت السيطرة على الإقتصاد المحلّي وتمّ تقويض العمل النسائي المُستقل، وأصبحن بعضهن عاملات في المصانع الحريريّة الخام. في جبلِ لبنان مثلاً كانت مصانع حرير يعملن هُناك، إلى أن تمّ تفكيك المصانع وأصبحن عاطلات عن العمل، وبعد فُقدان المجال المادّي والإمكانيّة التي تُتيح للنساء بالمُشاركة بالحيّز العامّ، أصبح الحيّز الخاص مُلازم للنساء.

إقتربنا جدّا من فهمِ هذهِ العلاقات المُركبّة بين النظام الأبوي، الرأسماليّة والتبعيّة. القضاء التامّ على الحريّة للمرأة هو لم يكن بفعلٍ نصّ ديني أو فتوى والخ، طبعاً سيكون لهُ أثرٌ لاحق ولكن أساسُ فهمنا للدينامو الذي يعمل على تقويض الحريّة وفصلِ النساء عن الحيّز العامّ في الوطنِ العربي، أطلقهُ الإستعمار والتوحّش المُنضبط. وأضافت جوديث تاكر عامل مهمّ في حياةِ النساء ما قبل الإستعمار، وهو التوازن بين الحيّز العامّ والخاصّ أي الأعمال المنزليّة والإنجاب ورعايةِ الأطفال. لم تكن حدّة ثُنائيّة بين العامّ والخاصّ في مُخيّلةِ النساء العربيّات كنّ يحرصن على الإثنين، يعود ذلك إلى عدم الإستقرار في السلّم الإجتماعي إلى بدايات السيطرةِ الإستعماريّة. وهذهِ السيطرة بدأت على تفكيك العلاقات الإقتصاديّة القائمة لتشكّل علاقات أخرى تبعيّة للمركز الأوروبي ولاحقاً الأمريكي، المُستعمِر. وهذهِ العلاقات الإقتصاديّة هي ليست بالضرورة يجب أن تشمل كلّ ركن في المُجتمع ولكن على الأقل أن تشمل الرتبةِ السياسيّة والمؤسسات والمُدن الكبيرة. ومن أجل إتمام التبعيّة يجب أن تكون ما هو أكثرُ من أشكال إجتماعيّة هرميّة وما هو أقلّ من دولة مُستقلّة. وهذهِ الهرميّة الإجتماعيّة التي تُصنّف بحدّة الأدوار والمواقع للجنس، العائلة، القبيلة والعرق وتمنع ما كان قبل الإستعمار، وهي سياسةِ الأبواب المفتوحة أمام الجميع في الدولةِ العُثمانيّة. وهُنا أكمل الدينامو عملهُ في صُنع وإجترار كلّ ثقافةٍ تُبرر هذهِ الحدّة في الهرميّة الإجتماعيّة، التي تمنح تركيز رأس المال بيدِ قبيلةٍ أو عرقٍ أو طائفةٍ لتكون مسؤولة عن العلاقاتِ الخارجيّة التابعة للمراكز.

وهُنا، بعد تحديدنا للنظام الأبوي في سياق الأثرِ الإستعماري على الوطن العربي، أعودُ إلى سؤالي الأوّل: لماذا تُقتل النساء؟ وإستدركتُ واقعيّة السؤال، بأن النساء تُقتل لكونها في تعيش في سلّم إجتماعي وضعهُ لنا الإستعمار يتواءم مع مصالحِ التبعيّة والنهب. ولكن يتبقي لي تحديد العلاقةِ بين هذهِ البُنيةِ الإجتماعيّة التي نتجت كأثر للإستعمار، والفردُ الذكر، وفعلُ القتل. ما ألاحظهُ بين الثلاثةِ مُركبّات(البُنية، الفرد والفعل) هو علاقةِ ديالكتيكيّة بعكسِ السببيّة بمعنى نحنُ لا نستطيع أن نرصد سبب يؤدي إلى آخر إلى أن نصل فعلِ القتل. التناقضات العميقة في البُنية الإجتماعيّة والفرد هي التي توّسع مجال فعل القتل. السلّم الإجتماعيّة الذي فرضهُ الإستعمار يخلق تمثيل وهمي لموقع الفرد الذكر في البُنيةِ الإجتماعيّة، بأنهُ يمتلك القوّة الجسديّة أو العقليّة على الأنثى والخ. الوهم لذاتهِ بفتح مجالاً للفعلِ الفتل أو الإعتداء كونهُ هو الأفضل وهي الأدنى، فإذا هي بحاجةِ لهذا الجسد أو العقل.
مُنظمة الصحّة العالميّة حددت عدّة أسباب للإعتداء الجنسي، إغتصاب والقتل، وما رأيتهُ في هذهِ الأسباب المُتعددة(الإنعزال، المرض النفسي، الإفراطُ في الكحول، تعنيف الذكر منذُ الطفولة، تعليم محدود والخ) هي أسباب فرديّة، وليست إجتماعيّة وهي صحيحة، ولكن لوحدها لا تستطيع أن ترى العلاقة بينها وبين التوحّش والإعتداء النساء أو الاطفال أو المثليين، إلا إذا رأينا كيف فُتح المجال الذي يُوهم الفرد الذكر بأنهُ الأعلى في هذا السلّم الإجتماعي، وبينِ أزماتٍ يعيشها الفرد ويأخذ شرعيّته من السلّم الإجتماعي، ليقوم بالفعل.