جائزة الاستغناء عن الجوائز



نوال السعداوي
2019 / 2 / 13

إنها لحظات قليلة فى حياتى، تمر بى، حينما يغلبنى فجأة المرض،أو تجتاحنى الذكريات المؤلمة، عبر سنوات عمرى. ابنتى، الكاتبة الشاعرة منى حلمى، أنضج مِنى، وأكثر حكمة، وزهدا فى الحياة. أتذكر كيف غًدر بى هذا العالم. فى يوم ما، وجدت نفسى داخل زنزانة، تحوطها القضبان الحديدية. أشعر بالبرد، والجوع. تئن العظام والمفاصل، من النوم على الأرض. زنزانة ضيقة، مظلمة، مختنقة، تمرح فيها الصراصير، والفئران، والأبراص. تغمرنى الظلمة فى عزالنهار. الشمش غائبة طول الوقت.


أتذكر حياتى فى المنفى. كيف سُبيت حريتى، وحُرمت من حقوقى الأدبية، والمادية، والانسانية. رغم أننى دفعت عمرى، لكى أجعل الوطن أكثر انسانية، وحرية، وعدلا، وجمالا. حينما أتعرض لغزو الذكريات المؤلمة، أو أواجه طعنة جديدة،أذهب الى ابنتى، وقد غمرنى حزن كامن، عميق الجذور. أقول لها: يا مُنى.. أشعر بالغربة والاضطهاد.

ترمقنى مُنى بعينيها، تبتسم قائلة: ماذا حدث لكٍ؟ لم أسمع منكٍ هذا الكلام من قبل؟. أقول: لا أعرف. لكننى أحاول أن أفهم هذا الظلم الذى يغمر العالم. الفقراء يزدادون فقرا.. ويزداد المبدعون من النساء والرجال قهرا.. والفدائيون المخلصون يزدادون حزنا، وشقاءً.

تسمعنى مُنى، قائلة فى هدوء: صوتك ليس صوتك. وهذه الكلمات ليست كلماتك.. ماذا حدث لك ِ يا أمى؟ . أقول: لا أعرف.. كأنما أكتشف الحياة من جديد.. كأنما خُدعت، باسم النضال، والوطنية، والثورة. تشبع دمى منذ الطفولة من أجل تغيير العالم، والتضحية بعمرى من أجل أن أكتب كلمتى، التى أؤمن بها. فتكون مكافأتى الحبس، والعيش تحت خطر التهديد، واتهامات بقضايا الحسبة، وسحب جنسيتى المصرية، وتشويه السمعة، واثارة الشائعات ضدى، وتحويلى من مقاتلة ترفض الظلم والقهر، والتجارة بالأديان، الى كاتبة تحرض على الفتنة، والفسق، والفجور.

ترد مُنى: ولكنك كسبت كل القضايا التى رفعوها ضدك، وأدركت بلادنا والعالم، أن جميع الشائعات كانت كاذبة ومغرضة. شئ ما حدث لك يا أمى، ما هو؟ أنت لست أنت.. كتاباتك وأفكارك، ومواقفك، منحت ملايين من النساء والرجال والشباب، القوة، والأمل، والتفاؤل، والاصرار على الحرية، والتمرد. سافرت كتاباتك الى كل مكان، ولم تتوقفى عن الكتابة، والابداع، فى أصعب المحن. ماذا حدث لكِ يا أمى؟ لابد أنكِ مريضة؟.

أقول: لابد أننى مريضة فعلا.. لستٌ نفسى كما عهدتها، على مدى العمر. من أين تأتى هذه الأفكار الغريبة، الخبيثة؟. من أين يأتى هذا التشاؤم، الذى لم أعرفه أبدا؟. هل تسمم الدم فى عروقى، من تلوث الهواء والماء والأفكار المسمومة فى الاعلام؟ والأكاذيب التى نقرؤها فى الصحف؟ والحروب التى يشنها الأقوياء الأثرياء، ضد الضعفاء الفقراء. ربما تلوث دمى من هذا العالم المجنون المقلوب.. يصيب عضلاتى بالضعف، ويئن قلبى بالعبء.

تقول مُنى: هل أستدعى الطبيب؟. لكنك لم تذهبى الى أى طبيب أبدا.

أقول: لا أعرف يا مُنى، كيف أعبر بالضبط عن هذه اللحظة. إننى أمر بلحظة ضعف. فقدت الاحساس بالسعادة. تصمت مُنى، طويلا، ثم تقول: لابد أن تسعدى يا أمى، لابد أن تكون مفاتيح سعادتك، فى يدك أنت، وليس فى يد الآخرين. يكفى الملايين فى العالم يقرأون كتبك، ويتأثرون بها. وهذه هى جائزتك الوحيدة. أتذكرين، كنا نغنى ونرقص على موسيقى أغنية زوربا اليونانى أنا لا أخاف شيئا، أنا لا أريد شيئا، أنا لا أحتاج شيئا، أنا لا آمل فى شىء، أنا لا أملك شيئا، أنا حر.

أسأل منى: وأين تجدين سعادتك؟. تجيبنى: بعد أن فكرت كثيرا، بعد عمق التأمل، بعد تجارب الألم، وخيبات الأمل، وصلت الى أن السعادة هى الاستغناء عن السعادة؟.