العسراءُ الجميلة التي اغتالتها يدُ صهيون



فاطمة ناعوت
2019 / 3 / 27


في هذا الشهر، مارس، عيد ميلاد العسراء الجميلة، ابنة محافظة الغربية، التي خطفها الموتُ غدرًا في أوج إشراقها؛ لأن عقلَها كان خطرًا على تجارة السلاح العالمية حين أوشكت أبحاثُها وتجاربها على ابتكار قنبلة ذرية من مخلفات المعادن الرخيصة. فتقرّر تصفية تلك العقلية المصرية العبقرية، بأمريكا عام1952، ولم تُكمل عامها الخامس والثلاثين.
تفوّقت طوال سِني دارستها: كُتاّب القرية، ثم المدارس القاهرية، ثم الجامعة. وكان لتفوّقها صدى عند الحكومة المصرية آنذاك، فقدّمت منحةً سنوية للمدرسة التي ترعى هذه النبتة المصرية العبقرية. وأنشأت ناظرةُ مدرسة "بنات الأشراف" الثانوية معملَ فيزياء خصيصًا من أجل التلميذة المتفوقة، التي حصلت عام 1935، على المركز الأول على مستوى القُطر المصري في الشهادة التوجيهية. وكانت مؤهلةً لدخول كلية الهندسة، التي في أعلى سُلَّم التنسيق الجامعي، لكنّها التحقت بكلية العلوم، لشغفها بالفيزياء. وتخرجت كالعادة أولى دفعتها. ولم تسمح اللوائحُ بجامعة "فؤاد الأول" بتعيين البنات في سلك التدريس آنذاك. فوقف العالمُ المصري العالمي مصطفى مشرّفة، في وجه سدنة المجتمع الذكوري داخل أسوار الجامعة من الأساتذة الإنجليز، وهدّد باستقالته من عمادة كلية العلوم، إن رُفض تعيين الخريجة النجيبة "معيدة"، بوصفها الأولى على دفعتها في بكالوريوس العلوم. وأصبحت "سميرة موسى" أول معيدة في كلية العلوم بجامعة القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي. وأنجزت رسالة الماجستير حول "التواصل الحراري للغازات"، ثم سافرت إلى بريطانيا لدراسة الإشعاع النووي، وخلال عام ونصف أنجزت الدكتوراة في الأشعة السينية (X- Rays) وتأثيرها على خواص المواد. ثم واصلت البحث حتى وصلت إلى معادلة فيزيائية خطيرة، سيكون فيها مقتلها: "تحويل فُتات المعادن الرخيصة إلى قنبلة ذرية"؛ لتكون في متناول جميع الدول؛ حتى الفقير منها. ورفضت الدوائرُ العلمية تدوين المعادلة التي سيكون فيها خرابٌ على صناعة السلاح في العالم، وانتهاء احتكار دول بعينها للقنابل النووية.
كان حُلم تلك الصبية الوطنية، أن تدخل مصرُ، إلى حقل التسلّح النووي ليكون لها مكانٌ على خريطة التقدم العلمي التي فيها الكلمةُ العليا للأقوى سلاحًا وعلمًا وصناعةً. كانت تدرك أن امتلاك السلاح النووي هو أرضية تحقيق السلام من منطلق القوة، لا الضعف، في عالم متوحّش أشعل حربين عالميتين هائلتين دمرتا شطرًا كبيرًا من العالم. خافت على مصر من مصير اليابان، في هيروشيما وناجازاكي عام 1945، المدينتين اللتين دكّتهما القنبلة الذرية الأمريكية دكًّا. وبعد قيام دولة إسرائيل وإصرارها على الانفراد بالتسلّح النووي في المنطقة العربية، خافتِ الجميلةُ على وطنها؛ فأرادت أن يكون لمصر ظهيرٌ نووي تردّ به الأذى عن نفسها وعن المنطقة العربية. وفورًا أسّست "هيئة الطاقة الذرية"، بعد شهور من إعلان دولة إسرائيل المحتلة على أرض فلسطين عام 1948، ونظمت وفودًا مصرية للسفر في بعثات علمية لدراسة علوم الذرّة. وواصلت المناداة بالتسلح النووي للوقوف على أرض النديّة أمام الكيان الصهيوني الاستعماري الآخذ في الاستقواء بقوتي: السلاح النووي والدعم الأمريكي. ونظّمت في كلية العلوم مؤتمرًا عالميًّا شارك فيه عددٌ من علماء العالم، أطلقت عليه: “مؤتمر الذرّة من أجل السلام"؛ لتنشر فكرتها أمام العالم: "تطويع الذرّة لعلاج الإنسان من السرطان، وليس لقتله”.
وكان لابد للعدو من وضع نهاية لتلك الحياة الثرية الحافلة بالعلم والوطنية والامتياز العقلي. بعد استجابة د. سميرة موسى لدعوة من أمريكا لإجراء أبحاثها في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية، وحاولوا استقطابها للبقاء هناك للتدريس. ولكنها رفضت وأصرت على العودة لمصر التي لا تعرف لها وطنًا غيرها. وقبل عودتها بأيام بعد زيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورينا، دهم سيارتَها لوري ضخم فسقطت مهشمةً في واد سحيق. حدث هذا بعد تصريح خطير قالت فيه: “لو كان بمصر معملٌ مثل هذا؛ لانجزتُ الكثيرَ لبلادي. وحين أعود سأنشئ مثله لتطوير تجارب الطاقة النووية لخدمة قضية السلام من منطلق القوة.” تحية احترام لروح الوطنية الخالدة: "سميرة موسى". "الدينُ لله، والوطنُ لَمن يُحبُّ الوطن”
***