دائرةُ الحُب الأبديةُ في بيت لليان تراشر



فاطمة ناعوت
2019 / 3 / 27



اليومَ، في عيد الأمّ، نُقدّم الهدايا للجميلات اللواتي حملن في أحشائهن الأجِنَّة وهَنًا على وهَنٍ. فإذا أشرقَ النورُ على العيون الصغيرة، خاصمَ النومُ عيونَ الأمهات فواصلن السَّهرَ أرقًا على أرقٍ، ورتقن الليلَ بالنهار؛ أيامًا وأسابيعَ وسنواتٍ؛ حتى يشتدَّ عودُ الصغار، ويصيروا صبايا وصبيان، يملأون العالمَ فرحًا وعملا. فماذا عسانا نُقدِّمُ من هدايا لصَبيَّةٍ عذراءَ لم تحمل في أحشائها جنينًا، سوى أنها سهرت على أطفال حارتنا عقودًا طوالا، قلقًا على قلق؛ حتى تحوّلَ صِباها إلى شبابٍ، وشبابُها إلى هِرَمٍ، وحُسنُها إلى قداسة. وكَبُر الصغارُ في دارها حاملين في صدورهم جوهرةَ الحبّ التي لا يذوي بريقها ولا يجفُّ نُسغُها. فتاةٌ أمريكيةٌ غيداءُ في إشراق الصبا، كانت تستعدُّ لاعتمار طرحة الفرح وإكليل الزفاف في عشرينها، لتسير مُترفّقةً ذراع أبيها فيُسلِّمُها إلى يد حبيبها، ليسيرا معًا دربَهما الورديَّ، ثم تُلقي باقةَ الزهور وراء ظهرها إلى صديقاتها لتلتقطَها العروسُ المقبلة. قبل حفل الزفاف بأيامٍ، أنصتت إلى محاضرة حول الإنسانية المُعذّبة في أفريقيا، والأطفال الذين يقتلهم الجوعُ ويفترسُهم اليُتمُ والعَوَز. سألتْ خطيبَها مرافقتها السفر إلى حيث يرعيان بعضًا من أولئك الأطفال بعد زفافهما؛ فيحصدان مجدَ الرحمة. لكنّه رفض. فخلعت عن بِنصرها خاتمَ الزفاف الذي لم يتمّ، وقرّرت أن تسير في طريق الشوك الشاقّ وحدها دون رفيق أو مال. صوّبت وجهَها صوبَ القارّة السوداء، واختار لها اللهُ منها "مصرَ"، ثم اختارَ لها من مصرَ محافظةَ "أسيوط" السعيدة، واستقرَّ بها المُقامُ هناك حتى اللحظة الأخيرة من عمرها. وصلت مصرَ عام 1910، وأنشأت في أوائل العام التالي دارًا للأيتام الذين غُدِروا برحيل الأمّ والأب. استضافت في دارها، التي راحت تتوسّع مع الأيام، أطفالا من جميع أعمار اليُتم الذي لا يختارُ زمنًا ليحطَّ على ضحاياه. ثم فتحت أبوابَها لأراملَ يحملن أطفالهن على أذرعهن دون عائل، حتى تحوّل الدارُ إلى عالمٍ واسع وعائلة هائلة العدد، تستقبل الأطفالَ فتُطعمهم وتكسوهم وتعلّمهم حتى يكبروا ويتخرجوا من الجامعات ويتزوجوا وينجبوا، ثم يعودوا من تلقاء ذاتهم ليواصلوا الخدمةَ في الدار التي آوت طفولتهم ورحمت يُتمَهم. لكن الحال لم تكن باليُسر الذي سردته الكلماتُ السابقة. فقد كانت الأمُّ التي لم تلد تجوبُ قرى مصر ونجوعها على الدواب فوق الأراضي الوعرة، وتطيرُ خارج مصر صوب بلاد الله، بحثًا عن المال من تبرّعات الشرفاء لتسدّ احتياجات أطفالها من طعام وكساء وتطبيب وتعليم ورعاية على مدى السنوات. وكانت وحيدةً. لا، لم تكن وحيدة. كانت يدُ الله فوق يدها، تصنعُ معها معجزاتٍ وعجائبَ لا يصدّقها عقلٌ ولا يستوعبُها خيال. كانت تعدُّ القروشَ بين يديها، وتقارنُ بين نحولِها، وهول الجنيهات التي تحتاج إليها من أجل الأيتام، فترفعُ بصرها إلى السماء وتناجي الله شاكيةً إليه ضعفَها وقلّة حيلتها وجوع أطفالها، فإذا بالباب يطرق لتجد من يهديها جوالَ أرز، وصناديق صابون، وأرطال لحم، وبالات ملابس أو شيكًا بمبلغ مالي بقدر ما تحتاج إليه في هذا الشهر أو ذاك.
في كتابه الجميل: “معجزات الإيمان في حياة لليان تراشر"، يقدّم لنا المفكّر المصري: “القسّ باقي صدقة"، بعضًا من تلك العجائب التي حدثت مع الأم البتول التي احتضنت أطفالَ مصر على مدى سبعين عامًا، من واقع اليوميات التي كانت تكتبها بنفسها لتكون أثرَها ودليلَها على رحمة الله على أطفالها. إنها دار "لليان تراشر" للأيتام في محافظة أسيوط بصعيد مصر الطيب. تلك الدار التي لا تزال تمنحُ الحبَّ لأطفالنا رغم رحيل الأم العظيمة عام 1961، وسوف تظلُّ مِظلّةُ الرحمة فوق سماء الدار تقطرُ الحنوّ والعطف، دون توقّف.
في زيارتي الأخيرة لأسيوط، أكرمني اللهُ بزيارة تلك الدار التي بلغت شهرتُها آفاق العالم، فشاهدتُ بعيني ما لا يخطرُ على بال إنسان. مربيةٌ جميلةٌ بلغت عقدها التسعين تحملُ طفلةً على يديها وتُطعمُها. أقتربُ منها لأسألها: “منذ متى تعملين هنا يا أمي؟" فترفع لي عينين مُشرقتين قائلة: “جئتُ هنا وعمري أربعون يومًا. أطعمتني الأمُّ لليان من كفّها القمحَ والحُبَّ حتى شبّ عودي. وألبستني ثوبَ الزفاف بيديها. وأوصلتني إلى بيت عُرسي الذي فرشتْه لي بنفسها. فعدتُ هنا لأكملَ رسالتها مع أطفالٍ مثلي فقدوا الأم واحتضنتهم هذه الدارُ الطيبة.” هكذا الحال مع كل العاملين في تلك الدار الفريدة. كلُّ من يعمل بها من شباب وصبايا وكهول، وصلوا إلى تلك الدار أيتامًا صغارًا لا سند لهم ولا عائل إلا الُله ويدُ الله التي اختارت الأمَّ لليان تراشر لتمثلَها. إنها دائرةُ الحبّ التي لا تنتهي؛ فانعمي بفردوس الرحمن الرحيم أيتها الأم الرحيمة. "الدينُ لله، والوطنُ لَمن يُحبُّ الوطن”، وطوبى للرحماء.
***