طَبْلُ أُوسْكَار



عبد الله خطوري
2023 / 4 / 14

(ابتداء من عيدي ميلادي الثالث سوف لن أنمو قيد أنملة)ولأن آلعالم لم يعد يكفيه، ابتاع طبل صفيح وراح يقصف فيه أحاسيسه .. هي رواية الألماني غنتر غراس ( الطبل) أو (طبلُ الصفيح) تتحدث عن طفل (أوسكار) قرر ذات لحظة أنْ لا ينموَ أو يكبرَ ولو قيد أنملة احتجاجا على الأوضاع المُزرية التي يلاحظها في مجتمع الكبار، ابتداء من أمه وعائلته ومدرسته ومجتمعه إلى أكبر مدى يمكن أن يصلَ إليه الرفض والاحتجاج .. العالم كله موبوء مقرف مذموم، وعبثا تحاول السليقة والفطرة السليمتين التعايش وأجواءه الملوثة؛ فما العمل؟ لم يَثُرْ علنا، لم يظهر تمرده جهارا بقوة أو سلطة أو مظاهرة، فلاَ حول ولاقوة له على ذلك .. لَمْ يرتكب جرما، لم ينقلب على أوضاع مرفوضة، فطبيعته السوية لا تسمح .. لمْ ينتحرْ، فرغم كل شيء فمازال ثمة أمل لفعْلٍ ما في عالم مصمت جامد لا يؤمن لا يعترف لا يقر بأفكار وآراء الأطفال .. لم يدخلْ مستشفى المجانين، فالحياة المحاطة به كله مرستان للرعونة للعتو للعَته والحمق والحمقى لكن بمواصفات مجتمع مَدني مترع بمظاهر سُلط النفاق والكذب والمجاملات وقواعد التعامل السخيفة...
لقد توقف عن المُضي قُدُما والزمن أوْ لمْ يشأ أنْ يَدَعَ للزمن فرصةً وطريقا لأنْ يلجَ روحَه ويغيرها ويؤثر فيها سلبا ويكبرَ كما يحصل مع الآخرين .. فليمضِ الزمنُ الى حيث يشاء إلى حال سبيله إلى حيث قُدر له أن يمضيَ، وليفعلْ ما يشاء؛ أما الطفولة الثاوية في جوهره في أصالته في طبيعته في فطرته، فقد قررت أن تظلّ مكانها لا تبرح صفاءها الداخلي الأثيرَ وليكن بعد ذلك ما يكون...
إن اللحظات العظيمة في الرواية الحديثة ومنها الرواية الألمانية، هي لحظات رُؤيَـاااا مباغثة ساطعة لامعة يكاد شعاعها يعشي الأبصار ويحيي البصائر ب "حلقات من نور" على غرار حُبَيْبَات "فيرجينيا وولف"، هذه الحُبيبات الدقيقة تُهيئُ الانسان تجعله قادرا على مواجهة لحظة "الكشف" على طريقة "التجلي" في المقاربة الصوفية الإسلامية التي آشتغل بها الكثير من متصوفينا والتي وظفها بآمتياز كاتبنا "جمال الغيطاني" في تجلياته ... إن لحظات الكشف هذه تُعَري العالم تظهره على حقيقته دون مساحيق في الطريق؛فأم أوسكار مفرغة من معنى الأمومة تمارس الزنى علنا، والأب مرهق منشغل بتفاصيل الأعمال، والمدرسة علبةٌ من علب التنميط وتشييئ الإنسان وتغيير طبائعه من أجل خدمة سياسة حاكمة متسلطة مسيطرة لا إنسانية و و و .. الطفل الصغير الكبير الناشئ المترعرع الناضج يرى ذلك كله يعاينه ينتقده يرفضه ويدينه .. وأمام هذه العوالم التي تحكمها قوانين وأعراف غير إنسانية، أخلاقها وطبيعتها مقلوبة رأسا على عقب، وأمام أرض ملآى بالأحقاد والصراعات وتشابكات الشر ومنغصات البغض ودرائن الضغينة وفضاعات الفتك والقتل والشذوذ ووو ... يمسي الوجود في أمس الحاجة إلى إعادة قلب كل هذه المسوخات، فنكون أمام وضعية "قلْب القلْب" من أجل آستعادة الطبيعة الأولى للانسان، لذلك يقرر حدسُ الطفل "أوسكار" أن يظل طفلا متماهيا وغرارته لاعبا لاهيا بطبل صفيح كوسيلة جُـؤار رافض في وجه عالم لا يؤمن بالجُؤار...(ابتداء من عيدي ميلادي الثالث سوف لن أنمو قيد أنملة) .. هكذا قال قرر قدر ونفذ القرار بعزم وإصرار طفولييْن عَنيديْن يستحقان منا مزيدا من التأمل والتمحيص، نحن الذين ضاع منا رواء طفولتنا، لنستعيد بعضا من نضارة البدايات التي خلناها خَلَتْ وهي لم لن تخلو أبدا ...