لنستفد من التجربة السنغالية في تعديل مدونة الأسرة.



سعيد الكحل
2023 / 7 / 3

خلال المناظرة الدولية التي نظمتها فدرالية رابطة حقوق النساء تحت عنوان "نساء من هناك وهناك من أجل مدونة أسرة ضامنة للمساواة وعدم التمييز"، أيام 24،23،22 يونيو 2023، قدمت السيدة
Kanté Fayek Aissatou، وهي قاضية بمحكمة داكار، تجربة السنغال في مجال الأحوال الشخصية، وهي تجربة رائدة في العالمين العربي والإسلامي من حيث كونها اعتمدت مبدأ المساواة في الإرث بين الذكور والإناث وكذا البصمة الوراثية في إثبات النسب وإلحاق الأطفال خارج مؤسسة الزواج بآبائهم البيولوجيين. تجربة حظيت بتصفيق الحاضرات والحاضرين.
ما المانع من الاستفادة من التجربة السنغالية؟
تعد التجربة السنغالية في مجال الأحوال الشخصية تجربة رائدة ومتفردة عن تجارب باقي بلدان العالم الإسلامي. فقد اتخذت من مبدأ المساواة بين الجنسين في الإرث قاعدة عامة عند توزيع التركة، باستثناء الحالات التي أوصى فيها الهالك، قبل وفاته، باعتماد قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين". وبهذا يقوم نظام الإرث في السنغال على قاعدة "المساواة" وقاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين". ففي حالة وفاة المالك أو المالكة، فإن القاعدة المعمول بها هي "المساواة" بين الجنسين. أما الذين يريدون تقسيم تركتهم وفق قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" فعليهم كتابة وصية بذلك وإلا ستجري على الورثة قاعدة المساواة. وتتميز التجربة السنغالية كذلك بالإقرار بالبصمة الوراثية في إثبات النسب، بحيث تلجأ المحكمة إلى الخبرة الجينية لإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي الذي عليه تحمل مسؤولية تصرفه. فالمشرّع السنغالي جعل المصلحة الفضلى للطفل فوق كل اعتبار، وذلك باعتماد تشريع يحمي الطفل من التشرد ولا يجعله يتحمل مسؤولية الوضعية الذي وُجد عليها. وذهب المشرع السنغالي إلى حد إقرار حق الطفل الذي أثبتت البصمة الوراثية نسبه لأبيه من الإرث مثله مثل الطفل المولود داخل مؤسسة الزواج.
إن الشعب السنغالي، وهو شعب مسلم بنسبة 95 % وسني المذهب، لا يرى أن مدونة الأحوال الشخصية التي يحتكم إليها مخالفة للشرع. بل يعتبرها منسجمة مع أحكام الشريعة ومطبّقة لها، خصوصا فيما يتعلق بإثبات النسب وإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي الذي تأمر به الآية الكريمة (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله). فالله تعالى أمر رسوله (ص) بأن يلحق الطفل بأبيه الحقيقي الذي هو من صلبه. وكذلك فعل الرسول والخلفاء من بعده. ولم تكن لهم من وسيلة لإثبات النسب سوى "القرعة" أو "القيّافة". والقيافة هي إلحاق الولد بأصوله لوجود الشبه بينه وبينهم. ومما يدل على مشروعية القيافة فعلُ الرسول (ص) وفعل صحابته. أما فعل الرسول فقد أخبرت به السيدة عائشة في الحديث المروي عنها حيث قالت (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تري أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة ابن زيد فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض». وأما فعل الصحابة: فقد اشتهر العمل بها عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصحابة. كما ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى اعتماد القيافة في إثبات النسب عند التنازع وعدم وجود دليل أقوى منها، أو عند تعارض الأدلة الأقوى منها. واستدلوا بما روي عن السيدة عائشة.
متى يكفّ الإسلاميون عن مناهضة البصمة الوراثية؟
لقد خطا المغرب خطوات مهمة في سبيل ضمان حقوق الأطفال وتحقيق المساواة، خصوصا بعد التنصيص، في ديباجة الدستور، على المساواة وسمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية. لكن هذا الإقرار بكونية حقوق الإنسان وإلغاء كل أشكال التمييز ضد النساء لم تتم ترجمته في التشريعات الوطنية؛ الأمر الذي يجعل أصوات الهيئات النسائية والحقوقية والحزبية، باستثناء الإسلاميين، ترتفع مطالبة بملاءمة مدونة الأسرة والقانون الجنائي مع مقتضيات الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.
إن التجربة السنغالية في مجال مدونة الأحوال الشخصية، خاصة ما يتعلق بإثبات النسب وتطبيق المساواة في الإرث، يمكن أن تكون، من جهة حافزا للمشرع المغربي لكي يستفيد منها خلال تعديل المدونة وتجاوز تناقضها مع الدستور؛ ومن جهة أخرى، دليلا قاطعا يردع تنطع الإسلاميين ويلجم قيادتهم عن ترويج الأكاذيب والاتهامات في حق الحداثيين باستهداف الأسرة والدين واستقرار الوطن. فها هي دولة السنغال تمثل مختبرا عمليا وواقعيا للمطالب النسائية بالمساواة وإثبات النسب. إذ رغم اعتماد المساواة في الإرث بين الجنسين وكذا إلحاق الأطفال بآبائهم البيولوجيين، حافظ الشعب السنغالي على وحدة نسيجه المجتمعي، بحيث لم تتعرض الأسر "للتدمير" و"الصراع" اللذين يهوّل منهما الإسلاميون في حالة أخذ تعديل مدونة الأسرة بقاعدة المساواة في الإرث وبالبصمة الوراثية في إثبات النسب.
لقد بات ضروريا وضع تشريعات صارمة تقضي مع فترة إفلات الآباء البيولوجيين من تحمل مسؤولية الأطفال الذين يتسببون في إنتاجهم. فالأعداد المتزايدة للأطفال المتخلى عنهم (24 طفلا في اليوم بما يصل إلى 8760 في السنة ، سيصل عددهم سنة 2030 حوالي 155 ألفا و520 طفل لا يتعدى 18 سنة) تفرض اعتماد البصمة الوراثية لإلحاق الأبناء بآبائهم البيولوجيين وتمكينهم من كل حقوقهم القانونية والاجتماعية أسوة بالأطفال المولودين في إطار الزواج.
لا شك أن اعتماد البصمة الوراثية في إثبات النسب ستحد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة مثل الاغتصاب، التغرير بالإناث، أطفال الشوارع والانحراف وما يرتبط به من إجرام وتعاطي للمخدرات. أما بخصوص المساواة في الإرث، فلا ضرر سيلحق بالمجتمع مادام الأمر يتعلق بأفراد الأسرة وحدهم. بل سيستفيد المجتمع من تقليص ظاهرة "تأنيث الفقر" بإعطاء الإناث موارد مادية (عقارات تكون بمثابة ضمانة) تمكّنهن اقتصاديا وتسمح لكثير منهن بالاستفادة من القروض البنكية لتأسيس مقاولاتهن.