المرأة والجبل في المغرب بين الحاجة إلى إحياء الذاكرة وتعزيز حقوق الإنسان



لحسن ايت الفقيه
2024 / 3 / 15

المرأة والجبل ثنائية متشابكة، ومترابطة عناصرها حتى كادت المرأة تبدو، في الأوساط القبلية المغلقة المحففة بالجبال، وكأنها تحمل في ظهرها هموم تلك الجبال كلها، وتمثل هوية الجبل كيفما كان امتداده ومنعرجاته ضمن السلاسل التي تعمر بلدنا المغرب. وإن الثنائية، المرأة والجبل، وإن كانت متشعبة معقدة، فهي تتراءى، في البدء، إشكالية سوسيوثقافية محضة، لا تحتاج لأن يُنظر إليها بعيون الراصد لتخلف التنمية بالمغرب، وانتهاك حقوق الإنسان، لولا أن الرؤية من نوعها أدخلتها هيئة الإنصاف والمصالحة إلى قلب الجبل، لربط تخلف التنمية، هناك، بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ولا أقصد من الحقوقي ذلك الماهن الموظف من لدن كل جهة تزعم، بالباطل، أنها تدافع عن حقوق الإنسان، وعن «فعلية الحق». ولا أقصد من ذلك الحقوقي صفتي قبل إحالتي على التقاعد. وإني أتحدث، هنا، من كوني ابن الجبل، وجدتي من أمي من قبيلة «أيت براهيم» بشرق إملشيل. وأشكر جريدة ملفات تادلة التي تفتح أمامي، دواما، المجال للتعبير والتذكر بصوت مرتفع.
أكرر، ومعذرة مني إليكم عن الحشو والاستطراد، وبصيغة السؤال، ما صلة المرأة بالجبل بالذاكرة والهوية الثقافية وحقوق الإنسان؟ تبدو المرأة بالجبال تتمتع ببعض الحقوق الطبيعية، أعني المرتبطة بطبيعة الإنسان. ويمكن القول إنها هي المضمنة في المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان والمعاهدات ذات الصلة بذات الحقوق والإعلانات والعهود. إلا أن هذه الحقوق متفاوتة في درجة التمتع والانتهاك. ومرد ذلك التفاوت إلى التوتر بين الدولة مؤسساتها ومؤسسة القبيلة، أي: التوتر بين العرف الشفاهي والقانون الوضعي المكتوب، وبين التقاليد الثقافية الشفاهية التقليدية والسلوكات التي يستصحبها الانفتاح حول الحداثة، من ذلك مشاركة المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية. وباختصار، فالأنساق الثقافية التي تشكل فيها المرأة عنصرا أساسيا تعمل توترا سلبيا، في الغالب، مع الحقوق الطبيعية للمرأة، وينجر عن ذلك التهام الثقافي للحق المسطر في القانون، وطالما يغلف الحق ثقافيا. ويكاد وقع التقاليد الشفاهية يضيق على الحريات الفردية، حرية التفكير والتعبير، والانخراط في الحياة الثقافية والسياسية، وتحمل المسؤولية، في نهاية المطاف. وكثُر من التقاليد الشفاهية ما ينتهك بعض الحقوق، والتي يتعين العودة إليها لاحقا، في مقال آخر.
لما ذا نستثني الجبل من المفكر فيه؟ ولماذا نهمشه ونهمش نساءه تهميشا مضاعفا؟ الجواب في كوننا لا نعتني بالذاكرة - في الجبل- ولا بالتاريخ الراهن، ولا نعلم شيئا عن الرموز الثاوية في أزياء النساء وفضاءات رؤوسهن. ولسنا من الذين يعتنون باقتصاد التراث الثقافي، وطالما ندع تراثنا عرضة للفرجة غير المنظمة في موسم سيدي احماد المغني المسمى بالباطل سنة 1965 «موسم الخطوبة». نسيح بؤسنا باسم السياحة الجبلية، ولا ندافع عن أنفسنا ولا نصد الحملات الإعلامية الضالة صدودا.
نجهل، رغم أن وطر الذاكرة لا يسمح لنا بذلك، أن للجبل تمثيلية نسائية بمعتقل أكدز السيء ذكره بإقليم زاكورة، والذي هلكت فيه الشهيدة فاضم وحرفو، أو أهلكوها بالتنكيل والتعذيب، لا لشيء سوى أنهم اعتقلوها واستغلوها لمآرب أخرى، ثم أعدوا لها محضرا موجبا لإخفائها قسريا بقصبة «الحد»، قصبة القائد الكلاوي. كيف بنيت القصبة في عهد الحماية الفرنسية؟ بنيت بسواعد رجال أكدز، الذين استغلهم القائد الكلاوي، وروت تراب بنائها نساء أكدز تحب جبل كيسان بالأطلس الصغير. ونحن مُذكّرون هذا الحدث نرجو لشقيقها زايد وحرفو بقرية السونتات بإملشيل، الشفاء العاجل. ذروني أقتطف من كتابي: «حقوق الإنسان والأنساق الثقافية بجنوب شرق المغرب»، ما يفيد المناسبة، مناسبة الذاكرة. وللأسف فذاكراتنا أريد لها أن تتأسس على الانتهاك.
«اعتقلت فاضم وحرفو في شهر مارس سنة 1973، لما اكتشف المرحوم سعيد أوخويا المبحوث عنه في أحداث 1973، في منزلها، فزعم، بالحق أو بالباطل، وقد حمل معه ذاكرته معه، أنها هي التي أدلت رجال الدرك على مكان وجوده، فاتهمها بأنها هي التي كانت تمونه هو ورفاقه المعتكفين بالجبال المجاورة، ويبد أن هذا الكلام هراء. قالوا، أيضا، إن فاضم وحرفو عذبت يوم ألقي القبض على أؤلئك الذين صنعوا حدث التمرد على السلطة المركزية وقتها، عُذبت بمقهى أحد الأشخاص اسمه «بارو» بمركز بوزمو، ومكثت في هولها لمدة ثمانية أيام، وبعد ذلك نقلت إلى محتجز «الكوربيس»، ومنه رحلت إلى محتجز درب مولاي الشريف، بالدار البيضاء ثم إلى مركز أكدز، بكاف معطشة، السري، بإقليم زاكورة، بعد فتحه سنة 1976.
مكثت السيدة فاضم وحرفو بمعتقل أكدز، بالكاف المعطشة غير بعيد ثم توفيت يوم 20 من دجنبر من سنة 1976، ودفنت بمقبرة أكدز. وفي سنة 1998 نشروا إشاعة مفادها أن فاضم وحرفو موجودة بالرباط تائهة بشوارعها لإصابتها بالجنون، مما دفع أخاها زايد وحرفو أن يسافر بحثا عنها، ومكث طويلا، يقضي لياليه، بحي يعقوب المنصور والقامرة وبعض أحياء سلا. ولما تأسست هيئة التحكيم المستقلة، يوم 16 من غشت سنة 1999، تبين أن فاضم وحرفو توفيت ودفنت بمقبرة أكدز».
تقودنا مشاهد معاناة النساء بالجبل للعروج إلى الأطلس المتوسط الهضبي، وسأعود إلى كتابي «حقوق الإنسان والأنساق الثقافية بجنوب شرق المغرب»، لاستحضار سيدتين، جرى تكريمهما يوم 08 من العام 2010. « جرى تكريم وجهين نسائيين الأولى فاطمة يخلف المكرمة في متن الفيلم التربوي الحقوقي المنجز بمنطقة خنيفرة. والمكرمة للمرة الثانية بعد عرض الفيلم يوم 08 مارس 2010. وقد قال السيد رشيد فكاك في تلك المناسبة «بمناسبة اليوم العالمي للاحتفاء بالمرأة يسعدنا أن ندمج بين شيئين، الاحتفاء باليوم العالمي للمرأة في شخص السيدة فاطمة يخلف والاطلاع أيضا على عمل قام به بشكل جيد ورزين أصدقاؤكم وصديقاتكم بالمؤسسات التعليمية الثلاث، محمد الخامس، محمد السادس، أبو القاسم الزياني مؤطرين من لدن الأخوات والإخوة الذين يشرفون على نوادي حقوق الإنسان بمدينة خنيفرة» ألا وهو الفيلم الذكور. والوجه الثاني السيدة أمينة سلاك في ذات المناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة يوم 08 مارس 2010 بغرفة التجارة والصناعة بمدينة خنيفرة».
والسيدة أمينة سلاك بأطلس المتوسط الهضبي خير نموذج، وأجمل نموذج إن استحضرنا شهادة الأستاذة فاطمة أكنوز، امرأة الجبل، والتي تنفعل مع معاناة نساء الجبل بكل من مريرت وخنيفرة. قالت ذات يوم من سنة 2010، وسأقتطف من كتابي ذلك: «سنقدم على تكريم وجه نسائي محلي من تربة هذه المدينة الأمازيغية الشامخة المعروفة بتحدياتها وبنضالاتها.
وجه سنحتفي من خلاله بكل النساء المناضلات العاملات الكادحات،
وجه سيذكرنا بفترة حالكة من سنوات الرصاص وبجحيم سنة 1973، هذا الحدث الذي هز بيوتا في مختلف مدن المغرب ومدينة خنيفرة. إنه حدث هز هذه البيوت ورمى بها بأيدي العبث، حيث عاشت معه أسر حالات واسعة من القمع والاختطافات والمحاكمات غير العادلة والإعدامات خارج نطاق القانون،
وجه يعكس الصورة الحقيقية للمرأة المحلية، للمرأة الأمازيغية وليست تلك الصورة التي حاولت جهات معينة أن تكرسها على المرأة الأمازيغية.
إنها صورة المرأة التي تحملت أشكالا وصنوفا من التعذيب من أيدي الجلادين،
صورة المرأة التي عرفت معنى الكاشو والشيفون والطيارة وجميع أشكال التعذيب، التي جادت به قريحة الجلادين. وإن الاحتفال بهذا الوجه النسائي النضالي في هذه المحطة الأممية هو التذكير بالدور الأنثوي في سنوات الرصاص، المرأة التي وقفت إلى جانب الرجل، في هذه المحطة النضالية.
أيها الحضور الكريم:
أحملكم إلى لحظة حرجة من لحظات 1973 الأسود. وليست هذه المحطة إعادة الآم الآخرين ولكن للحفاظ على ذاكرتنا المحلية. سأحملكم إلى هذه اللحظة حين حاصرت قوات الدرك بعد منتصف الليل منزل أحد قادة كومندو 1973 والمعروف باسم موحى والحاج أمحزون. هذا الشخص كان كما قلت، أحد قادة الكوموندو الانتفاضة المعروفة بانتفاضة الأطلس وكان أحد القياديين الذين قادوا هذه الانتفاضة. أُخذت في هذه اللحظة الزوجة، وهي أم لرضيع لم يتجاوز الأشهر الأربعة الأولى من حياته، ومع ابنين لزوجها محمد وحسن إلى مولاي بوعزة. بينما رحل الزوج عبر طائرة الهيليكوبتر إلى مكان مجهول ومنذ تلك اللحظة ستبدأ معاناة هذه الأسرة ومعاناة هذه المرأة وهي حاضرة معنا في هذا الحفل. إنها السعدية سلاك أقول أمينة سلاك «عفوا» زوجة موحى والحاج أمحزون. مكثت هذه الزوجة عشرة أيام بمولاي بوعزة. نالت خلالها أشكالا من التنكيل والتعذيب الجسدي والنفسي دون الوقوف على تفاصيلها. وبعد ذلك رحلت إلى خنيفرة ومكثت أربعة أشهر تحت الحراسة في مخفر الدرك، وكانت قد فصلت عن رضيعها. عادت الأم الزوجة لتجد أبناءها وأسرتها وممتلكاتها قد عبثت بها أيد خفية، ولم تجد شيئا غير أسرة مدمرة ومحطمة. إننا أمام امرأة تجسد معاناة سنوات الرصاص شأنها في ذلك شأن نساء أخريات أمثال فاضمة ويخلف، فاضمة أمزيان، يطو أمزيان، عيدة بويقبة، فاضمة بويقبة، فاضمة عسيل وغيرهن كثير.
فتحية نضالية لهذه الوجوه النسائية.
تحية نضالية وحقوقية مرة أخرى لكل هؤلاء النساء دون أن ننسى يطو قسو وفا طمة تاوعيجات اللتين احتفي بهما بعيدنا الأممي في عهد البصري بتصليع رأسيهما عقابا لهما على عدم الامتثال لأوامر أحد بشاوات المنطقة. استقبلوا معي جميعا أمينة سلاك زوجة موحى والحاج أمحزون «بالتصفيقات».
وإن للمرأة بالجبل معاناة مضاعفة فإن لم تعذب هي نفسها سيعذبها زوجها المعتقل أو ابنها أو قريبها. ذلك ما تحمله الذاكرة في سنوات الرصاص، وبالضبط في شهر مارس من العام 1973.
تعذيب النساء مشاهد تشهد عنها جبال الريف والأطلس المتوسط والأطلس الكبير، إملشيل، والأطلس الصغير، أكدز. مشاهد تسجل إشكالية حقوق الإنسان في الشق المتصل بالمرأة والطفل يوم أمس. وتمتد الانتهاكات يومه لتتجسد في الصحة والتعليم وتمدرس الفتيات وزواج القاصرات. ولعل موت النساء الحوامل يؤثر على مؤشر التزام المغرب بمبادئ الألفية الإنمائية والمتصلة بالصحة الإنجابية أو النفاسة. وإن لموت النساء صلة بالشبكة الطرقية وندرة المستوصفات وقلة الأطر الطبية.
ولم يغب ذكر المرأة في مجال المزارات الجبلية، «لالة زنو» بقصر غزوان بتالسينت، وغير بعيد عنها «لالة تالحمامت»، و«ما لهو تفقيرت» بامسمرير و«لالة عيشة» بأوتربات، و«لالة تافغولت» ببوزمو. وفضلا عن ذلك كله نصادف طوبونيميا بصيغة المؤنث في الجبال، جبل «لالة عربية» و«لالة ولية» بمحيط التجمع القروي تديغوست بحوض غريس وكلاهما يطل على مقبرة. وللمزار المؤنث «إما حكا علي» صخرة «تيسلي ن إما حكا» علي بفج «أمسد». وهناك ضريح «لالة تيزليت» بين منحدر «تشماموت» و«أفود نصالح».
ولئن أنشأ الوضع يتغير تدريجيا في المغرب حيث حصل في شأن إعمال حقوق النساء المدنية والسياسية مجموعة من المكتسبات، وذلك في إطار مسار ترسيخ دولة الحق والقانون الذي سلكته الدولة المغربية خلال العقدين الأخيرين؛ ولئن جرى إنجاز مجموعة من الإصلاحات الكبرى خصوصا تعديل قانون الحريات العامة، وقانون الانتخابات ومدونة الأسرة وقانون الجنسية، وانكب المغرب خلال العقد الأخير على معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة في الماضي، فإن المرأة بالوسط الجبلي بعيدة عن هذه الإصلاحات.