![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
مظهر محمد صالح
!--a>
2025 / 6 / 13
أ
في ظهيرة خريف ساكن ،كان لقائنا برئيسة صندوق النقد الدولي يومها في مبنى تلك المؤسسة المالية الدولية المتعددة الأطراف وهو اجتماع جمع بين الروتينية والجدية في استعراض علاقات بلادنا ببرامج الصندوق الصعبة والمعقدة، منذ سنوات مضت ، وانتهى الاجتماع بدعوة عابرة للاطلاع على قاعة المجلس التنفيذي للصندوق ، وهو مكان يحمل الكثير من الهيبة والرمزية ومصنع القرارات المالية والنقدية الدولية وسررنا بما شاهدنا من معالم ضمت المكان نفسه .
وبين همس اعضاء الوفد عن الصور التاريخية لتلك القاعة التي ضمت شخصيات صنع القرار على مر العقود منذ انعقاد اتفاقية صندوق النقد الدولي في بريتون وودز في العام 1945 … تنفس محدثنا الصعداء حينها بابتسامة عريضة ليخبرنا بان واحدة من اهم الزيارات التي ضمت هذا المكان كانت زيارة في السنة الفائتة لرياض الاطفال في مقاطعة العاصمة واشنطن ، حيث كانت استضافتهم وتعريفهم في مشهد فريد جمع الطرافة بالرمزية العميقة، حين استضاف صندوق النقد الدولي في مقره الرئيس هنا مجموعة من تلامذة رياض الأطفال من مدارس واشنطن ، في زيارة غير اعتيادية لمقر الذي يُعرف عالميًا بكونه أحد أعمدة القرار الاقتصادي العالمي. والطريف بالزيارة هي
لأقامة دعوة رسمية على شرفهم ، حين قُدم للاطفال مختلف انواع الايس كريم … وبين السكون ودهشة الاستماع والرجل التكنوقراط يسرد لنا التفاصيل كيف انتهى الاطفال الى زيارة قاعة اجتماعات المجلس التنفيذي للصندوق التي انتم فيها ايها الرجال من بلاد الرافدين ، يوم دار النقاش بين اولئك الاطفال عن نوع المرطبات المذكورة ومذاقها واختلافها عما هم معتادون تناولها في حياتهم اليومية واي النوع كان الافضل … واخيرا انتهى النقاش بالتصويت عن افضل انواع الايس كريم الذي تم تقديمه.
وبينما كان محدثنا يتكلم وانا استعرض بنفسي سفراتي المدرسية في القرن الماضي وكيف كانت تكسبنا السعادة والثراء الاجتماعي والنفسي خارج ضغوط الفصول المدرسية ، وكيف كانت والدتي تزودني بكيس بسيط يضم الطعام الجاهز لكي اسعد باكثر من سفرة مدرسية الى بابل او سدة الصدور وغيرها ، ظل الرجل يسرد في حديثه ويكرر ، بان الذي انتم فيه هو ليس بالمكان العادي انها قاعة المجلس التنفيذي للصندوق، وهي القاعة التي شهدت قرارات تاريخية أثرت في مصائر دول وشعوب واقتصادات.
وتحت جدرانه صور فوتوغرافية متسلسلة لمدراء الصندوق منذ إنشائه في العام 1945، حيث جلس اولئك الاطفال من العاصمة واشنطن
لا ليقرروا بشأن ديون سيادية أو إصلاحات مالية، بل ليناقشوا بكل حيوية وفضول أنواع الآيس كريم المقدمة لهم في زيارتهم تلك ..!
ثم توجهنا نحن الكبار بالسؤال الى محدثنا عن مغزى قيام الصندوق بمثل هذه النشاطات المدرسية الجميلة …وتبسم وهو شديد الراحة والطمأنينة في سرديات الحدث الذي محوره ضيافة الصندوق في تقديم قطع
الايس كريم واشهار الود بين الصندوق واطفال العاصمة ليبلغنا برسالة انها كانت من اشد المشاركات وضوحاً وقناعةً
قائلاً: هنا، تتجلى قوة الفكرة التربوية بتحويل فضاء القرار الرسمي إلى مختبر صغير لتجربة حس المواطنة، والنقاش، واحترام الرأي المختلف، والاختيار الحر . انها ليست المسألة في نكهة الآيس كريم بحد ذاتها، بل في آلية اتخاذ القرار الجماعي، وحرية التعبير عن الرأي، والقبول بنتائج التصويت . وليقول لنا انها رسالة في التربية المؤسسية التي تبدأ من الطفولة وانها التجربة التي تعكس بلا شك فلسفة تربوية عميقة تُمارَس لا تعتمد على التلقين، بل على التعريض المبكر للأطفال للمؤسسات والرموز العامة. فحين يجلس الطفل في قاعة رسمية، يتشرب الطفل دون وعي بمعنى “المكان”، و”القرار”، و”التاريخ”، لتتكوّن لديه حساسية مبكرة تجاه الفضاء العام، ويتعلّم من خلال التجربة المباشرة لا من خلال الموعظة. انها حقا قاعة المجلس التنفيذي التي طالما اتُّخذت فيها قرارات غيرت مصائر شعوب، تتحول إلى ساحة نقاش طفولي بريء، يرسّخ في ذهن الطفل – دون تلقين – معنى المكان العام، وأهمية القرار، وجوهر الحوكمة
قلت في سري من هنا يبدأ الاستثمار في البشر ، فزيارة كهذه، ولو بدت بسيطة، فهي شكل من اشكال الاستثمار في راس المال البشري طويل الأمد. فصندوق النقد الدولي – المعروف عادة بصورته الصلبة كجهة فنية تراقب وتوصي وتضغط – يقدّم هنا وجهًا آخر كمؤسسة تهتم بجيل المستقبل، وتسعى لغرس مفاهيم المشاركة والحوكمة منذ سن مبكرة.
طوينا اخيرا ارجلنا صوب مكان اقامتنا في الفندق المخصص لنا في العاصمة واشنطن واستلقيت على فراشي وانا افكر ان (الآيس كريم ) لم يكن الهدف ، بل وسيلة تربوية ذكية ، والأطفال ليسوا زائرين عابرين، بل مواطنون صغار يُؤهلون لعالم معقد ومفتوح. كما ان الدهشة التي صاحبت سماع تفاصيل هذه التجربة كانت نابعة من الفجوة بين ما هو متاح هناك، وما نفتقده في مجتمعاتنا. فليس المطلوب أن نجعل كل طفل في بلادي ان يجلس في قاعة وزارية، لكن من الضروري أن نفكر
كيف نبني الروح المؤسسية لدى اطفال بلادي …!
كيف ندرّبهم على الحوار والنقاش وقبول الرأي الآخر…!
كيف نمنحهم الشعور بالانتماء إلى الفضاء العام، منذ نعومة أظافرهم . فأطفال اليوم، هم رجال الغد….!!إنها حقيقة تربوية ،وتجربة الصندوق مع أطفال الايس كريم رغم بساطتها الظاهرة قد تكون انموذجًا يُحتذى به في إعادة التفكير بتربية الأجيال على روح الانتماء و الحوار والقرار…انه مسار طويل في عالم طفولة رقمي بات اليوم كل شي فيه مختلف.