![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
محمد بسام العمري
!--a>
2025 / 9 / 4
جلس الحاج مراد على شرفته العتيقة، تلك الشرفة التي تشهد على عقودٍ من الصمت والانتظار. كان الغروب يتسلل بخيوطه الذهبية عبر الأفق، يُضيء السماء بلونٍ برتقالي ناعم، وكأنه يُنهي يومًا آخر من أيام الحاج مراد الثقيلة، التي تراكمت كالأيام التي سبقته. تأمل الحاج مراد المشهد أمامه بعيونٍ لم تعد تلمع كما كانت في شبابه، وكأن روحه قد ذابت مع السنوات، تاركة خلفها جسدًا بات يحمل أثقالًا لا تُرى، لكن تُحس. لطالما كان الحاج مراد رجلاً نبيلاً، هادئًا مثل البحر في ليلة ساكنة. عاش حياته وكأنها لوحة رسمها الآخرون بألوانهم، دون أن يمنح نفسه فرصة الإمساك بفرشاة أحلامه الخاصة. كان همه الوحيد أن يرضي الجميع، بدءًا من عائلته، وانتهاءً برؤسائه في العمل. عاش يلبس قناع المثالية، خائفًا من نظرات الناس وأحكامهم، وكأنه تائه في غابة توقعاتهم، يضيع بين أشجارها الكثيفة. لكنه لم يدرك أن تلك الغابة تسرق منه عمره ورغباته التي دفنها تحت طبقات من الصمت. في كل مرة كان يقف عند مفترق طريق، كان يُلقي نظرة سريعة إلى نفسه في مرآة روحه، لكنه سرعان ما يُدير وجهه ويختار الطريق الذي يرضي الآخرين. حلم يومًا بأن يكون كاتبًا، أن يجول في عوالم الخيال والحقيقة، أن يُسكب روحه على الورق ويتركها تنمو كزهرة برية. لكن توقعات المجتمع كانت كالسياط التي تُجلد بها أحلامه، تُجبره على السير في طريقٍ لم يختره قلبه. كانت تلك اللحظات التي سبقت الغروب تُحاكي غروب روحه. شعر الحاج مراد وكأن الزمن كان يسرق منه كل شيء، وكأن الرياح قد حملت سنواته بعيدًا، تذروها بعيدًا في الأفق البعيد. تمنى لو كان يمتلك الشجاعة ليقف مرة واحدة في وجه الحياة، ليصرخ "لا" في وجه العالم، لكنه كان دومًا ذلك الشخص الذي يُفضل الصمت، حتى لا يكسر موجة الاستقرار الزائف. في أحد الأيام، وبينما كان في مكتبه العتيق، اقترب منه زميل قديم وسأله سؤالاً كان كافياً ليوقظ داخله كل تلك الأحاسيس المكبوتة. قال له بصوتٍ هادئ: "كنت دائمًا مثالاً يُحتذى به، لكن هل كنت سعيدًا؟" كانت تلك الكلمات كصفعة هادئة أيقظت فيه جروحًا قديمة، جروحًا لم يكن يعلم حتى بوجودها. في تلك اللحظة، شعر مراد بأن عمره كان كزهرة لم تتفتح قط، زهرة عاشت حياتها كلها تنتظر الربيع الذي لم يأتِ. عاد إلى منزله تلك الليلة، وجلس على شرفته المعتادة، لكن هذه المرة كانت هناك دمعة صامتة تلمع في عينيه، دمعة تختصر سنواتٍ من القمع الذاتي. نظر إلى السماء، وكأن النجوم تعاتبه على الأحلام التي تركها خلفه، على السنوات التي انقضت دون أن يكتب فصلًا واحدًا من حياته بيده. ولكن، رغم الغروب الذي خيم على أيامه، كان هناك شعاع أمل صغير، يُضيء داخله برفق. أدرك الحاج مراد أن الأوان لم يفت بعد. بدأ يكتب، ليس لأحد، بل لنفسه. كانت كلماته كالعصافير التي تطير بحرية لأول مرة بعد أن كانت حبيسة قفصٍ ذهبي. ووجد في الكتابة ملاذًا لروحه التي تمردت أخيرًا على القوالب التي وضعت فيها. كانت الأوراق أمامه أشبه بحقلٍ أبيض، يزرع فيه كلماته كأزهار الربيع. شعر وكأن الوقت قد توقف، وكأن السنين التي مرت دون أن يشعر بها عادت إليه مع كل كلمة يكتبها. لم يكن يكتب ليمجد نفسه، بل ليفهم ذاته، ليمسح غبار السنوات التي غطت روحه. قد لا يعود الزمن إلى الوراء، لكن الحاج مراد أدرك أن اللحظة التي يعيشها الآن هي فرصة جديدة، أن الحياة ليست ما مر وانقضى، بل ما يقرر أن يكتبه الآن.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|