الثورات العربية و- الربيع الجنسي - !!!

عامر صالح
amer_salih@hotmail.com

2011 / 10 / 14

" الحب استمرارية ونقاء, والكراهية موت وشقاء "
جون كيتس

الثورات العربية تجري اليوم ليست بغطاء إيديولوجي كما هي العادة الجارية في اغلب ثورات التاريخ, بل تحدث على نسق الثورات الصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية, التي تؤطرها الحاجة الماسة إلى آخر المكتشفات العلمية والمعلوماتية لأغراض البقاء وتحسين ظروف العيش والرقي به إلى مدايات أوسع, فالثورات العربية بطبيعتها العاتية والحشدية ومن كلا الجنسين منزوعة الصلة عن كل إيديولوجية سياسية, وهو خروج عن المألوف في عرف الثورات السياسية, مما يجعل منها متأثرة بشكل كبير بالعوامل الكونية, أكثر من تأثرها بعوامل تقليدية, كضرورة وجود الحزب الطليعي القائد, وتوقيت ساعة الصفر, ووجود الشعارات المركزية الموجه للأفعال, وإنما تستند إلى منطق الفعل وردته الآنية في الكتل الجماهيرية, إلى جانب طبعا عدم إغفال اختمار العوامل الموضوعية للثورة وانطلاق شرارتها على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها !!!.

والتجربة التاريخية تؤكد لنا أن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية أكثر بقاء ورسوخا وعمقا من الثورات السياسية التي قامت على وحدانية التفكير والأدلجة, والتي انهارت في لحظات على خلفية ثورات شعبية لا تمتلك طابعا إيديولوجيا محددا, بل يحركها عوامل البقاء والعيش نحو الأفضل, في وقت فقدت فيه الثورات الإيديولوجية عوامل بقائها وتآكل رجالاتها على خلفية الانفراد في الحكم والتسلط فيه والذي تؤكده الشواهد الحاضرة على النظم العربية. وإذا كانت الثورات العربية هي نتاجا لثورة الأعلام والمعلومات المتمثلة بالانترنيت, فالانترنيت الآن هو ذروة الثورة التكنولوجية التي عرفتها البشرية لحد الآن, فهي تغلب العلاقات والحدود المعروفة لحد الآن. أنها نمط كينونة كامل ومتكامل, فهي تغير علاقتنا بالأشياء وبالجنس الآخر, تغير سلوكنا وذهنيتنا, ومفهومنا للزمان والمكان والواقع وللعلاقة, تغير معنى المعرفة, ومعنى العمل, ومعنى العيش ومعنى الشريك ومعنى المعنى ذاته, على نسق ممارسة نقد النقد بجرأة كاملة !!!!.

وبقدر ما يجري الحديث عن ظروف وأسباب الثورات العربية اليوم وتأثرها بعوامل خارجية كونية وأخرى داخلية موضوعية, فأن الحديث عن قدرتها على الاستمرارية كبديل يستجيب لحاجات الناس اليومية ورغباتهم ودوافعهم, سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو حضارية, ويدعم حرياتهم الفردية والجماعية ويضمن حقوقهم, هو الآن الهاجس الذي لا يتوقف لدى الجميع الذين تهمهم مصلحة انتقال الثورة من سلوك حشدي خالص إلى سلوك طليعي متقدم. ومن هنا تأتي أهمية الأفكار والإيديولوجيات والنخب الممثلة لها في صياغة مشروع المستقبل على خلفية تنافسها السلمي باعتبارها الضامن أيضا لانتقال الثورة من ثورة سياسية تستهدف إسقاط نظام ما إلى ثورة شاملة في كل ميادين الحياة المختلفة, الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية وغيرها, لأن الأفكار والإيديولوجيات ونخبها الطليعية وان كانت غير لازمة لاندلاع هذه الثورات مؤقتا اليوم, فهي تشكل لاحقا البيئة الوحيدة الملائمة لنجاح الثورات واستمرارها وعدم انتكاسها, وتلك تجارب الثورات الديمقراطية في التاريخ !!!!.

وتشكل أفكار العدالة الاجتماعية والديمقراطية بما تحمله من مساواة بين الناس, وبين الجنسين بشكل خاص من أكثر الأفكار جاذبية لخيارات العقل الإنساني, بما يضمنه من مساواة في فرص العمل والمشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية لكلا الجنسين, وخاصة في مجتمعات فيها الغلبة لنسبة الاناث في التركيبة السكانية إن لم تكن متساوية أو متقاربة, بل أن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وشبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتوتير وغيرها, وكل مؤطرات مجتمع المعرفة لا تنمو إلا في بيئة سياسية واجتماعية مبنية على الديمقراطية والعدالة والمساواة وإقحام الجماهير بالتساوي في عملية اتخاذ القرار والمشاركة السياسة الفعالة, والتحفيز الفعال للمنهج النقدي الذي يثير الشك في المسلمات الموجودة ويحث على مراجعتها وإعادة النظر فيها, ومن أبرزها في حديثنا هذا هو الموقف من المرأة ومكانتها ودورها في الحاضر والمستقبل ومدى مساهمتها في صنع الحياة العامة وحياتها الخاصة !!!!!.

وفي خضم التحولات الجارية كان للمرأة العربية حضورا استثنائيا في الربيع العربي رغم انعدام الإيديولوجيات التي توحد كلا الجنسين, قياسا بحالة انكفائها في مناسبات ثورية سابقة, وقد كان ذلك واضحا في تونس ومصر واليمن وليبيا, فقد نزلت المرأة العربية إلى الشارع بعنفوانها إلى جانب الثوار الشباب وخاصة في الأسابيع والأشهر الأولى للثورات, بعيدا عن المضايقات والتحرشات الجنسية التي تشكل سلوكيات شائعة في تلك المجتمعات, وكذلك في المجتمعات التي لم تشهد ثورة بعد, كالمجتمعات الخليجية المعبئة بمختلف مظاهر الانحرافات والتحرشات الجنسية. وكان هذا الإحساس الايجابي المرافق لنزول كلا الجنسين إلى ساحات الثورة تؤطره المشاعر الايجابية للمواطنة في اللحظات الحاسمة من مصير هذه البلدان وآفاق مستقبلها !!!!.

وهذه السلوكيات الايجابية البعيدة عن المضايقات الجنسية للفتيات هي عكس ما كانت تجري عليه العادة في المناسبات العامة في هذه المجتمعات, كالمناسبات الدينية من أعياد أو ممارسة طقوس ومراسيم دينية ذات طابع حشدي على نطاق واسع, وكذلك في المناسبات والأعياد الوطنية والرسمية والحكومية التقليدية, حيث كان يستخدمها الكثير من الشباب والفتيان وحتى المسئولين فرصا مواتية لممارسة التحرش الجنسي دون رغبة الطرف الآخر في اغلب الأحيان, والتي تشمل لمس الجسد أو الكلام أو المكالمات التلفونية أو المجاملات غير البريئة, أو استخدام الصور الجنسية, النكات أو القصص الجنسية التي تحمل أكثر من معنى, وانتهاء بأكثر أشكال التحرش عنفا كالهجوم على سيدة أو فتات ولمس جسدها بطريقة استفزازية واستخدام العبارات القبيحة وغيرها من وسائل التعرض البذيء, وغالبية هذه الأفعال المرفوضة تصدر من الجنس الذكر والمبني على الإحساس بموقع القوة بالنسبة للأنثى !!!.

لقد أعطى الزخم الايجابي لمشاركة كلا الجنسين في بداية الثورات العربية انطباعا أوليا مطمئنا عن مستقبل مساهمة كلا الجنسين في عمليات التغير الجارية, انطلاقا من أن الأهداف الإنسانية العامة المتوقعة لابد أن ترافقها وتنتج عنها ممارسات وأساليب إنسانية نزيهة ومهذبة ترتقي إلى مستوى الأهداف, إيمانا من قدرة كلا الجنسين على التغير وموائمة الأهداف. ولكن للأسف فأن هذا التلاحم بين الجنسين ومظاهر ظهوره الايجابية بدأت تختفي بعد أسابيع من بدأ الثورات تحت وطأة تأثيرات الأفكار المتشددة والمتطرفة الدينية منها والإيديولوجية والعصبية والقبلية في محاولة لعزل أو تقنين دور المرأة في المساهمة الثورية, من خلال فرض شروط على طريقة ظهورها كعزلها في أمكنة محددة لظهور في مناطق معزولة عن الرجال, أو منعها أصلا من الظهور من خلال فتاوى المنع والردع المعروفة, ويمثل هذا الموقف عودة إلى ذات الخطاب المتشدد والمتخلف الذي يصور المرأة جسدا مدنس مسكون بالغواية والإغراء ويجب إخفاءه أو عزله بعيدا عن الأنظار ومنعه من التميز والإبداع, ومن جانب آخر يشكل هذا الضغط على حرف مسار مساهمة المرأة, كجزء من الضغط العام الذي تتعرض له الثورات العربية من ذات الأفكار المتشددة لحرف مسارها وتفريغها من محتواها وجعلها تراوح في المكان دون نتائج ايجابية, إن لم تدفع بها نحو الانتكاسة !!!!!.

وقد أدى إحجام دور المرأة في المساهمة الثورية المباشرة في الأحداث الجارية إلى أن تبقى مضطرة عند حدود مساهمتها الفعالة غير المباشرة عبر الانترنيت والفيسبوك والتوتير وغيرها, تلعب دورا تحريضيا كبيرا في نشر مختلف الخطابات السياسية والاجتماعية والدعوة إلى الحوارات البناءة والداعية في محتواها إلى التمسك بقيم العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية, وتجنب أعمال العنف والاحتراب الديني والمذهبي والطائفي والعرقي وتعزيز ثقافة التسامح الاجتماعي, وإبعاد الفكر المتشدد من دائرة الفعل والتأثير المباشر على مسار الثورة. ومع هذا لم تنجو المرأة من التهديد والوعيد عبر صفحات الانترنيت وسرقة كلمات السر للفيسبوك والاميل وإرسال الفيروسات عبر عنوانين وموضوعات ايجابية موهومة, تؤدي عند فتحها إلى تلوث جهاز الكومبيوتر أو حرقه, بل وصل الحد إلى إعادة تركيب صور ولقطات جنسية مزورة وملبسة لناشطات على الفيسبوك و نشرها, في محاولة لابتزازهن وتعطيل مشاركتهن في الحياة السياسية , وهي سلوكيات تستهدف شل الإرادة النسائية لرسم ملامح المستقبل في إقامة مجتمع المساواة والعدالة بين الجنسين !!!!.

فهل تستطيع الثورات العربية الإتيان " بربيع جنسي " كجزء من ثورة اجتماعية شاملة ذات مضامين ايجابية في القيم والاتجاهات السلوكية والثقافية ومنسجمة مع الذات أولا ومع الآخر, بعيدا عن النفاق وازدواجية الأخلاق بين فكر متشدد وبين " انفتاح " في الخفاء, بين الدعوة إلى الكبت والحرمان وكثرة المحرمات وبين الهوس والاندفاع اللامعقول في إشباع الرغبات, بين الدعوة إلى مشاركة الرجل في الحياة الاجتماعية وبين وضع جدار العزل بينهما, بين الدعوة إلى مشاركة المرأة في الحياة وبين ضوابط قصريه عندما تصطدم بالسلطة الذكورية السائدة, بين دعوة المرأة إلى العمل والتعليم وبين ممارسة قمعها في البيت والبيئة المحيطة والتحكم في حياتها الشخصية والعامة, بين الدعوة إلى تعليمها وبين الحد في مواصلته دراستها بما يتناسب مع طموحاتها, بين الدعوة إلى مساهمتها في الحياة السياسية وبين وضع سقف مانع لذلك بحجة تعارضه مع الكتاب المقدس والتقاليد, بين دعوتها لإسقاط النظم الدكتاتورية ووضع العراقيل أمام طبيعة نشاطها وحركتها في هذه الدعوة, بين حريتها في الانتخابات وبين لمن تمنح صوتها لاحقا, وتطول قائمة الصراع بين الممنوع والمسموح أو كما يقال في علم النفس بين الإقدام والإحجام بما يضع المرأة في دائرة القلق والصراع المستديم مما يعرقل تبوئها مكانتها كإنسان كامل الحقوق !!!.

أن " الربيع الجنسي" العربي ليست كما يراه دعاة الفكر التسلطي ألذكوري والمتشدد, بأنه " ثورة جنسية " على نسق الثورة الجنسية التي حصلت في أوربا وأمريكا في مطلع الستينات والسبعينيات متأثرة بمجمل ما حصل من تطورات صناعية وعلمية واقتصادية وسياسية وإعلامية ودينية, وكذلك متأثرة ببعض من أفكار مدرسة التحليل النفسي الفرويدي, وبشكل خاص بأحد أقطابها الممثل للاتجاه اليساري في الفرويدية وهو العالم " ويلهيلم رايخ المتوفى عام 1957 " وفي ابرز كتابين له, هو" الثورة الجنسية " والذي سميت الثورة باسمه, وكتاب " الكفاح الجنسي للشباب ". وحسب "رايخ " فان الأخلاق ذات الوجهين وكبت الفطرة الجنسية تأتي بتشوهات في الشخصية, وتفضي إلى العدوان والانفلات واللذان تقع إزاحتهما مما يجعلهما يتجليان في حب السلطان والهرمية. ووفقا لذلك فان تحرير الأخلاق الجنسية سيؤدي إلى تحول سلمي للبنية الاجتماعية, أي بمعنى آخر أن الإنسان الذي يعيش في علاقات مشبعة لن يمكن تقييده في نظم حكم ولا تعبئته لأعمال عنفيه. وعلى العموم فان المؤيدين " للثورة الجنسية " يعتقدون أن هذه الثورة كتحرك سياسي اجتماعي لا يعني إن الناس أخذوا يمارسون الجنس أكثر من قبل, بل ببساطة أنهم أصبحوا يتحدثون عنه بحرية أكثر من الأجيال السابقة !!!!.

" الربيع الجنسي" العربي هو فصل من فصول الثورة الاجتماعية التي تعقب الثورة السياسية, ويأتي متأخر نسبيا عن الأخيرة باعتباره جزء من البناءات الفوقية, ولكن التأسيس لمسلماته القانونية والتشريعية والدستورية تأتي متزامنة مع التحول من الثورة إلى مرحلة إعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والتي تقوم أصلا على تنافس مختلف الإيديولوجيات والأفكار السياسية والدينية, ويعتبر خيار الوسط الإيديولوجي والديني هو الضامن لحقوق المرأة العربية ومساهمتها الفعالة في مختلف مناحي الحياة الشخصية والعامة, وان نجاح انتزاع حقوقها العادلة والمشروعة هو دليل على نجاح الثورات العربية, فلا ديمقراطية ولا عدالة بدون مساهمة كاملة للمرأة, بل أن مساهمتها هو دليل على صحة العلاقة بين ثالوث " الجنس ـ الدين ـ السياسة ", أما بالنسبة لعلاقتها بالجنس الآخر فهو مشروع تربوي وثقافي يستند إلى سياسة عقلانية, قوامها التسامح والتعاطف والثقة بين كلا الجنسين وفي كل مجالات الحياة, وتوسيع دائرة الاهتمام لكلا الجنسين كي تتجاوز حدود الحاجات الجنسية المباشرة في مختلف الأعمار المختلفة, لأن الغرائز الجنسية بقدر ما هي ملحة فهي متسامية وبالإمكان تحويل الطاقات الجنسية التي لا يمكن إشباعها بدون صعوبات اجتماعية, نحو هدف ثقافي, واجتماعي, واقتصادي, وفني ومجالات أخرى إبداعية. فهل تستطيع الثورات العربية تحقيق ذلك !!!!.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة