الأحوال الشخصية وقانون -ع-

سليم صفي الدين
selim.safieldin@gmail.com

2018 / 7 / 26

خروقات القانون لا أول لها ولا آخر، أحيانا أشعر أن أساس وضع القانون فى مصر هو الابتكار فى كيفية التلاعب به، والالتفاف حوله، ونزع حقوق الآخرين بالباطل! أتذكر قصة حكاها لى أبى وأنا صغير، ليعلمنى أن الفساد سيعود فى النهاية بالضرر على الجميع، حتى المُفسد الذى يظنُ أن الضرر بعيد عنه بما أنه مستفيد ومحصّن مما يفعل. قال: ذهب شاب إلى رجل كبير وقال له: "محتاج فلوس"، فرد الرجل: "خد من الخزينة"، أخذ الشاب المال، وعاد بعد فترة ليرد ما عليه من دين، فقال له صاحب المال: "ضعه فى الخزينة"، تكرر هذا الأمر كثيرا، حتى جاء يوم ولم يضع فيه الشاب المال فى الخزينة، بل طمع فيه وأخذه لنفسه، وعندما احتاج للمال ذهب كعادته للرجل، ودخل للخزينة فلم يجد مالا!

هذا بالضبط ما حدث مع "ع" التى تزوجت فى إحدى القرى التابعة لمركز ومدينة العياط، والتى لا أعرف سنها بالتحديد، غير أنها تزوجت دون السن القانونية، من "ن" الذى يبلغ من العمر 18 سنة، وبما أن القانون المصرى ينص على عدم تزويج الفتيات أقل من 18 سنة، كعادة القرى والنجوع فى محيط مدينة العياط، بل فى كثير من أنحاء الجمهورية، يكتبون عقد الزواج بحضور المأذون، وفى المسجد من أجل الإشهار، وتقام الأفراح والليالى الملاح حتى تبلغ الفتاة السن القانونية، وعليه يقوم المأذون بتسجيل عقد الزواج بشكل رسمى فى المحكمة!
هذا التحايل السافر أسفر عن كثير من المصائب التى لا حصر له، وبكل تأكيد الضحية الأولى والأخيرة هى الزوجة التى لم تبلغ السن القانونية، ويا ويلها لو ابتلتها الأيام بطفل! لا حق لها ولا لنجلها، وكما قال السادات "كله بالقانون"! فقانون الأسرة رغم أنه حدد سن الزواج بألا يقل عن 18 سنة، لم يحدد عقوبة على المتورط فى زواج القاصر، ولم ينص القانون أصلا على تجريم هذا الفعل! ولكن أشير هنا إلى أن مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد الذى تجرى مناقشته حاليا فى البرلمان يجرم زواج القاصر، ويعاقب كل من تورط فى هذا النوع من الزواج بالسجن المشدد 7 سنوات، وهو ما يعد نقلة حقيقة نحو الردع.

فــ"ع" فى نظر القانون طفلة، وهو ما أكده نص قانون الأسرة فى المادة الثانية منه: "يقصد بالطفل فى مجال الرعاية المنصوص عليها فى هذا القانون كل من لم يتجاوز سن 18 سنة ميلادية كاملة، وتثبت السن بموجب شهادة الميلاد أو بطاقة الرقم القومى أو أى مستند رسمى آخر..." إلى آخره.


وبما أن المادة 33/1 منها (المضافة بقرار وزير العدل فى 24/5/1956) تنص على أن "سن الزوجة 16 سنة وسن الزوج 18 سنة وقت العقد"، فإن محكمة الأسرة لا تعترف بعقد كانت الزوجة وقت تدوينه أقل من 16 سنة والزوج أقل من 18 سنة، وهو ما أكده القانون رقم 1 لسنة 2000 بتنظيم بعض أوضاع التقاضى فى مسائل الأحوال الشخصية، فى المادة رقم 17 منه والتى تنص على أنه: "لا تقبل الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج إذا كانت سن الزوجة تقل عن 16 سنة ميلادية أو كان سن الزوج يقل عن 18 سنة ميلادية وقت رفع الدعوى، ولا تقبل عند الإنكار الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج، ما لم يكن الزواج ثابتا بوثيقة رسمية، ومع ذلك تقبل دعوى التطليق أو الفسخ بحسب الأحوال دون غيرهما إذا كان الزواج ثابتا بأية كتابة".


غير أن القانون 143 لسنة 1994 بشأن الأحوال المدنية مادة (31 مكرر) والمضافة عام 2008، نص على أنه: "يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين 18 سنة ميلادية كاملة، ويعاقب تأديبيا كل من وثق زواجا بالمخالفة لأحكام هذه المادة".


وبما أن "ع" لم تبلغ السن القانونية، سجل المأذون العقد عرفيا، حتى تبلغ 18 سنة، وبعدها يتم تدوين العقد بشكل رسمى، إلا أن الأقدار ساقت هذه الفتاة إلى ما لا تُحمد عقباه، فقد اكتشفت أنها حامل بطفل بعدما ألقى عليها زوجها "ن" يمين الطلاق، وباءت كل محاولات أهل الخير للإصلاح بينهما بالفشل، وبعدما وضعت "ع" ولدها "م" أرسله أهلها إلى أبيه من أجل أن يحسم نسب الولد إليه من عدمه.


الأم دون السن بكثير، والتسجيل قد يضر بالمأذون الصديق، ففكر والد الزوج "ن" جد الطفل "م" أن يسجله باسمه، ليتحول الطفل من ابن لـ"ن" إلى أخ له أمام الدولة! لا أعلم ماذا كان يدور في خاطر الجد وقتها، ومن طرح عليه هذا الاقتراح العجيب.. مرت الأيام وكبر الطفل وكل أهل القرية يعلمون إلى من ينسب الطفل أبا وأما، لكن الدولة لا تعترف بغير المستندات، والطفل لا يعرف له أبا ولا أما غير جده، وجدته التى لم يرها؛ فقد ماتت قبل أن يولد!


جاء اليوم الذى لم يكن فى حسبان الجميع، مات الجد وعليه أصبح الطفل "م" وريثا شرعيا مثله مثل أبيه "ن" وباقى الأعمام؛ وكان الجد يمتلك الكثير من الأموال والأراضى، وليس ثمة استعداد لدى أحد من الورثة للتفريط فى جنيه واحد أو شبر من قطعة أرض!
الزوجة -بالأحرى الطفلة- "ع" لم تتزوج، فمن فى "قرية" يستطيع الزواج بفتاة لم تتزوج رسميا، ولها طفل غير منسوب لها! ونجلها لا يعرف عنها شيئًا، والزوج وقف فى صف ابنه الذى لم يستوعب ما يحدث في ظل سنه الصغيرة! فوقف جميع إخوة "ن" أمامه وأمام نجله "م" المنسوب رسميا إلى أبيهم من أجل الإرث! وحتى الآن لم يرث أحد نظرا لكثرة القضايا، والأم ثكلى بلا ابن ولا زوج، والزوج كره كل شىء من أجل تأخير الميراث حتى يتسنى له الزواج مرةً أخرى، والطفل بين كل هذا لا حول له ولا قوة!

بصيص الأمل قد يصبح طاقة نور، فى حال موافقة البرلمان المصري على مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد سالف الذكر.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة