العراقي كريم ناصر في ديوانه «يا فضائي لا أريد إفناءك»: لغة رمزية تختلق عوالم مدهشة

«سأنتظرك في الحديقة
ذلك بيتك وهذا كهف لآلئ
حيثما تشط التلال تقع الأقمار».
إن الاحتفاء بقصائد الشاعر كريم ناصر أو الاجتهاد في اكتشافها إنّما هو في الواقع تقدير لمغامر يجازف بوعي ممسكاً باللغة، لا لتشريحها من حيث هي مادة لسانية، بل لتجسيدها في الشعر كأداة مؤثّرة في معطيات الحياة وفي دائرة التعامل الحضاري، فالابتكار يبقى من ضمن اشتغالات الشاعر والغاية هنا لا تتعدّى هذا المفهوم، فهو لا يسمح لمنجزه الشعري بأن يخضع إلى صيغة نمطية سهلة، لذا فعلينا نحن كقراء أن نبحث في داخل نصه الشعري عن مفاتيح كلماته الإغوائية للإحاطة بالمعاني وللوصول إلى عالمها الغريب، غير أننا رغم ذلك نجد بعض الصعوبة، وهذا ما يجعلنا نرجع إلى نقطة البداية في مجال التأويل، فالقصائد وإن كانت صعبة لكنها تبقى وثيقة الصلة بالواقع، فالشاعر مهما يبحث عن شمس دافئة في عالم الحيوان والكهف والبحر والبر الذي يشدّد عليه في أغلب قصائدة إنما يريد بذلك أن يخرج من عالم مملوء بالتشوهات إلى عالم أكثر رحابة.

جماليات القصيدة

تبقى صياغة الشاعر محيّرة وصارمة ومستفزّة، والجانب الجمالي الذي يصوغه في كل مقطع يجعل القارئ يدرك أن قيمة كل أدب إنما تتأتى من قدرته على إنجاز وظيفته الدلالية، ففي قصيدة «إناث الحكايات» يقصد التمرد والتحرر من ظلام القيود فأيّ جمال يصبو إليه الشاعر وهو يجلب شبيهه..
«هكذا سأجلب شبيهك ليركل الموجة
كنجم يسكبُ زئبقه»
لم تكن قصائد كريم ناصر سهلة المنال، وربما يجد القارئ عناءً كبيراً في تفكيكها وإعادة صياغتها، فقصيدة مثل»العصب السائب» لا يفهمها القارئ العادي ما لم يملك آلية تساعده على خلخلة اللغة أو البحث عن طريقة اكتشاف الشاعر، أي معرفة ما يحمله من عدّة لغوية، نحن نرى أن شعره أقرب ما يكون إلى الشعر الانساني، إنه شاعر الرمزية فلن يتغاضى عن رمزيته وأن إخلاصه لفنه الشعري يمثل هدفاً يرمي من ورائه إلى كشف الحقائق ..
«كلّما خرجت لأطلق غزالة، زلقت قدمي لتطأ حصاناً
أيها العصب السائب أيها الخبيث،
العصا التي تضرب بها ستُنغص عليك هناءتك».

اللغة والصورة الشعرية

إذاً فوراء كل قراءة متكاملة يتسع الفهم بالقدر الذي يسمح بالخوض في هذا العالم المتماسك، ولا شك أن التعاضد اللغوي بطبيعته يخلق قوة متناغمة، فهضاب الشاعر بحاجة إلى روح هلامية لا تتكئ على شيء معين..
«كل يوم يركل الغاشم الإيل ويكسر الجرار بهديره،
لا أكاد أرى بيت النجوم على الربوة
يا هضابي لا أريد إفناءك
أحتاج إلى رهافة الروح لأعتق قطيع ظباء»
فالصورة الشعرية رصينة ومهيبة، ولا يمكن أن تفقد دلالتها هكذا، وإذا انزاحت أو تطرّفت فذلك إلّا لتقوم بإعادة بناء نفسها تلقائياً، فكل ما يريده الشاعر هنا هو الابحار في عالمه والذهاب إلى الأعماق بلغته المختزلة أصلاً والتي لا يغلب عليها التكرار ولا يغلّفها الحشو، فالحيوانات كما ذكرنا سابقاً حاضرة وبقوّة في كل القصائد، فتتنّوع وظائفها على حسب كل فصيلة..
«كأنّ النسور نمارق حدائق،
كأن قن الدجاج بيت خفافيش».

نوافذ تتنفس بالبهاء

تحت الفصل المعنون «نوافذ» يسرد الشاعر حياةً ثريةً متنوعة تسمح للكثير من المقاربات أن تدخل في نطاق شعره، علماً أن معظم قصائد نوافذه تظهر قصيرة، ولكن غرابة التصوير في كل مقطع تأخذنا إلى واقع مهيب وكعادته يرتقي بالشكل التعبيري إلى أقصى حدوده، فها هو ينشر ضوء قنديله لينير الطريق ..
«أيها البارع، أيها البطل
إنني أعطيك القنديل،
ولا أجاهر بقبعة الملكوت»
لا ينتهي الشوق، ولا تكاد تنتهي الحياة ولا تنمو إلّا في دهشة معانيها، ففي المقطع «فيضان» يقول:
«إقتادنا الشوق كريح تكدُح في الفيضان
يا طفلنا الوحيد
لا ترث شراعاً لا يرتق فتوق نهارك»
وربما يعزّي نفسه في مصاب ولد أو طائر أو وطن، ولكنه يستأنف حياته هكذا رغم الموت المحدق بالخليقة ..
«كم طائر لم يجد لانخفاضه سبباً
كم ولدِ مات»…
«بحارة قطعوا أميالاً لقتلك،
وصيادو قنافذ ينهبون اللهب النقي
سأزعق بالغيم للذود عن حياض الوطن».

الحرية

ولأنّ مبادئه تفرض عليه فلسفة ما، هي في الأساس تمثل تاريخه، فلذلك نجده دوماً ينبذ فكرة الانقياد إلى الأشياء..
«لا تتبع نجمة لا تؤمّ المراكب»

غواية الدلالة

هكذا يفاجئ الشاعر كريم ناصر المتلقي بعبارات مستفزّة، لأنه لا يقبل بالعادي والمستهلك والجاهز، فيتخطّى المعنى الأصلي إلى حد التضحية بالمضمون وفقدان الدلالة، والقصد هنا يريدنا أن نكتشف ذلك بأنفسنا لنأخذ بعض المقاطع التي غامر الشاعر بإخفاء دلالاتها ..
«مثلما لم تنقص موجة لم تنقص حديقة،
لا نعلم لماذا لا يطفحُ الإناء في الحر؟»…
«لا تنقش قلبك على صخرة،
ما أحسن حظك
لقد فات النسر أن ينتف شعرك على الخشب»
أما هنا فتتداخل الرموز وتتعقد أيضاً حين يقول:
«لا تصيخ الصواعق إلى السماء..
كيف يخب الحصان على الحصى؟
يا ليتك تكسر شوكة الديك
ما نفع أن تنفخ في قصبة مزمار؟».

أفق التأويل

أيّ خيال يجرفنا ونحن نشهد الدهشة – الحياة التي تأتي بعد الموت ..
«سيُصلب عود الولد المرهف
ستتصاعد النغمات في بركة ماء»…
«عندما سمعنا عزيف الرمال لذنا بالماء..
يا ويلنا لا نكاد نسير
نحن لنا الله، لنا الحدائق»
وهنا يوجه الشاعر دعوته لنبذ الانقياد والانصياع للأوامر ..
«ألقوا القباطنة إلى الأرض»
السديم وشرارة النيزك..
هيا بكم نشق الطريق».
أمّا المحبوبة فلم تفلت من كهفه، فأطّرها في شبق الذاكرة فسال لبنه:
«كوت أعصابي حلمة غزالة»
ولهذا سال من جلدي لبن شوك أبيض»
ويقول في «تباريح الشوق»
«كأنّ منقار الطائر أحجية،
أول ما نطق الببغاء، غمرني الشوق
لسيفي الورقي رغوة
لقلبي طوافة».
وفضلاً عن ذلك فقد استطاع الشاعر التقاط مشكلات الواقع بعينها وتجلياتها وحساسيتها، وضمّنَ الأحداث التراجيدية صوراً ذهنية لم تزل قائمة في المخيلة التي ترفض نسيانها، هذه المخيلة الفذّة التي أعادت تشكيل كل حدث بتقنية لغوية عالية في عملية خلق فني لحثّ القارئ ليوغل في أعماق النفس الإنسانية والوجدان والأحلام، هكذا يطلّ شاعر الرمزية كريم ناصر من نوافذه الشعرية ليركب عوالم لا نهائية.
…….
*كريم ناصر .. شاعر عراقي من مواليد محافظة الكوت، يقيم في هولندا منذ العام 1989. وأصدر مجموعاته الشعرية التالية .. بين حدود النفي. دار الأهالي. دمشق 1988/ برادة الحديد. أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان 2000/أرخبيل الحدائق. أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان 2006/نبتة يدي غابة شوكية. در التوحيدي، الرباط المغرب 2013/ياهضابي لا أريد افناءك. دار مخطوطات للنشر، هولندا 2015/لا تلومي الوردة لا تأكلي العوسج. دار المخطوطات للنشر، هولندا 2017.